مصباح المنهاج - كتاب الطهارة المجلد 9

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

* الجزء التاسع

الفصل الثاني: في كيفية سراية النجاسة إلى الملاقي

بسم الله الرحمن الرحيم

(5) (5) (5) (مسألة 19): الجسم الطاهر إذا لاقى الجسم النجس لا تسري النجاسة إليه إلا إذا كان في أحدهما رطوبة مسرية (1)،

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(1) فلا تنتقل مع الجفاف بلا إشكال ظاهر، ويظهر من بعض كلماتهم المفروغية عنه، بل أدعي الإجماع عليه في المختلف وكشف اللثام ومحكي الذخيرة والدلائل وغيرها. وهو المناسب لارتكازيات المتشرعة وسيرتهم التي لا يبعد ابتناؤها على قياس سريان النجاسة بسريان القذارات العرفية.

مضافاً إلى صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الفراش يصيبه الاحتلام كيف يصنع به؟ قال: اغسله، وإن لم تفعله فلا تنام عليه، فإن نمت عليه وأنت رطب الجسد فاغسل ما أصاب من جسدك»(1) وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «سألته عن المكان يغتسل فيه من الجنابة أو يبال فيه أيصلح أن يفرش. فقال: نعم إذا

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 9.

ص: 5

كان جافاً»(1) وصحيحه الثالث عنه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يمر بالمكان فيه العذرة فتهب الريح فتسفي عليه من العذرة فيصيب ثوبه ورأسه يصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال: نعم ينفضه ويصلي فلا بأس»(2) ونحوها غيرها. وقد ذكر جملة منها في الباب السادس والعشرين من أبواب النجاسات من الوسائل. وهي وإن وردت في موارد خاصة، إلا أن استفادة العموم بضميمة المناسبات الارتكازية قريبة جداً.

بل قد يستفاد العموم من صحيح محمد بن مسلم: «كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) إذ مر على عذرة يابسة فوطأ عليها، فأصاب ثوبه. فقلت: جعلت فداك قد وطأت على عذرة فأصابت ثوبك. فقال: أليس هي يابسة؟ فقلت: بلى، فقال: لا بأس. إن الأرض يطهر بعضها بعضاً»(3). بتقريب: أن مقتضى عموم التعليل عدم البأس بكل يابس. بل هو صريح موثق عبد الله بن بكير: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يبول ولا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط. قال: كل شيء يابس زكي [ذكي. يب]»(4).

اللهم إلا أن يقال: لم يتضح ورود قوله (عليه السلام) في الصحيح: «أليس هي يابسة؟» في مقام التعليل لتقريب الحكم للسائل وتوضيح وجهه له، بل لعله وارد لمجرد تحديد مورد السؤال لبيان حكمه، الذي هو مقتضى الجمود على السؤال. على أن قوله (عليه السلام) بعد ذلك «إن الأرض يطهر بعضها بعضاً» ظاهر في تعليل نفي البأس بمطهرية الأرض المناسب للتنجس بالملاقاة ولو مع الجفاف. ومجرد امتناع الالتزام بذلك، لقصور مطهرية الأرض عن الثوب - خصوصاً مع عدم فرض مسح الثوب بالأرض -

لا يوجب ظهور الصحيح في المطلوب ونهوضه بالاستدلال عليه. بل يلزم البناء على إجماله حينئذ.

وأما الموثق فالاستدلال به موقوف على أن المراد به الكناية عن عدم سريان

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 11، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 31 من أحكام الخلوة حديث: 5.

ص: 6

النجاسة من الذكر لغيره، لا طهارة الذكر بالتجفيف، كما عن بعض العامة، إذ لا قائل بالعموم المذكور حينئذ حتى منهم، وإنما خصوه ببعض النجاسات، بخلاف ما لو حمل على الأول. ومن ثم لا يبعد إرادته. لكن في كفاية ذلك في نهوض الموثق بالاستدلال في المقام إشكال بعد عدم الإشارة فيه للملاقي، وإنما اقتصر فيه على ذكر الذكر. فلاحظ.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن إطلاقات الأمر بالغسل بإصابة النجاسة تقصر عن صورة الجفاف، لأن الغسل عبارة عن إزالة الأثر، ولا يتحقق الأثر إلا مع الرطوبة المسرية.

وفيه: أن الظاهر عدم توقف صدق الغسل على إزالة الأثر، إذ لا إشكال في صدقه مع عدم وجود أثر في المغسول، ومع وجوده وعدم زواله بالغسل. ولاسيما أن الكلام إنما هو في اعتبار لزوم التأثير في التنجيس عند الملاقاة، وإن ذهب الأثر بالجفاف قبل الغسل، وأن المراد بالأثر ما يعمّ رطوبة الماء التي لا تزول بالغسل بل تتأكد. مع أنه لو تم كفى في الأثر النجاسة الشرعية، ولذا لا إشكال في صدق الغسل المطهر مع رطوبة المتنجس المغسول وجفاف النجس عند الملاقاة، مع أن الأثر الخارجي حينئذ في النجس لا في المتنجس، وليس في المتنجس إلا النجاسة، فإذا فرض أن مقتضى إطلاق أدلة الانفعال حصول النجاسة مع الجفاف صدق الغسل المطهر بلحاظ إزالة النجاسة المذكورة.

فالعمدة في وجه اعتبار الرطوبة المسرية ما تقدم. وبه يخرج عن إطلاقات الانفعال بالمماسة لو تمت. بل هو موجب لانصرافها لصورة الرطوبة بنحو يمنع من ظهورها في العموم.

هذا وقد تقدم في المسألة السادسة والسبعين عند الكلام في غسل مس الميت استثناء بعضهم ملاقاة الميتة، والحكم بنجاسة الملاقي مع الجفاف، وتقدم ضعفه.

بقي شيء: وهو أن المشهور بين الأصحاب (رضي الله عنهم) استحباب رش الثوب

ص: 7

ونضحه بالماء عند ملاقاة الحيوانات النجسة مع الجفاف. لجملة من النصوص، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله، فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، فإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه. إلا أن يكون فيه أثر فيغسله»(1) ومرسل جرير: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا مس ثوبك كلب فإن كان يابساً فانضحه، وإن كان رطباً فاغسله»(2) وغيرهما. بل في المبسوط: «وكل نجاسة أصابت الثوب أو البدن وكانت يابسة لا يجب غسلهما، وإنما يستحب مسح اليد بالتراب أو نضح الثوب».

لكن ظاهر أو صريح المقنعة والنهاية والوسيلة وجوب النضح في الثوب في مسّ جملة من النجاسات مع الجفاف، ووجوب مسح اليد أخذاً بظاهر الأمر. وفيه: أنه يظهر عدم النضح من عدم التنبيه عليه في جملة من النصوص، ومنها بعض النصوص المتقدمة عند الكلام في اعتبار الرطوبة في الانفعال مع شدة الحاجة إليه لو كان واجباً. بل هو ظاهر الأمر بالمضي في الصلاة في صحيح علي بن جعفر المتقدم، حيث يصلح ذلك قرينة على حمل الأمر به في النصوص على الاستحباب. ولاسيما بملاحظة الارتكاز المتقدم على عدم الانفعال مع الجفاف، بضميمة ما لعله المفروغ عنه بينهم من عدم مانعية شيء غير النجاسة.

وأما المسح بالتراب ففي الشرايع والمنتهى أنه لم يثبت، وفي الجواهر: «ولم يثبت ما يدل على استحبابه، فضلاً عن وجوبه، كما اعترف به جماعة». نعم في خبر خالد القلانسي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ألقى الذمي فيصافحني. قال: امسحها بالتراب. قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها»(3).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 8

يعني: تنتقل من أحدهما إلى الآخر بمجرد الملاقاة (1)، فإذا كانا يابسين

لكنه - مع ضعف سنده، وابتنائه على نجاسة الذمي، واختصاصه ببعض ما ذكروه - إن حمل على صورة الجفاف لم يناسب الأمر بالغسل في مصافحة الناصب، وإن حمل على صورة الرطوبة لم ينهض بالاستدلال للمدعى. ومن ثم يتعين حمله على الاستحباب تنفيراً عنهم وتنزهاً عن أثر مصافحتهم، نظير ما تقدم عند الكلام في نجاسة الكافر جواباً عن نصوص مصافحته. فراجع.

هذا مضافاً في الأمرين - وهما نضح الثوب بالماء ومسح الجسد بالتراب - إلى سيرة المتشرعة، لظهور أن مسّ النجس مع الجفاف مورد للابتلاء العام من صدر الإسلام فلو كان الواجب فيه أحد الأمرين لظهر وبان وجرت عليه سيرة المتشرعة من الصدر الأول، بنحو لا يخفى على الأصحاب حتى كان المشهور بينهم عدم وجوبهما، وجرت سيرة المتشرعة تبعاً لهم على تركهما.

ومن ثم قد يحمل كلام من تقدم على الاستحباب حملاً للوجوب في كلام بعضهم على ما يعم الاستحباب، كما قد يستعمل في النصوص. وإن كان ذلك يصعب في كلام ابن حمزة في الوسيلة. ولعله لذا كان ظاهر المعتبر أن استحباب الرش مع الجفاف إجماعي، كالنجاسة مع الرطوبة، حيث قال: «إذا لاقى الكلب والخنزير والكافر المحكوم بنجاسة عينه ثوباً أو جسداً وهو رطب غسل موضع الملاقاة وجوباً، وإن كان يابساً رش الثوب بالماء استحباباً. وهو مذهب علمائنا أجمع...». فلاحظ.

(1) كما في الجواهر حاكياً عن منظومة السيد الطباطبائي التصريح به، مستدلاً عليه بصحيح البقباق: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، وإن مسه جافاً فاصبب عليه الماء»(1). وكأنه لظهور الإصابة في الانتقال الدفعي المحسوس، الذي يكون في الرطوبة المسرية بالمعنى المتقدم. أما الرطوبة غير

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 9

أو نديين جافين لم يتنجس الطاهر بالملاقاة وكذا لو كان أحدهما مائعاً بلا رطوبة (1)، كالذهب والفضة ونحوهما من الفلزات فإنها إذا أذيبت في ظرف نجس لا تنجس.

المسرية فهي تنتقل تدريجاً بنحو لا يحس إلا من طريق الأثر، وهو ترطب الملاقي.

مضافاً إلى ما هو المرتكز من أن الانفعال مع الرطوبة إنما هو لنجاسة الرطوبة المنتقلة وانفعالها، وذلك إنما يكون في الرطوبة المسرية، التي هي عبارة عن جسم قائم بنفسه محسوس عرفاً نجس في نفسه، أما الرطوبة غير المسرية فليس لها وجود عرفي صالح للاتصاف بالنجاسة، بل هو من سنخ العرض غير المدرك عرفاً إلا في موضوعه من دون أن يكون لها وجود عرفي، وإن كانت هي جسماً دقة، لعدم الاعتداد بذلك في الحكم بالنجاسة. ولاسيما بملاحظة السيرة العملية، لبناء المتشرعة بمقتضى ارتكازياتهم على طهارة الأجسام الرطبة بالرطوبة المذكورة من دون نظر لمنشئها.

وبذلك يتعين تنزيل الإطلاقات المتضمنة للانفعال بالملاقاة أو بالملاقاة مع الرطوبة على خصوص صورة الرطوبة المسرية، كما يناسبه - في الجملة - مقابلة الرطوبة بالجفاف في بعض النصوص، لصدق الجفاف مع الرطوبة المسرية. نعم قد لا يصدق به اليبس الذي تضمنته بعض النصوص. لكن لابد من رفع اليد عنه بما سبق. ولا أقل من عدم صلوحه لرفع اليد عنه. فيتعين الرجوع مع التعارض للأصل، وهو يقتضي الطهارة. فلاحظ.

(1) لقضاء المناسبات الارتكازية بعدم الانفعال في مثل الفلزات الذائبة بالأصل - كالزئبق - أو بالنار، كالذهب.

وقد يستفاد من صحيح البقباق المتقدم، بدعوى ظهوره في اعتبار العلوق والتلويث في التنجيس. لكن الفلزات قد تعلق ببعض الأجسام، فالذهب المائع قد يعلق بالنحاس، كما قد يعلق الرصاص المائع بكثير من الأجسام. فالعمدة ما سبق.

ص: 10

(11) (مسألة 20) الفراش الموضوع في أرض السرداب إذا كانت الأرض نجسة لا ينجس وإن سرت رطوبة الأرض له (1)، وصار ثقيلاً بعد أن كان خفيفاً، فإن مثل هذه الرطوبة غير المسرية لا توجب سراية النجاسة. وكذلك جدران المسجد المجاور لبعض المواضع النجسة مثل الكنيف ونحوه، فإن الرطوبة السارية منها إلى الجدران ليست مسرية ولا موجبة لتنجسها وإن كانت مؤثرة في الجدار على نحو تؤدي إلى الخراب.

(مسألة 21): يشترط في سراية النجاسة في المائعات (2) أن لا يكون

هذا وقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره) إن المدار في التنجيس إن كان على الرطوبة المائية لزم عدم تنجس الدهن والزيت، ونحوهما مما يخلو عن الأجزاء المائية، ولا يمكن البناء على ذلك، وإن كان على الميعان لزم الانفعال في الفلزات. ولم يستبعد (قدس سره)

كون ذلك هو الوجه في توقف بعض السادة المعاصرين (قدس سره) في مثل الزئبق. نعم جزم شيخنا (قدس سره) بعد ذلك بالانفعال في مثل الدهن والزيت دون مثل الفلزات، وإن خفي عليه وجه الفرق بينهما، لعدم وضوح المدار في الانفعال عنده.

لكن لا مجال للبناء على أن المدار على الرطوبة المائية بعد ورود النصوص بانفعال الدهن والزيت ومطابقته للمرتكزات. كما لا مجال للبناء على أن المدار على الميعان بعد عدم الدليل عليه ومنافاته للمرتكزات، بل يتعين كون المدار على الرطوبة - بالمعنى المقابل للجفاف - وإن لم تكن مائية.

(1) إلا أن تكون رطوبة الأرض كثيرة، بحيث يصدق البلل عرفاً. كل ذلك لما تقدم.

(2) يظهر الكلام فيه مما تقدم في أوائل الفصل الثاني من مبحث أحكام المياه عند الكلام في انفعال الماء القليل بالملاقاة، لعدم الفرق بين الماء القليل وبقية المايعات

ص: 11

المائع متدافعاً إلى النجاسة وإلا اختصت النجاسة بموضع الملاقاة، ولا تسري إلى ما اتصل به من الأجزاء، فإذا صب الماء من الإبريق على شيء نجس لا تسري النجاسة إلى العمود (1)، فضلاً عما في الإبريق. وكذا الحكم لو كان التدافع من الأسفل إلى الأعلى كما في الفوارة.

(مسألة 22): الأجسام الجامدة إذا لاقت النجاسة مع الرطوبة المسرية تنجس موضع الاتصال، أما غيره من الأجزاء المجاورة له فلا تسري النجاسة إليه وإن كانت الرطوبة المسرية مستوعبة للجسم (2)، فالخيار أو البطيخ أو

بعد فرض عدم اعتصامه بالكرية ونحوها.

(1) وهو الماء المتدافع بين فتحة الإبريق وموضع النجاسة.

(2) بلا إشكال ظاهر لعدم الدليل على سريان النجاسة في تمام الجسم حينئذ، بل هو بعيد عن المرتكزات جداً إن لم يكن خلاف المقطوع به منها.

كما أنه خلاف المقطوع به من السيرة، لكثرة الابتلاء بمثل الخروج من الحمام والسير في الأرض النجسة مع استيعاب الرطوبة المسرية لتمام البدن، ولا إشكال في اكتفائهم بتطهير القدمين حينئذ. وكذا لا إشكال في اكتفائهم بتطهير موضع الملاقاة من الثلج واللحم والخضروات والفواكه المقشورة ونحوها مع استيعاب الرطوبة المسرية لجميع سطوحها وأعماقها... إلى غير ذلك.

كما قد تضمنت جملة من النصوص الاكتفاء عند وقوع النجاسة في السمن والعسل الجامدين بإلقائها وما حولها(1) مع استيعاب الرطوبة المسرية لجميع أجزائها.

نعم لا إشكال في استيعاب النجاسة لتمام أجزاء الجسم المائع بملاقاة النجاسة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 12

نحوهما إذا لاقته النجاسة يتنجس موضع الاتصال منه لا غير، وكذلك بدن الإنسان إذا كان عليه عرق ولو كان كثيراً، فإنه إذا لاقى النجاسة تنجس الموضع الملاقي لا غير، إلا أن يجري العرق المتنجس على الموضع الآخر فإنه ينجسه أيضاً (1).

(مسألة 23): يشترط في سراية النجاسة في المائعات أن لا يكون المائع غليظاً وإلا اختصت بموضع الملاقاة لا غير (2)، فالدبس الغليظ إذا أصابته النجاسة لم تسر النجاسة إلى تمام أجزائه، بل يتنجس موضع الاتصال لا غير وكذا الحكم في اللبن الغليظ (3). نعم إذا كان المائع رقيقاً سرت النجاسة

لبعض سطوحه - كالماء المطلق والمضاف والزيت - تبعاً للارتكاز. بل هو المقطوع به من النصوص والإجماع والسيرة.

(1) بناءً على تنجيس المتنجس - كما يأتي - لأن المنجس حينئذ هو ملاقاة العرق المتنجس، لا ملاقاة النجاسة التي نجست العرق. وكذا تسري النجاسة إذا كانت الرطوبة كثيرة لها وجود متميز عن الجسم بحيث يصدق عليها الماء، فإنه حينئذ يتعين سريان النجاسة في تمام سطوحها، لما سبق في المايع. لكن سريان النجاسة حينئذ للجسم الذي تحتها بتوسط ملاقاتها، فيبتني على تنجيس المتنجس أيضاً.

(2) بلا إشكال ظاهر. والنصوص به مستفيضة، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فإن كان جامداً فألقها وما يليها، وكل ما بقي، وإن كان ذائباً فلا تأكله، واستصبح به. والزيت مثل ذلك»(1) ونحوه غيره.

(3) الظاهر أن المراد به اللبن الرائب المنتزع الكثير من مائه. أما الحليب فلا

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 13

إلى تمام أجزائه (1) كالسمن والعسل في أيام الصيف، بخلاف أيام البرد فإن الغلظ مانع من سراية النجاسة إلى تمام الأجزاء، والحد في الغلظ، والرقة أمر عرفي، فما يستقذر (2) جميعه بمجرد ملاقاة القذارة لجزء منه فجميعه

يغلظ إلا أن يتجمد. والظاهر عدم نظره (قدس سره) له.

(1) بلا إشكال أيضاً. ويقتضيه النصوص المشار إليها وغيرها مما ورد في الماء القليل وغيره.

هذا وقد اختلفت النصوص في الزيت، فظاهر صحيح زرارة المتقدم جريان التفصيل المتقدم فيه. بل هو صريح معتبر إسماعيل بن عبد الخالق(1) وغيره.

لكن الجمود في الزيت نادر جداً، كما يناسبه صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قلت: جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل. فقال: أما السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله. والزيت يستصبح به»(2). فإن صدره محمول على الشتاء بقرينة التفصيل في النصوص الأخر، فيكون مقتضى ذيله نجاسة الزيت بتمامه حتى في الشتاء، ولا وجه له إلا ما ذكرناه من ندرة جموده. ونحوه في ذلك غيره. فلابد من حمل نصوص التفصيل في الزيت على فرض جموده وإن كان نادراً.

(2) كأن الوجه في جعل المعيار الاستقذار هو دعوى أن المنسبق من جعل المدار على الغلظة والرقة ابتناء المعيار في الانفعال بالنجاسة شرعاً على ما هو المعيار في الاستقذار عند العرف.

لكن لا قرينة على ذلك. ولاسيما أن الاستقذار العرفي قد يختلف باختلاف كمية الملاقي، فإذا كان غليظاً في الجملة لا يسري الاستقذار مع الكثرة، كما قد يختلف باختلاف كمية النجس الملاقى، فالمائع الكثير قد يستقذر بانغماس الحيوان الميت بتمامه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

ص: 14

فيه ولا يستقذر بانغماس جزء صغير منه، ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على ذلك في الانفعال بالنجاسة.

على أن النصوص لم تتعرض لعنوان الغلظ والرقة، وإنما تضمنت عنواني الجمود والذوبان، والمفهوم عرفاً من الجمود التصلب والتماسك، كما صرح بذلك في اللغة. ويقابله الذوبان ولو مع الغلظة والثخانة، ويؤكد ذلك ما في معتبر إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث قال فيه: «أما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له، فيبتاع للسراج. وأما الأكل فلا. وأما السمن فإن كان ذائباً فهو كذلك، وإن كان جامداً والفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها وما حولها، ثم لا بأس به. والعسل كذلك إن كان جامداً»(1). فإن اعتبار كون الفأرة في أعلى السمن وإن أمكن أن يكون من أجل إحراز سبق الجمود على وقوع الفأرة، إذ مع رؤيتها في الأسفل قد يكون وقوعها سابقاً على الجمود، فينجس تمام السمن قبل أن ينجمد. إلا أن إحراز ذلك إنما يحتاج إليه فيما إذا كان المانع من الانفعال هو الجمود المانع من رسوب الفأرة في أسفل السمن، إذ لو كان المانع من الانفعال أعم من ذلك فوجودها في الأسفل لا يستلزم نجاسة السمن بتمامه، ومع احتمال طهارته فالأصل الطهارة. بل فرض بقائها في أعلى السمن ملازم لكون الجمود بمرتبة تمنع من رسوب الفأرة.

وهو المناسب لما تضمنه هو وغيره من إلقاء ما حول النجاسة. لظهوره في أن ما حولها يتميز بعد رفعها، وذلد لا يكون إلا في الجمود بالنحو المذكور.

نعم قد لا يناسب ذلك ما في صحيح الحلبي. قال (عليه السلام) فيه: «إن كان سمناً أو عسلاً أو زيتاً، فإنه ربما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله وكله، وإن كان الصيف فارفعه حتى تسرج به...»(2). لأن السمن في الشتاء وإن كان ينجمد بالنحو المذكور، إلا أن الزيت والعسل كثيراً ما لا يبلغان ذلك. لكن لابد حمله على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4.

ص: 15

(16) نجس، وما لا يكون كذلك اختصت النجاسة بموضع الاتصال منه،

ومع الشك يبنى على الطهارة (1).

(مسألة 24): الأقوى أن المتنجس كالنجس ينجس ما يلاقيه مع الرطوبة المسرية (2)

خصوص ما إذا كانا جامدين، للتقييد بذلك فيهما في غير واحد من النصوص، كمعتبر عبد الخالق المتقدم، وصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه، فإن كان جامداً فألقها وما يليها، وإن كان ذائباً فلا تأكله واستصبح به. والزيت مثل ذلك»(1) وغيرهما. ولعله لندرة الجمود في الزيت أطلق في جملة من النصوص الاستصباح به وعدم أكله، ومنها معتبر عبد الخالق المتقدم، كما أشرنا إليه.

(1) إذ بعد عدم العموم الذي يكون مرجعاً في الانفعال يتعين الرجوع للأصل، وهو يقتضي الطهارة.

(2) على المشهور شهرة عظيمة، على ما قيل. بل نسبت دعوى الإجماع عليه للقاضي في الجواهر والمحقق في المعتبر والفاضل الهندي في كشف اللثام وجماعة من متأخري المتأخرين، بل حكي عن جماعة منهم دعوى الضرورة عليه من المذهب، بل الدين.

ويقتضيه جملة من النصوص منها: ما دل بعمومه أو بصراحته على انفعال الماء القليل بالمتنجس، التي تقدمت في أول الكلام في الفصل الثاني من مباحث المياه. وهي وإن اختصت بالماء، إلا أنه لا ينبغي التأمل في إلغاء خصوصيته عرفاً. بل غيره أولى منه بالانفعال لما هو المتركز من أولويته بعدم الانفعال بعد كونه أظهر المطهرات.

ومثلها في ذلك النصوص التي تقدم في فصل الماء المستعمل الاستدلال بها على نجاسة ماء الغسالة، فإنه وإن تقدم الإشكال في دلالة بعضها، إلا أن منشأ الإشكال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 2.

ص: 16

في جملة منها عدم وضوح كون موردها ماء الغسالة، بل لعله الماء الملاقي، وعلى كل حال تنهض بالاستدلال في المقام، إذ لو كان موردها الماء الملاقي جرى فيها ما تقدم في نصوص انفعال الماء القليل المتنجس، وإن كان موردها ماء الغسالة فهو من أفراد الماء الملاقي، بل من أخفاها، حيث ذهب بعضهم لطهارته استثناءً منها. فراجع. نعم يأتي من بعض مشايخنا خروجها عن محل الكلام، ويأتي الكلام فيه.

ومنها: النصوص الكثيرة الواردة في أهل الكتاب المانعة أو المرخصة في مباشرتهم أو مباشرة الثياب ونحوها مما تجري عليه أيديهم، والتي أشير فيها إلى ابتلائهم بالنجاسات، كالخمر والميتة، بنحو يظهر في المفروغية عن تنجيسهم لما يباشرونه بسبب تنجسهم بالنجاسات المذكورة، وقد تقدم الكلام فيها عند الكلام في نجاسة أهل الكتاب. فراجع وتأمل.

ومنها: النصوص الكثيرة الواردة في الأواني، مثل ما تضمن النهي عن آنية أهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة أو لحم الخنزير أو يشربون فيها الخمر(1) ، ومنها ما تقدم عند الكلام في نجاسة الكافر، وما تضمن غسل الإناء من سؤر الكلب والخنزير(2) ولموت الجرذ(3). لوضوح أن الإناء حيث لا يستعمل فيما يشترط فيه الطهارة، فلابد من كون الأمر يغسله لتجنب انفعال ما يجعل فيه من الماء والطعام ونحوها.

ومثلها في ذلك ما تضمن الأمر بغسل الإناء القذر وأواني الخمر(4) ولا مجال لحمله على خصوص ما بقي فيه أثر النجاسة، لمخالفته للإطلاق. على أنه لا يناسب الأمر بتثليث الغسلات، حيث تكفي الغسلة الأولى في زوال أثر النجاسة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 72 من أبواب النجاسات.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الأسئار.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51، 53 من أبواب النجاسات.

ص: 17

وأما ما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من أن الأمر بغسلها قد يكون لحرمة استعمالها حال نجاستها ومبغوضية ذلك، لا إرشاداً لانفعال ما يلاقيه. فهو كما ترى! حيث لا منشأ لاحتمال حرمة استعمال الإناء النجس، ولا يمكن البناء على ذلك، بل يتعين كون منشأ الحاجة للتطهير هو تجنب انفعال الملاقي لها.

ومنها: ما ورد في غسل الفراش والنهي عن تعريضه للنجاسة(1). لوضوح أنه - كالإناء - لا يستعمل فيما يشترط فيه الطهارة، فلابد من كون وجه ذلك تجنب انفعال ملاقيه به.

نعم قد يشكل بأنه حيث كان موضوعه الفراش الذي يصيبه البول فملاقاته مستلزمة لملاقاة البول الذي أصابه، فالانفعال إنما يكون بملاقاة النجس لا المتنجس.

اللهم إلا أن يقال: أن البول - خصوصاً ما كان منه رقيقاً - بعد جفافه ليس له وجود عرفي ليكون هو المتنجس للملاقي ولذا يطهر بالشمس لو أصاب الأرض. بل في صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن المكان يغتسل فيه من الجنابة أو يبال فيه أيصلح أن يفرش؟ فقال: نعم إذا كان جافاً»(2). لظهور أن الاغتسال من الجنابة إنما يقتضي تعرض المكان للبول مقدمة للغسل ولملاقاة ماء تطهير الفرج من المني الموجب لارتفاع أثر البول من المكان، فالذي يلاقيه الفراش هو المتنجس لا عين النجاسة ولا أثرها.

ومنها: موثق عمار الوارد في مطهرية الشمس للمكان المتنجس بالبول أو غيره، حيث قال (عليه السلام): «وإن كانت رجلك رطبة وجبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع حتى ييبس، وإن كان غير الشمس

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب النجاسات، وباب: 26 منها حديث: 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 11.

ص: 18

أصابه حتى ييبس فإنه لا يجوز ذلك»(1). لظهوره في انفعال البدن الرطب بالموضع المتنجس إذا لم يجف أو جفّ بغير الشمس.

ومنها: موثقه الآخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) في من يجد في إنائه فأرة وقد توضأ من ذلك الإناء أو اغتسل أو غسل ثيابه به، قال (عليه السلام): «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعدما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء، يعيد الوضوء والصلاة»(2). لصراحته في تنجيس الماء المتنجس بالفأرة.

ومنها: صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلي عليه؟ قال: إذا يبست فلا بأس»(3) ونحوه موثق عمار(4). لظهور أنه لا يراد بالماء القذر إلا المتنجس فإناطة الصلاة عليه بالجفاف كالصريح في منجسية الماء المذكور لما يلاقيه.

ومنها: صحيح المعلى بن خنيس: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء أمر عليه حافياً؟ قال (عليه السلام): «أليس وراءه شيء جاف؟ قلت: بلى. قال: فلا بأس إن الأرض يطهر بعضهاً بعضاً»(5). فإنه كالصريح في تنجيس الماء المتنجس بالخنزير لباطن القدم.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) خروج موثق عمار الثاني وما بعده عن محل الكلام، إذ الكلام إنما هو في منجسية المتنجس بعد جفافه من أثر النجاسة، لا مع بقاء رطوبته المتنجسة بها، إذ لا قائل بعدم منجسيته حينئذ. ولو تم ذلك جرى في نصوص تنجيس ماء الغسالة، كما أشرنا إليه آنفاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 43 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 19

لكن لم يتضح مأخذ ما ذكره من كلمات من نسب له القول بعدم تنجيس المتنجس. ولو تم كان هو أولى بالإشكال، لأن خصوصية بقاء الرطوبة الأولى المتنجسة بعيدة جداً بعد فرض عدم اشتمال الرطوبة المذكورة على عين النجس، فليست الرطوبة المذكورة إلا كسائر المتنجسات. ولو فرض الجمود على مفاد الأدلة فهي كما دلت على الانفعال مع بقاء الرطوبة - كما في النصوص المذكورة - دلت على الانفعال مع جفافها، كما في النصوص الأخر، ومنها موثق عمار الأول. وكيف كان فالنصوص وافية بإثبات تنجيس المتنجس.

هذا وقد قال سيدنا المصنف (قدس سره): «مضافاً إلى استفادته مما دل على سراية نجاسة الأعيان النجسة إلى ملاقيها، فإن المرتكز في ذهن العرف أن السراية عرفاً من أحكام مطلق النجاسة، لا النجاسة الذاتية خاصة. وكما لا نحتاج إلى دليل على السراية في كل واحدة من النجاسات بالخصوص، بل يكتفي بما دل على السراية في بعضها إلغاء لخصوصية المورد عرفاً، كذلك المقام». وما ذكره (قدس سره) وإن كان قريباً، ولعله عليه تبتني مفروغية الأصحاب عن الانفعال، كما يأتي، إلا أن في بلوغه مرتبة الاستدلال إشكال. ولاسيما بملاحظة ارتكاز أن نجاسة الأعيان النجسة أشد وآكد من نجاسة المتنجس بها، حيث يمكن مع ذلك السريان فيها دونه.

نعم يمكن تتميم الاستدلال المذكور بمعتبر معاوية بن شريح: «سأل عذافر أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضأ منه؟ قال: نعم اشرب منه وتوضأ منه. قلت له: الكلب؟ قال: لا. قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا والله إنه نجس، لا والله إنه نجس»(1) فإن تعليل نجاسة السؤر بنجاسة الكلب لا يكون ارتكازياً إلا إذا رجع إلى ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من ارتكاز أن السراية من أحكام مطلق النجاسة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من الإشكال ففيه تارة: بضعف السند، لعدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الأسئار حديث: 6.

ص: 20

ثبوت توثيق معاوية بن شريح، وأخرى: بعدم ظهوره في التعليل، بل لدفع ما توهمه السائل من كون الكلب من السباع التي حكم (عليه السلام) بطهارة سؤرها، فهو وارد لمجرد بيان أنه ليس من تلك السباع.

فيندفع بأن يمكن استفادة وثاقة معاوية من رواية ابن أبي عمير وصفوان عنه، بل من رواية البزنطي أيضاً بناء على اتحاده مع معاوية بن ميسرة، كما يناسبه رواية هذا الحديث وغيره عنهما معاً.

كما أن وروده للردع عن توهم كون الكلب من السباع التي حكم (عليه السلام) بطهارتها لا ينافي ظهوره في تعليل ما حكم به (عليه السلام) من حرمة سؤر الكلب، وبيان ما يقتضي قصور إطلاق حلية سؤر السباع عنه بسبب نجاسته، دفعاً لتوهم التنافي بين الحكمين.

وبعبارة أخرى: لما حكم (عليه السلام) بطهارة سؤر السباع ثم بنجاسة سؤر الكلب الذي هو منها توهم السائل التدافع بن الحكمين، فأراد عليه السلام ردعه عن ذلك ببيان المقتضى لنجاسة سؤر الكلب الملزم بقصور عموم حلية سؤر السباع عنه، دفعاً للتنافي المذكور، وهو راجع لتعليل الحكم بحرمة سؤر الكلب، بضميمة ارتكاز أن سؤر النجس نجس، وكل نجس حرام.

وقريب منه ذلك في صحيح البقباق: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة... فقال: لا بأس به، حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله، وأصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب أول مرة، ثم الماء»(1) فإن التمهيد للحكم بعدم الوضوء بالماء وصبه - الذي يستفاد منه نجاسته وعدم الانتفاع به - بأنه رجس نجس ظاهر في تعليله بذلك.

لكن استشكل في ذلك بعض مشايخنا تارة: بعدم وضوح ورود التمهيد المذكور في مقام التعليل، بل لا مجال للبناء على ذلك، حيث لا إشكال في عدم وجوب التعفير

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الأسئار حديث: 4.

ص: 21

لكل ملاق للنجس.

وأخرى: بأن التمهيد المذكور كما تضمن أنه نجس تضمن أنه رجس، وإطلاق النجس على المتنجس وإن كان شايعاً، إلا أن إطلاق الرجس عليه غير معهود، فلا مجال للتعدي له بمقتضى التعليل المذكور لو تم.

ويندفع الأول بأن ظاهر التمهيد لبيان الحكم بشيء كونه علة له، والمعلل في المقام هو حكم السؤر المسؤول عنه، لا حكم الإناء، وبيانه (عليه السلام) لحكم الإناء تفضل مبتدأ بعد استكمال بيان الحكم المسؤول عنه الذي سيق التعليل له.

والثاني بأن عدم معهودية استعمال الرجس في المتنجس إنما هو لعدم شيوع استعماله في النجاسة الخبيثة المعهودة، لا لأن الرجس مختص بنجس العين، والنجس أعم منه ومن المتنجس. وإلا فالرجس والنجس بمعنى واحد، وهما في أصل اللغة بمعنى الخبيث، وإطلاقهما في مورد النجاسة الخبيثة الشرعية حادث.

على أنه لو سلم اختلافهما معنى وأن الرجس أخص من النجس، فتعقيب الرجس بالنجس لابد أن يكون لكفاية النجس في التعليل، لا لكونهما معاً علة بنحو التقييد، بحيث لابد من اجتماعهما، للغوية تقييد الأخص بالأعم.

وبالجملة: الظاهر وفاء الصحيحين بالتعليل المبتني على الارتكاز الذي أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) بنحو ينهض بالاستدلال في المقام.

على أنه بعد ثبوت تنجيس المتنجس في الجملة من النصوص المتقدمة يصلح الارتكاز المذكور قرينة لإلغاء خصوصية مواردها وفهم عموم تنجيس المتنجس منها حتى لو غض النظر عن التعليل المذكور. فلاحظ.

هذا وقد ذهب الكاشاني إلى عدم تنجيس المتنجس وربما نسب للسيد المرتضى وابن إدريس وبعض متأخري المتأخرين. ولا تخلو النسبة عن إشكال أو منع.

وقد استدل (قدس سره) تارة: بالأصل، لعدم الدليل على التنجيس، ومقتضى الأصل

ص: 22

طهارة الملاقي. والأخرى: بالنصوص الدالة على عدم التنجيس.

ويظهر اندفاع الأول مما سبق، حيث تنهض النصوص السابقة بالخروج عن الأصل، وأما الثاني فلا يظهر حاله إلا بعد النظر في النصوص التي أشار إليها، والتي ذكرها غيره مستدلين بها له. وهي جملة من النصوص.

منها: صحيح العيص: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه. قال: يغسل ذكره وفخذيه. وسألته عن من مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال: لا»(1).

فإن مقتضاه عدم تنجس الثوب باليد المتنجسة بالبول عند مسح الذكر. لكن ينافي ذلك صدره المتضمن غسل للفخذين لملاقاتهما للذكر المتنجس بالبول.

ودعوى: أنه ليس المفروض في الصدر مسح الذكر بالحجر قبل عرقه مع الفخذين، بل مع سبق العرق لأن الوارد في المقام حالية، وذلك مستلزم لتنجس العرق بالبول قبل مسحه، فينجس الذكر والفخذين، بناء على ما تقدم من بعض مشايخنا - عند الكلام في موثق عمار الثاني ونحوه من نصوص النجاسة - من الاتفاق على تنجيس المتنجس قبل جفافه، وخروجه عن محل الكلام. وحينئذ لا يكون الذيل الذي فرض فيه عرق اليد بعد مسح الذكر بها منافياً للصدر.

مدفوعة أولاً: بأن ذلك مستلزم للغوية ذكر مسح الذكر، لأن العرق حينئذ يتنجس بخروج البول. وثانياً: بأن العرق مهما بلغ من الكثرة لا ينجس بتمام سطوحه بمماسة بعضه لموضع البول، ليكون منجساً للفخذين. ومن هنا كان الظاهر من السؤال هو عرق الذكر والفخذين بعد مماسة بعضها ببعض عند القيام بعد مسح الذكر، كما هو المتعارف، والواو في المقام عاطفة لا حالية، ومن هنا لا مناص عن التدافع بين الصدر والذيل. فإن كانا رواية واحدة كانت مجملة، وإن كانا روايتين -

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 وقد ذكر صدر الحديث في باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 1، وذيله في ج: 2 باب: 6 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 23

كما هو غير بعيد بلحاظ تكرار قول: «وسألته» كانتا متعارضتين وتعين تساقطهما. إلا أن يحمل الذيل حينئذ على مسح الذكر من دون بول لدفع توهم وجوب غسل اليد حينئذ.

على أنه قد يحمل الذيل - سواءً كانا رواية واحدة أم روايتين - على إصابة اليد للثوب من دون يقين بكون موضع الإصابة فيها هو الموضع الذي أصاب البول، ويكون منشأ السؤال عن ذلك توهم أن العلم الإجمالي بالنجاسة منجز لاحتمال النجاسة في ملاقي بعض أطرافه، ويكون الحكم بعدم غسل الثوب ظاهرياً لدفع الاحتمال المذكور، لا واقعياً لبيان عدم تنجيس المتنجس، فلا ينافي الصدر ويخرج عن محل الكلام. وحينئذ لا ينهض الذيل بالاستدلال، ويبقى الصدر دليلاً على التنجيس من دون معارض.

ومنها: موثق حنان بن سدير: «سمعت رجلاً سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: إني ربما بلت فلا أقدر على الماء، ويشتد ذلك عليّ. فقال: إذا بلت فامسح ذكرك بريقك، فإن وجدت شيئاً فقل: هذا من ذاك»(1).

والاستدلال به موقوف على كون موضع مسح الذكر بالريق هو موضع خروج البول منه المتنجس به، حيث يدل حينئذ على أن الريق لا ينجس بملاقاة الموضع المذكور ولا ينجس ما يصيبه من البدن والثياب. ولا شاهد على ذلك.

بل هو لا يناسب قول السائل: «ويشتد ذلك عليّ». إذ ليس منشأ الشدة هو توقع خروج البول منه، لظهور عدم الفرق في ذلك بين وجدان الماء وعدمه. ومثله خروج البلل منه من دون استبراء، بل المناسب حينئذ تنبيهه للاستبراء وإرشاده له.

ومن هنا كان الظاهر أن منشأ الشدة هو توقع نزول البلل المحكوم بالطهارة ذاتاً بلحاظ ملاقاته لمخرج البول الباقي على النجاسة بسبب عدم وجدان الماء، فيتنجس بذلك، أو مماسة موضع البول من الذكر للشاب أو الفخذين من التعرق، فينجسها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 13 من أبواب نواقص الوضوء حديث: 7.

ص: 24

وعلى كلا الاحتمالين يدل على مذهب المشهور من تنجيس المتنجس.

وحينئذ لا يصلح مسح الذكر بالريق لحلّ المشكلة إلا إذا كان الموضع الممسوح منه غير مخرج البول، حيث يبقى الريق على الطهارة، ويتردد الأثر الذي يجده في بدنه وثيابه بين أن يكون من البلل أو العرق المتنجس وأن يكون من الريق الطاهر، ويكون مقتضى الأصل طهارته.

ومنها: موثق سماعة: «قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): إني أبول ثم أتمسح بالأحجار فيجيء مني البلل ما يفسد سراويلي. قال: ليس به بأس»(1) لظهوره في طهارة البلل المذكور مع ملاقاته لموضع البول المتنجس به عادة.

ويندفع بأنه كما يمكن ابتناء طهارة البلل المذكور على عدم تنجس المتنجس يمكن ابتناؤه على إجزاء التمسح بالأحجار في التطهير من البول، كما عن جمهور العامة.

وأما الإشكال فيه بضعف السند، لعدم توثيق الحكم بن مسكين والهيثم بن أبي مسروق النهدي. فيندفع بثبوت وثاقتهما من وقوعهما في أسانيد كتاب كامل الزيارات، ومن رواية ابن عمير والبزنطي عن الأول، ومن رواية أحمد بن محمد بن عيسى - الذي أخرج البرقي عن قم لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل - عن الثاني معتضداً بقول النجاشي عنه: «قريب الأمر»، وقول حمدويه عنه وعن أبيه: «سمعت أصحابي يذكرونهما [بخير خ. ل]. كلاهما فاضلان».

ومنها: خبر حفص بن الأعور «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل؟ قال: نعم»(2). لكن في موثق عمار(3) أنه لا يجعل فيه الخل حتى يغسل معتضداً بموثقه في الإناء القذر أنه يغسل ثلاثاً(4). فإن أمكن تنزيله عليهما

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 13 من أبواب نواقص الوضوء حديث: 4.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 2، 1.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 2، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 25

فهو، وإلا فكما يمكن ابتناؤها على عدم تنجيس المتنجس يمكن ابتناؤه على طهارة الخمر. بل لعل الثاني أظهر، لبعد حمل التجفيف فيه على صورة عدم بقاء أجزاء خمرية فيه. ولذا سبق منا عده من نصوص طهارة الخمر، فيجري فيه ما جرى فيها.

ومنها: خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الكنيف يصب فيه الماء، فينضح على الثياب، ما حاله؟ قال: إذا كان جافاً فلا بأس»(1).

والاستدلال به مبني على ما سبق من بعض مشايخنا من اختصاص القول بعدم تنجيس المتنجس بما إذا كان جافاً ولم يبق فيه الرطوبة التي نجسته، حيث قد يدعى حينئذ دلالته على عدم تنجيس الماء بملاقاة الكنيف الجاف وإن كان متنجساً بما يقع فيه من القذر، إذ لولا تنجس به لا منشأ للإشكال والسؤال.

لكن ظاهر الخبر اعتبار الجفاف حين صب الماء الذي كان منه الانتضاح لا جفاف الرطوبة المنجسة له، ومقتضاه أنه لو كان رطباً لتنجس الماء المذكور حتى لو كان سبب الرطوبة ماء قد أصابه بعد جفاف الرطوبة التي نجسته، وحيث لا قائل بالتفصيل المذكور يتعين طرح الخبر، أو حمله على ما لا ينافي الأدلة الأخرى وإن كان مخالفاً لظاهره.

على أن الخبر - لو نهض بالاستدلال - مختص بالملاقاة غير المستقرة، والبناء على عدم الانفعال فيها لا يستلزم البناء على عدم الانفعال في الملاقاة المستقرة، كما أشار إلى ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره. وإن كان التحقيق حصول الانفعال بها، كما تقدم في مسألة انفعال الماء القليل من مباحث المياه.

ومنها: صحيح حكم بن حكيم: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أبول فلا أصيب الماء، وقد أصاب يدي شيء من البول، فأمسحه بالحائط وبالتراب، ثم تعرق يدي فأمسح [فأمس] به وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي. قال: لا بأس»(2).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 60 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 26

والاستدلال به مبني على أن المفروض فيه كون موضع العرق الممسوح من اليد هو الموضع الذي أصابه البول منها، ويكون منشأ السؤال الشك في تنجيس المتنجس الذي هو محل الكلام، أما لو كان السؤال عن مسح اليد بالثوب أو الجسد حال تعرقها من دون يقين بإصابة موضع البول منها برطوبة لهما، لتوهم منجزية العلم الإجمالي بنجاسة اليد في المقام، لاحتمال النجاسة في ملاقيها، نظير ما ذكرناه في صحيح العيص، فيكون أجنبياً عما نحن فيه. ولا قرينة على الأول وإن استوضحه سيدنا المصنف (قدس سره).

بل لا يبعد الثاني بملاحظة ما عليه كثير من المتفقهين والعوام من ترتيب أثر النجاسة على تمام الموضع بتنجس بعضه، إما جهلاً بالحكم الشرعي أو تورعاً واحتياطاً يبلغ الالتزام. ولعله لذا حكي عن الكاشاني في الوافي ذكر الاحتمالين معاً في توجيه الصحيح، وعدم الجزم بإرادة الأول منه.

ومنها: صحيح علي بن مهزيار: «كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنه بال في ظلمة الليل وأنه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه أصابه ولم يره، وأنه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله، وتمسح بدهن فمسح به كفيه ووجهه ورأسه، ثم توضأ وضوء الصلاة فصلى. فأجابه بجواب قرأته بخطه: أما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشيء إلا ما تحقق، فإن حققت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلاة اللواتي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها، من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت، وإذا كان جنباً أو صلى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته، لأن الثوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إن شاء الله»(1). فإن ما تضمنه من صحة الوضوء المستلزم لعدم نجاسة مائه إنما يتجه بناء على عدم تنجيس المتنجس.

وقد استشكل فيه بعض مشايخنا بأن إضماره مانع من التعويل عليه، فإنه لا

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 27

اعتبار بالمضمرات إلا إذا ظهر من حال السائل أنه ممن لا يسأل غير الإمام، كزرارة ومحمد بن مسلم وعلي بن مهزيار، ولا يعلم ذلك في سليمان بن رشيد، إذ لعله من أكابر العامة وقد سأل مسألته هذه من فقهائهم. غايته أن علي بن مهزيار ظن بطريق معتبر عنده أو اطمأن بأن المسؤول هو الإمام، وذلك لا يجدي في حق غيره.

لكنه كما ترى، فإن علي بن مهزيار قد أخبر جازماً بأن سليمان قد سأله، وأنه قد قرأ الجواب بخطه، وحيث كان ظاهره أن المسؤول هو الإمام، وأن الخط خطه (عليه السلام) فلابد من تصديقه فيه بعد وثاقته، لأنه خبر قابل للصدق، والأصل استناده فيه إلى الحس أو الحدس القريب منه. بل الإنصاف أن احتمال كون المسؤول غير الإمام لو حصل فهو من سنخ الوسواس الذي لا يعتد به.

وبعبارة أخرى: المضمِر في المقام ليس هو سليمان بن رشيد، بل علي بن مهزيار المفروض أنه ممن لا يعتد بكلام غير الأئمة (عليهم السلام).

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره في المعتبر من جهالة المكاتب إذ لو أراد به المكاتب بالفتح فقد عرفت أنه الإمام. وإن أراد به المكاتب بالكسر فلا تقدح جهالته بعد نقل علي بن مهزيار للمكاتبة بنحو يظهر منه الإطلاع عليها حساً.

على أن رواية الأصحاب للمكاتبة في الكتب المعدة لأحاديث الأئمة (عليهم السلام) شاهد بنسبتها لهم (عليهم السلام)، وحيث يمكن إطلاعهم على ذلك عن طريق الحس أو الحدس القريب منه تعين قبول ذلك منهم.

نعم قد يشكل متن الصحيح بأن النجاسة الخبيثة المفروضة فيه والتي تقتضي إعادة الصلاة في الوقت دون القضاء خارجه إن كانت هي نجاسة الموضع الذي أصابه البول من الكف فقط، فالغسل الوضوئي قد يصلح لتطهيره، كما لو كان قد غسل يده قبل الوضوء من حدث البول استحباباً، ليتم به مع غسلها في الوضوء غسلتان. بل لو كان الموضع المتنجس باطن الكف لغسل في نفس الوضوء مرتين مرة عند غسله ومرة عند الغسل به، على أنه كثيراً ما يتعرض الكف لأن يغسل في غير حال الوضوء.

ص: 28

فإطلاق الحكم ببطلان الصلاة من حيثية النجاسة الخبيثة من دون تنبيه لذلك لا يناسب إرادة خصوص النجاسة المذكورة، بل النجاسة الشاملة الحاصلة بالتدهين التي يظهر من تنبيه السائل للتدهين اهتمامه بها. بل قد يظهر منه مفروغيته عنها، فإنها هي التي لا تزول بالغسل الوضوئي.

لكنها مبنية على تنجيس المتنجس، حيث ينجس الدهن باليد المتنجسة بالبول ثم ينجس الأعضاء المدهونة به، وحينئذ يتعين تنجيس اليد والأعضاء المذكورة لماء الوضوء، فيبطل الوضوء، بل يكفي في بطلان الوضوء نجاسة أعضاء الغسل والرأس بسبب التدهين، أو خصوص الموضع الذي أصابه البول منها، بناء على ما هو المعروف من اشتراط طهارة أعضاء الوضوء في صحته. ومن الظاهر أن بطلان الوضوء يأباه ذيل الحديث.

على أن المنساق من قوله (عليه السلام): «اللواتي صليتهن بذلك الوضوء» كون الخلل في الوضوء، وهو لا يناسب ذيل الحديث، كما ذكرنا، بل المناسب له بطلان الصلوات اللواتي صلاهن من دون تطهير.

ومن ثم كان الحديث مضطرباً، وعن الكاشاني أنه يشبه أن يكون قد وقع فيه غلط من النساخ. ومع ذلك يصعب الاستدلال به في المقام.

هذه عمدة النصوص المستدل بها لعدم تنجيس المتنجس، كما قيل. وقد ظهر مما سبق وهن الاستدلال بها، لما سبق من جهات الإشكال فيها.

هذا كله مضافاً إلى أنه لو أمكن تتميم دلالة بعض هذه النصوص، وغض النظر عما سبق من الإشكال فيها إلا أنه لا مجال للاستدلال بها من جهتين:

الأولى: معارضتها بالنصوص المتقدمة دليلاً لتنجيس المتنجس، والتي هي كثيرة جداً، مشهورة مضموناً، مقبولة عند الأصحاب. فلابد من تنزيل هذه النصوص عليها جمعاً، ومع تعذره يتعين طرحها.

ص: 29

الثانية: ظهور هجر الأصحاب لهذه النصوص وإعراضهم عنها، لظهور تسالمهم على تنجيس المتنجس ومفروغيتهم عنه، كما سبق التنبيه عليه والإشارة لكلماتهم فيه، حيث يوجب ذلك الريب في هذه النصوص بنحو تسقط معه عن الحجية.

نعم قد أنكر بعض من قارب عصرنا ذلك، مدعياً عدم العثور على من أفتى من القدماء بالنجاسة، كما ذكر ذلك أيضاً بعض مشايخنا (قدس سره)، منبهاً على عدم تحريرهم للمسألة مع كثرة الابتلاء بها في اليوم والليلة والقرى والأرياف.

لكن شيوع الابتلاء بالمسألة يستلزم عادة السؤال عن حكمها لو كان خفياً، ولو وقع السؤال عنها لكثرت النصوص بذلك. ومن الظاهر عدم وجود مثل هذه النصوص في المقام، غاية الأمر وجود بعض النصوص التي يستفاد منها الحكم تبعاً من دون أن ترد لذلك، بحيث يكون هو المقصود منها بالأصل.

ولابد أن يكون ذلك لوضوح الحكم المذكور عند المتشرعة من عمل

المعصومين (عليهم السلام)، أو بياناتهم العامة، أو تسالم أهل الفتوى، أو المرتكزات أو غير ذلك، وفي مثل ذلك يمتنع عادة خطأ المشهور في الحكم.

ولا ينبغي التأمل في ذهاب المشهور لعموم الانفعال، كما يظهر من رواية الأصحاب للنصوص الكثيرة الدالة عليه، وظهور تسالمهم على قبولها والعمل بها والتعويل عليها.

وهو الذي يظهر من الكاشاني نفسه، حيث قال بعد الحكم بعدم الانفعال بالمتنجس والاستدلال عليه: «إلا أن هذا الحكم مما يكبر في صدور الذين غلب عليهم التقليد من أهل الوسواس...»، ومن الظاهر أن التقليد إنما يكون لقدماء الأصحاب وأعاظمهم.

كما أن المحقق في المعتبر حينما أشار لما تقدم في مبحث نجاسة الميتة عن ابن إدريس من أن الإناء إذا لاقى جسد الميت وجب غسله. لكن لا يجب غسل ملاقيه. وحمل الملاقي على الإناء قياس، قال في ردّه: «لما اجتمعت الأصحاب على نجاسة اليد

ص: 30

الملاقية للميت وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع، لا بالقياس على نجاسة اليد... اللهم إلا أن يقول إن الميت ليس بنجس وإنما يجب الغسل تعبداً». كما ذكر أيضاً إن إناء الولوغ لو وقع في ماء قليل نجس، وقال في وجه استحباب أن يحفر لماء غسل الميت حفيرة: «لأنه ماء مستقذر، فيحفر له ليؤمن من تعدي قذره».

ويظهر ذلك أيضاً مما ذكروه في حكم غسالة الولوغ، حيث حكم في المعتبر بنجاستها وتنجيسها لما تصيبه، لأنها ماء قليل لاقى نجاسة، فيجب أن ينجس، خلافاً للشيخ في الخلاف، حيث ذكر عدم وجوب غسل ملاقيها، محتجاً بأنها لو كانت نجسة لزم نجاسة المتخلف منها في الإناء، فينجس به ماء الغسلة الثانية وهكذا، ولازمه امتناع تطهير الإناء، ومن الظاهر رجوع الحجة المذكورة إلى أن مقتضى القواعد الأولية النجاسة والتنجيس، إلا أنه لابد من الخروج عنه في المورد، لأن العمل عليه مستلزم لامتناع تطهير الإناء.

كما هو مقتضى ما ذكر في الخلاف أيضاً قبل ذلك في وجه نجاسة غسالة الغسلة الأولى لتطهير الثوب من أنها ماء قليل معلوم حصول النجاسة فيه، فوجب أن يحكم بنجاسته... إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في كلماتهم المتفرقة التي يضيق الوقت عن استقصائها. ويظهر من مجموعها مفروغيتهم عن أن عموم الانفعال بالنجاسة يشمل نجاسة المتنجس.

وكأنه لأن المتنجس قد حمل صفة النجاسة بتنجسه، فيلحقه حكمها، لما سبق من الارتكاز المعتضد بالتعليل في حديثي معاوية بن شريح والبقباق من أن السريان من أحكام مطلق النجاسة. ولعل ذلك هو الوجه في عدم تحريرهم المسألة مستقلاً مع شيوع الابتلاء بها.

وأما ما تقدم من ابن إدريس فالظاهر ابتناؤه على دعوى أن نجاسة الملاقي للميت حكمية، لا عينية، مع مفروغيته عن سريان نجاسة ملاقي النجاسات العينية،

ص: 31

كما يظهر من كلامه. وهو المناسب لما صرح من أنه يجب غسل ما أصابه الماء النجس من البدن، كما أنه قال في أحكام الولوغ: «والماء الذي ولغ فيه الكلب والخنزير إذا أصاب الثوب وجب غسله، لأنه نجس، وإن أصابه من الماء الذي يغسل به الإناء من الغسلة الأولية يجب غسله...». وهو مناسب لما عليه الأصحاب.

كما أن نسبة القول بعدم الانفعال للسيد المرتضى (قدس سره) قد تبتني على ما ينسب له من عدم انفعال الملاقي للنجاسة بها، وإنما يجب غسله لإزالة عينها، فإذا أمكن إزالتها بالمسح من دون غسل - كما في الأجسام الصيقلية - أجزأ. فإن مرجعه إلى أن الملاقي للنجاسة إذا لم يحمل عينها لا ينجس ملاقيه، لطهارته، لا لأن المتنجس لا ينجس.

ومن ثم لم يظهر القول بعدم تنجيس المتنجس من أحد القدماء، بل الظاهر منهم التسالم على التنجيس. وذلك وحده كاف في وهن الأخبار المستدل بها على عدمه، وفي البناء على تنجيس المتنجس بعد ما سبق من شيوع الابتلاء بالمسألة بنحو يمتنع معه خطأ المشهور في حكمها.

وأما دعوى أن البناء على التنجيس مستلزم للهرج والمرج، لكثرة الابتلاء، بالمتنجس وصعوبة توقي العامة منه، لكثرة وجوهه وعدم انضباطها، وتسامح عامة الناس فيها، بنحو يستلزم استيعاب النجاسة لأكثر ما يبتلي به الإنسان من طعام وشراب ولباس ومكان وغير ذلك.

فيظهر اندفاعها مما تقدم في مسألة انفعال الماء القليل، حيث يظهر مما ذكرناه هناك ابتناء هذا الوجه ونحوه على المبالغة والتهويل، وعدم رجوع ذلك إلى محصل يخرج به عن مقتضى النصوص الخاصة والعامة ومرتكزات المتشرعة وتسالم الأصحاب. بل هو هنا أهون منه هناك، لأن تطهير الماء بوجه غير مقصود أصعب من تطهير غيره.

نعم لا إشكال في وقوع المخالفة من عامة الناس في ذلك كثيراً، بسبب الغفلة عن الحكم أو الموضوع أو التسامح فيهما. إلا أن ذلك لا يبلغ حداً يمنع من الرجوع للأصل في غير موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي الذي لا يخرج بعض أطرافه عن

ص: 32

(33) من دون فرق بين المتنجس بواسطة واحدة وبوسائط (1).

الابتلاء - على ما تقتضيه القاعدة - من دون أن يلزم من ذلك الهرج والمرج، ولا العسر والحرج النوعي. فراجع وتأمل جيداً.

(1) أشار بذلك إلى ما قد يدعى من التفصيل بين المتنجس بعين النجس فينجس، والمتنجس بالمتنجس فلا ينجس. وربما نسب ذلك للسيد الصدر شارح الوافية. وهو الذي جرى عليه بعض مشايخنا في غير الماء، أما في الماء فقد ذهب إلى عموم الانفعال في مبحث كيفية سراية النجاسة، وعدل عما سبق منه في مبحث انفعال القليل من جريان التفصيل المذكور فيه أيضاً.

وكيف كان فقد سبق منا في مبحث انفعال الماء القليل تقريب عموم الانفعال فيه. ومن القريب جداً إلغاء خصوصيته، لما أشرنا إليه في أول أدلة الانفعال من أولوية الماء بعدم الانفعال بسبب كونه أظهر المطهرات.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من تقريب احتمال خصوصيته، بلحاظ لطافته وتأثره بما لا يتأثر به غيره. ومن هنا اهتم الشارع الأقدس بالتحفظ عليه ونظافته.

فهو كما ترى، إذ لا دخل للطافة بالانفعال تبعاً للمرتكزات، بل هي تابعة للرطوبة المسرية، ولا يظهر من الشارع امتياز الماء عن غيره في زيادة قابليته للانفعال. واهتمامه بالتحفظ عليه إنما هو مقدمة للحفاظ على طهوريته، كاهتمامه بحفظ الثوب عن ملاقاة النجاسة أو تطهيره منها للحفاظ على صحة الصلاة به، ولا دخل لذلك بقابليته للانفعال.

على أنه يكفى في عموم الانفعال في الماء وغيره ما أشرنا إليه آنفاً من الارتكاز المعتضد بالعموم المستفاد من التعليل في الحديثين المتقدمين، خصوصاً بعد البناء على عموم الانفعال للمتنجس في الجملة، لأن التفكيك بين المتنجسات أصعب من التفكيك بين النجس والمتنجس في التأثير، فضلاً عن التفكيك بين الماء وغيره في

ص: 33

الانفعال والتأثر. بل كل ذلك مغفول عنه عرفاً، فلو كان التفصيل ثابتاً للزم التنبيه له في النصوص وتحديد المراتب المتنجسة من غيرها والأجسام المتنجسة وغيرها.

ومن ثم كان ظاهر الأصحاب المفروغية عن العموم. ولاسيما بملاحظة ما تقدم من الكلام في غسل الثوب من غسالة الولوغ، مع وضوح أن الغسالة متنجسة بالإناء المتنجس بالماء المتنجس بالولوغ، حيث ظهر منهم المفروغية عن أن مقتضى عموم الانفعال هو نجاسة الثوب، وإنما الكلام في المخرج عن ذلك.

وأما دعوى: أن النجاسة تخف بتعدد الوسائط، وذلك يناسب عدم السريان مع تعدد الوسائط، خصوصاً مع كثرتها وتراميها.

فتندفع أولاً: بأن النجاسة حكم شرعي تعبدي تخفى علينا ضوابط شدته وضعفه، فمع عموم الأدلة المستفاد مما تقدم لا طريق لإحراز خفته بالنحو الذي يناسب عدم السريان. ولا مجال لقياسه بالقذارة العرفية، فإن إدراك العرف لها ملازم لإدراكهم شدتها وضعفها. غاية ما سبق دعواه أن المناسبات الارتكازية تصلح لتفسير الأدلة في النجاسة الخبيثة بنحو يناسب القذارة العرفية في السريان وشروطه كالرطوبة وعدم التدافع ونحو ذلك، لا أن السراية في النجاسة الخبيثة مطابقة للسراية في القذارة.

وثانياً: بأن الجهات الارتكازية المدعاة كما تقتضي خفة النجاسة مع تعدد الوسائط تقتضي اختلاف مراتبها باختلاف النجاسات وباختلاف المتنجسات من حيثية أنواعها ومراتبها، ومع اختلاف مرتبة النجاسة من هذه الجهات يصعب التحديد بحسب المرتكزات، وذلك مانع من اتكال الشارع والمتشرعة على المرتكزات في التحديد، بل يحتاج معه لضوابط شرعية تعبدية، وحيث لا أثر لذلك في النصوص كشف عن عدم دخل النجاسة في المانعية من الانفعال، وأن النجاسة بجميع مراتبها تسري كما يظهر التسالم بين الأصحاب على ذلك.

وبالجملة: بعد أن كان مقتضى الارتكاز والأدلة الشرعية سريان النجاسة حتى

ص: 34

(35) (مسألة 25): تثبت النجاسة بالعلم، وبشهادة العدلين (1)، وبإخبار ذي اليد (2).

من المتنجس فلو كان ذلك منوطاً بمرتبة خاصة لزم تحديدها تعبداً ببيانات شرعية واضحة، لشدة الحاجة لذلك بعد امتناع الاتكال على الارتكاز في التحديد، لالتباس الحدود على الارتكاز في الأمور المقولة بالتشكيك، فعدم التعرض لذلك في النصوص مع شدة الحاجة إليه مناسب لعموم السريان، لكون ذلك مقتضى طبع النجاسة ارتكازاً، بنحو يؤكد ما سبق من عموم دليل الانفعال، وظهور تسالم الأصحاب على العموم. فلاحظ وتأمل جيداً. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. ومنه نستمد العون والتسديد.

(1) كما لعله المعروف بين الأصحاب لعموم حجية البينة، الذي تقدم الاستدلال عليه في المسألة التاسعة عشرة من مباحث الاجتهاد والتقليد.

وعن صريح القاضي وظاهر عبارتي الشيخ والكاتب عدم حجيتها في إثبات النجاسة. لأنها لا تفيد العلم، فلا يخرج بها عن عموم ما دل على أن كل شيء طاهر حتى يعلم أنه قذر(1).

وفيه: أن مقتضى الجمع بين الدليلين حمل العلم في النصوص على أنه طريقي يقوم مقامه سائر الطرق، ومنها البينة. وذلك هو المناسب لمعتبر عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الجبن «قال: كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه الميتة»(2). ويأتي تمام الكلام في ذلك في المسألة الثانية والأربعين من فصل المطهرات.

(2) لبناء العقلاء على حجية إخبار ذي اليد فيما تحت يده. نعم الظاهر

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 37 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 60 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 2.

ص: 35

اختصاص بنائهم على ذلك بصورة عدم التهمة. وقد يستدل عليه بصحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول: قد طبخ على الثلث وأنا أعرف أنه يشربه على النصف أفأشربه بقوله؟ فقال: لا تشربه. قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف، يخبرنا أن عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، يشرب منه؟ قال: نعم»(1) ونحوه غيره.

لكن الاستحلال على النصف لا يوجب التهمة في الإخبار بذهاب الثلثين، غاية الأمر أنه قد يوجب التوقف في الأخبار بالحلية، لاحتمال ابتنائه على الاستحلال المذكور.

نعم يمكن أن يستأنس له بخبر العلا بياع السابري فيمن أودعت رجلاً مالاً، وأقرت عنده أن المال لامرأة معينة، فلما ماتت أراد الورثة استحلافه على أنه ليس عنده لها شيء، حيث قال (عليه السلام): «إن كانت مأمونة عنده فليحلف لهم، وإن كانت متهمة فلا يحلف»(2) وفي صحيح أبي بصير في مضارب وصى أن ما تركه لأهل المضاربة، حيث سئل (عليه السلام) عن نفوذ وصيته فقال: «نعم إذا كان مصدقاً»(3).

وعلى ما ذكرنا يشكل حجية إخبار الوسواسي بالنجاسة، لأن الحديثين المتقدمين وإن كانا ظاهرين في الائتمان من تعمد الكذب، إلا أن بناء العقلاء أخص من ذلك، لعدم بنائهم على التعويل على خبره مع عدم الائتمان من حيثية الخطأ. ولا أقل من عدم وضوح بنائهم على حجيته حينئذ، فيكون المرجع أصالة الطهارة. ويأتي في تمام الكلام في ذلك في المسألة الثانية والأربعين من فصل المطهرات.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 13 باب: 16 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 2، 14.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 13 باب: 16 من أبواب أحكام الوصايا حديث: 2، 14.

ص: 36

(37) (مسألة 26): ما يؤخذ من أيدي الكافرين من الخبز، والزيت، والعسل، ونحوها من المائعات، والجامدات طاهر (1)، إلا أن يعلم بمباشرتهم له بالرطوبة المسرية (2). وكذلك ثيابهم (3) وأوانيهم (4)، والظن بالنجاسة لا عبرة به.

(1) للأصل.

(2) فيحكم بنجاسته بناء على نجاستهم. وكذا إذا علم بإمساسهم له نجساً أو متنجساً برطوبة كالميتة ولحم الخنزير وما لاقاهما.

(3) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه - مضافاً إلى الأصل المتقدم - النصوص الكثيرة الواردة في ثيابهم(1) المتقدم بعضها في مبحث نجاسة الكافر.

(4) بلا خلاف أجده فيه كما في الجواهر. وفي كشف اللثام: «اتفاقاً إلا ممن يجري الظن مجرى العلم». والوجه فيه الأصل المتقدم.

نعم تضمنت جملة من النصوص النهي عن الأكل في آنيتهم(2). لكن حيث لا يمكن حمله على عموم الحرمة الواقعية - الذي هو مقتضى الجمود على مفادها - فكما يمكن حمله على الحرمة الظاهرية عند الشك في طهارتها، يمكن حمله على الحرمة الواقعية عند العلم بنجاستها كما هو الغالب، أو على عموم الكراهة. ولا ملزم بالأول، ليخرج عن مقتضى الأصل المتقدم. ولاسيما مع تأيده بالإجماع المدعى و بالنصوص الواردة في الثياب المشار إليها آنفاً.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73، 74 من أبواب النجاسات.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب النجاسات.

ص: 37

ص: 38

الفصل الثالث: في أحكام النجاسة

اشارة

(39) (39) (مسألة 27) يشترط في صحة الصلاة (1)

(1) قال في الجواهر: «بالإجماع محصله ومنقوله في السرائر والخلاف والمعتبر وغيرها. بل والنصوص الدالة على إعادة الصلاة من البول والمني والخمر والنبيذ والدم وعذرة الإنسان والسنور والكلب ونحوها، المتممة بعدم القول بالفصل».

بل الظاهر استفادة العموم من نفس النصوص المذكورة، لإلغاء خصوصيته مواردها، حيث يستفاد من مجموعها كون المانع هو النجاسة، تبعاً للمرتكزات المتشرعية.

ولاسيما بملاحظة مثل قوله في صحيح زرارة في الثوب الذي أصابه دم رعاف أو غيره أو شيء من مني: «قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله. قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه [قد خ. ل] أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك [طهارته]»(1) وقوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان في الثوب الذي يستعيره الذمي: «فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه»(2) وما تقدم في نصوص عدم تنجيس المتنجس من قوله (عليه السلام)

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 7 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 34 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 39

في صحيح علي بن مهزيار: «من قبَل أن الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت»(1)... إلى غير ذلك مما قد يجده المتتبع.

هذا والمنصرف من الأدلة المتقدمة أن النجاسة مانعة من الصلاة، بل هو مقتضى الجمود على مفاد أكثرها. وهو المناسب للمرتكزات المتشرعية الصالحة لتنزيل ما قد يظهر منه شرطية الطهارة على ذلك. فتأمل. على أنه لا أثر لذلك بعد أصل الطهارة، حيث يحرز به الطهارة في مورد الشك، كما يحرز عدم النجاسة بالأصل أيضاً.

ثم إنه لا فرق في ذلك بين الكثير والقليل عدا الدم على ما يأتي. لكن في المختلف عن ابن الجنيد: «كل نجاسة وقعت على الثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو متفشية [منبسطة خ. ل] دون سعة الدرهم - الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى - لم ينجس الثوب بذلك. إلا أن يكون النجاسة دم حيض أو منياً فإن قليلهما وكثيرهما سواء». وكأنه هو الوجه فيما سبق في مبحث نجاسة الدم من نسبة القول بعدم نجاسة ما دون الدرهم من النجاسات له. وتقدم ضعفه.

ومثله ما حمل عليه كلامه في المختلف من العفو عن كل نجاسة دون الدرهم. إذ ينحصر الدليل عليه بالقياس على الدم، الذي لا مجال له عندنا. ولاسيما مع ظهور بعض النصوص في عموم مانعية النجاسة في بعض النجاسات غير الدم والمني للقليل، كصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن رجل يبول بالليل، فيحسب أن البول أصابه فلا يستيقن فهل يجزيه أن يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال: يغسل ما استبان أنه أصابه، وينضح ما يشك فيه من جسده أو ثيابه، ويتنشف قبل أن يتوضأ»(2) وغيره. والمنساق منها أن الأمر بالتطهير من أجل الصلاة. بل نصوص الاستنجاء كالصريحة في ذلك، لوضوح أن ما يصيب الذكر حين البول ويحتاج للاستنجاء قليل جداً لا يبلغ الدرهم. وقد تضمنت جملة من النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 40

وأجزائها المنسية (1)، بل سجود السهو على الأحوط (2) طهارة بدن المصلي (3) وتوابعه - من شعره (4)

لزوم الاستنجاء من البول من أجل الصلاة(1).

على أن الظاهر من كلامه المتقدم نجاسة القليل وعدم تنجيسه، لا العفو عنه مع التنجيس. وحينئذ يظهر ضعفه كما سبق أيضاً، فإن دليل عدم العفو دليل على التنجيس ومثله في الإشكال ما عن مياه فارقيات السيد - كما في الجواهر - من العفو عن البول إذا ترشش عند الاستنجاء. لعدم الدليل على ذلك بعد عموم دليل النجاسة ودليل مانعيتها للمترشش، كما سبق تقريبه. ولعله لذا قد يحمل كلامه على إرادة ما يترشش من ماء الاستنجاء من البول. ولاسيما بلحاظ أنه هو الذي يترشش حال الاستنجاء، لا البول نفسه، كما لا يخفي.

(1) إجماعاً ادعاه سيدنا المصنف (قدس سره). والوجه فيه: أن المستفاد من أدلة القضاء كون المأتي به بعد الصلاة هو الجزء المنسي فيها، لا واجب أخر بدلاً عنه، كقوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان: «فاصنع الذي فاتك سواءً»(2) ونحوه غيره. وحيث كان مرجع شرطية الطهارة الخبثية في الصلاة إلى شرطيتها في أجزائها تعين شرطيتها في الجزء المتدارك.

(2) تقدم في مبحث شرطية الوضوء للصلاة من الفصل السابع من مباحث الوضوء الكلام في اشتراط سجود السهو بشروط الصلاة، وتقدم أن الأظهر عدمه.

(3) فإنه المتيقن من الأدلة المتقدمة.

(4) قد يظهر من عدم تنبيه الأصحاب له المفروغية عنه، لفهمه من إطلاق مانعية النجاسة من الصلاة. ولا مجال لقياسه بالطهارة الحدثية، حيث لم يريدوا من

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9، 10 من أبواب أحكام الخلوة.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 26 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.

ص: 41

وظفره (1) ونحوهما - وطهارة ثيابه (2)، من دون فرق بين الساتر وغيره (3).

إطلاق غسل البدن ما يشمل الشعر. للفرق بأن مرجع عدم وجوب غسل الشعر في الطهارة الحدثية إلى قصور موضوع الحدث عنه عرفاً، ولا مجال لذلك هنا، لعدم الإشكال في حمله انفعاله بملاقاة النجس وحمله للنجاسة الخبثية. ومنه يظهر قرب فهمه مما دل على اعتبار طهارة البدن في الصلاة، لتبعيته له عرفاً.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من استفادته مما دل على مانعية نجاسة الثوب. فلا يخلو عن إشكال، لقصور دليله مانعية الثوب ونحوه عما لا تتم به الصلاة. فلاحظ.

(1) بلا إشكال، لكونه من أجزاء البدن عرفاً.

(2) كما هو معقد الإجماع المتقدم وقد تضمنته النصوص الكثيرة. والظاهر أن المراد به مطلق اللباس، إما لأنه مطابق للثوب لغة، أو لإلحاقه به عرفاً، بحيث يستفاد حكمه منه تبعاً، كما يستفاد مما تضمن استثناء ما لا تتم به الصلاة مع عدم كونه من الثياب قطعاً. ولاسيما بملاحظة مثل صحيح زرارة عن أحدهما (عليه السلام): «قال: كل ما كان لا تجوز الصلاة فيه وحده لا بأس بأن يكون عليه الشيء...»(1). فإنه ظاهر في مانعية النجاسة إذا كانت على ما تجوز الصلاة فيه وحده، ومرجع ذلك إلى أن موضوع مانعية النجاسة هو ما يصلى فيه، وذلك يصدق على ما يلبس.

(3) قال سيدنا المصنف (قدس سره): «إجماعاً. لإطلاق النص والفتوى». ويستفاد أيضاً مما تضمن استثناء ما لا تتم به الصلاة.

هذا وفي الجواهر: «نعم لا عبرة بالزائد على القامة من اللباس زيادة خارجة عن المعتاد يخرج بها عن اسم الملبوس أو المحمول، وفاقاً للمحكي عن صريح جماعة ومستحسن المعالم وظاهر الخلاف بل صريحه. إذ لا دليل على اعتبار طهارة ذلك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 42

(43) (مسألة 28): الطواف الواجب والمندوب كالصلاة في ذلك (1).

الزائد، ضرورة انصراف الأدلة إلى غيره». وقد صرح بعدم مانعية ذلك في المعتبر والتذكرة، بل مقتضى إطلاق كلاهما عدم مانعية نجاسة ما زاد عن القامة وإن لم يخرج في طوله عن المعتاد.

ولا يخفى أنه حيث لا يراد بما تضمن مانعية نجاسة الثوب نجاسته بتمامه، بل نجاسة جزء منه فلا ريب في شمول إطلاقه لنجاسة الجزء المذكور، لعدم خروجه عن الجزئية بزيادته عن القامة. فليس في المقام إلا دعوى الانصراف عنه، وهو يحتاج إلى لطف قريحة.

(1) كما عن الأكثر، بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه. لمعتبر يونس بن يعقوب: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رأيت في ثوبي شيئاً من دم وأنا أطوف قال: فاعرف الموضع، ثم اخرج فاغسله، ثم عد فابن طوافك»(1) ونحوه خبره الآخر(2).

نعم في مرسل البزنطي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قلت له رجل في ثوبه دم مما لا تجوز الصلاة في مثله فطاف في ثوبه، فقال: أجزأه الطواف، ثم ينزعه ويصلي في ثوب طاهر»(3). لكن لما لم يكن السؤال فيه عن حكم إيقاع الطواف بالثوب النجس، بل عن حكم الطواف بعد وقوعه، فهو إن لم يكن ظاهراً في عدم تعمد إتباع الطواف به، فلا أقل من لزوم حمله على ذلك، جمعاً مع الحديثين الأولين.

ومنه يظهر ضعف ما في الوسيلة من كراهة الطواف مع نجاسة الثوب والبدن، وما عن ابن الجنيد من كراهة الطواف في ثوب أصابه دم لا يعفى عنه ومال إليه في المدارك. ومن جميع النصوص المتقدمة يظهر صحة الطواف مع النجاسة من دون تعمد.

كما إن مقتضى إطلاق الحديثين الأولين العموم للدم القليل. نعم قد يظهر من

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 9 باب: 52 من أبواب الطواف حديث: 1، 2، 3.

ص: 43

(44) (44) (مسألة 29): الغطاء الذي يتغطى به المصلي إيماء إن كان ملتفاً به المصلي بحيث يصدق أنه صلى فيه وجب أن يكون طاهراً وإلا فلا (1).

(مسألة 30): يشترط في صحة الصلاة طهارة محل السجود (2)

السؤال في الأخير المفروغية عن عدم قدح ما يعفى عنه في الصلاة. لكن في الاكتفاء بذلك في الخروج عن الإطلاق إشكال، بل منع. ولاسيما مع قوة إطلاق الأول بنحو يشمل القليل. وتمام الكلام في محله.

(1) فإن النصوص وإن اشتملت على عنوان الثوب، إلا أنها - كما تقدم - محمولة على كل ما يصدق عليه اللبس، وهو لا يصدق في مثل اللحاف إلا مع الإلتفاف به. وأما ما ذكره السيد في العروة الوثقى من الاحتياط بإلحاق اللحاف بالثوب إذا كان ساتراً، دون ما إذا كان الساتر غيره. فهو غير ظاهر الوجه. ولاسيما مع تصريحه بعدم الفرق في اللباس الذي يعتبر طهارته بين الساتر وغيره. على أنه لو فرض دخل التستر فيه فالمراد به فعلية الساترية وإن كان هناك ساتر غيره، فمن لبس ثوبين كل منهما ساتر في نفسه لابد في صحة صلاته من طهارتهما معاً، لا طهارة أحدهما، كما هو ظاهر.

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعى عليه الإجماع في الغنية والمعتبر والتذكرة والمختلف والمنتهى والذكرى والتنقيح وجامع المقاصد ومحكي إرشاد الجعفرية ومجمع البرهان وشرح الشيخ نجيب الدين وغيرها.

نعم قد يظهر من بعضهم في مبحث مطهرية الشمس جواز السجود على الموضع الذي تجففه مع بقائه على النجاسة. لكنه ليس لعدم اعتبار طهارة مسجد الجبهة، بل للعفو عن النجاسة مع تجفيف الشمس لها، ولذا صرحوا بعدم جواز السجود على ما جف بغير الشمس. ومن ثم كان الظاهر التسالم على اعتبار طهارة مسجد الجبهة.

وقد يستدل عليه من النصوص بصحيح زرارة: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلي فيه. فقال: إذا جففته الشمس فصل

ص: 44

عليه، فهو طاهر»(1) ، وصحيح ابن محبوب: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، ثم يجصص به المسجد، أيسجد عليه؟ فكتب إلي بخطه: إن الماء والنار قد طهراه»(2).

وقد استشكل سيدنا المصنف (قدس سره) في الأول بأن السؤال فيه عن الصلاة في المكان، وهو أمر آخر غير السجود عليه. وفي الثاني بتعذر العمل بظاهره.

وكأنه بلحاظ أن الإيقاد على الجص بالعذرة وعظام الموتى لا يوجب نجاسته ليحتاج للتطهير، لأن الظاهر أن الوقود منفصل عن الجص، ولو اتصل به فهو لا ينجسه، لجفافه حين الإيقاد. ولاسيما مع أن العظام من مستثنيات الميتة. واشتمالها على المخ السائل وسيلانه على الجص غير مفروضين في السؤال.

ولو فرض أن الجص قد تنجس بهما فالماء والنار لا يطهراه، لعدم مطهرية النار إلا مع الاستحالة غير الحاصلة في الجص بطبخه. وحمله على مطهريتها للعذرة والعظام المحروقة لاستحالتها رماداً مخالف لظاهر نسبة التطهير للجص نفسه بسبب الماء والنار معاً. كما أن الماء لا يطهر الجص لو كان نجساً، لعدم غسله لأكثره، لأنه ينفذ فيه حتى يكون كالوحل، ولا ينغسل به، وعدم انفصال غسالته لو غسله. على أن ملاقاة الماء له بعد ملاقاة النار بمدة طويلة، والالتزام حينئذ باستناد التطهير لهما معاً بنحو التشريك في غاية الغرابة. ومنه يظهر الإشكال في جملة من كلمات بعض

مشايخنا (قدس سره) في المقام.

نعم يمكن الجواب عما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) بأن السؤال في صحيح زرارة وإن كان عن الصلاة في المكان، إلا أن الجواب قد تضمن جواز الصلاة على المكان، فيكون ظاهراً في إناطة جوازه بالطهارة، والمتيقن من ذلك مسجد الجبهة. فتأمل. وتعذر العمل بصحيح ابن محبوب في تطهير الماء والنار للجص لا يمنع من العمل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 81 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 45

وهو ما يحصل به مسمى وضع الجبهة (1)، دون غيره من مواضع السجود (2)، وإن كان أحوط استحباباً.

بظهوره في توقف صحة السجود عليه على طهارته، بل ظاهر السؤال فيه المفروغية عن ذلك، وهو المناسب للاتفاق المدعى ممن سبق. وكفى بذلك بمجموعه دليلاً في المقام.

هذا وفي البحار أن ظاهر بعض النصوص عدم اشتراط طهارة مسجد الجبهة. وكأنه يشير للنصوص الآتية المتضمنة جواز الصلاة على الموضع النجس أو في الموضع النجس. إلا أنها - مع معارضتها بغيرها مما يأتي - لا تنهض دليلاً في المقام، لأن جواز الصلاة في الموضع النجس أو عليه أعم من جواز السجود عليه، فلا يخرج به عما تقدم. فلاحظ.

(1) فلا مانع من نجاسة ما زاد عليه وإن كان مماساً للجبهة، فالطهارة في المقام شرط فيما يجب السجود عليه، لا في تمام ما يسجد عليه وإن كان زائداً على الواجب، كما يناسبه ذكرهم له في سياق وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه. ولا أقل من إجمال معقد إجماعهم، الملزم بالاقتصار فيه على المتيقن. وكذا الحال في الصحيحين. فلا مخرج عن أصل البراءة من اعتبار طهارة ما زاد عن ذلك أو مانعية نجاسته.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعى عليه الإجماع من غير أبي الصلاح الحلبي فقد حكي عنه اعتبار الطهارة في جميع المساجد السبعة.

وقد يستدل له بالنبوي: «جنبوا مساجدكم النجاسة»(1). وبإطلاق صحيح زرارة المتقدم المستفاد منه عدم جواز الصلاة على المكان النجس.

وهو كما ترى، لضعف النبوي بالإرسال، ولاحتمال حمله على بيوت الله تعالى، كما فهمه بعض الناقلين له في مقام الاستدلال به، ولو حمل على مساجد الصلاة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 24 من أبواب أحكام المساجد حديث: 2.

ص: 46

فالمنصرف منها أو المتيقن مسجد الجبهة، نظير قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(1). وكأنه لأنه ركن السجود المأخوذ في مفهومه لغة. وأما الصحيح فهو مجمل من هذه الجهة، والمتيقن منه اعتبار مسجد الجبهة، كما تقدم.

هذا وعن المرتضى اعتبار طهارة تمام مكان المصلي أو خصوص ما يلاقي بدنه. وقد يستدل له بما تضمن النهي عن الصلاة على الشاذكونة(2) التي أصابتها الجنابة، كموثق ابن بكير: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشاذكونة يصيبها الاحتلام أيصلى عليها؟ فقال: لا»(3). وما تضمن النهي عن الصلاة على المكان القذر، كموثق عمار

عنه (عليه السلام): «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس، ولكنه قد يبس الموضع القذر، قال: لا يصلى عليه...»(4) وغيره. ومنه ما تضمن إناطة جواز الصلاة بإصابة الشمس، كصحيح زرارة المتقدم.

لكن النصوص المذكورة معارضة بغيرها مما تضمن الترخيص في الصلاة على الشاذكونة، والمكان القذر، كصحيح زرارة أو موثقه عن أبي جعفر (عليه السلام): «سألته عن الشاذكونة يكون عليها الجنابة أيصلى عليها في المحمل قال: لا بأس»(5). وقريب منه خبر ابن أبي عمير(6) ، وصحيح علي جعفر عن أخيه (عليه السلام): «عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة، أيصلى فيهما إذا جفا؟ قال: نعم»(7) ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم.

(2) هي بالفتح ثياب غلاظ مضربة تعمل باليمن، مجمع البحرين.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 4، وج: 3 باب: 38 من أبواب مكان المصلي حديث: 4.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 47

(48) (مسألة 31): كل واحد من أطراف الشبهة المحصورة بحكم النجس، فلا يجوز لبسه في الصلاة، ولا السجود عليه (1)، بخلاف ما هو

عليه؟ قال: إذا يبست فلا بأس»(1) ونحوها غيرها. فلابد من الجمع بين نصوص الشاذكونة بالحمل على الكراهة.

وربما يحمل موثق ابن بكير المانع على صورة الرطوبة، التي لا إشكال في قصور الخبرين المجوزين عنها. لكنه بعيد جداً، حيث يبعد خفاء الحكم مع الرطوبة على مثل ابن بكير حتى يسأل عنه. والأمر سهل.

وأما نصوص المكان والبواري فيمكن الجمع بينها بالحمل على الكراهة أيضاً، أو بالحمل على غير موضع السجود بقرينة ما تضمن اعتبار طهارته.

وأما الجمع بينها بحمل نصوص النهي على صورة إصابة الموضع النجس بأجزاء البدن، وحمل نصوص الجواز على صورة عدم إصابته. فلا شاهد عليه. وبالجملة: لا شاهد للقول المذكور، بل مقتضى أصالة البراءة عدم اشتراط ذلك في الصلاة.

(1) لتنجز احتمال التكليف في كل منهما بسبب العلم الإجمالي المذكور، بناء على ما هو المشهور المنصور من حجية العلم الإجمالي بنحو يقتضي الموافقة القطعية، على ما حققناه في الأصول.

نعم الظاهر اختصاص ذلك بالآثار المترتبة على النجاسة فعلاً، كالمانعية من لبسه أو السجود عليه في الصلاة، وحرمة الأكل والشرب ونحوها. للعلم به تبعاً للعلم بالنجاسة إجمالاً، دون الآثار التعلقية التي تترتب عليه بتوسط أمر غير حاصل فعلاً، كنجاسة الملاقي الموقوفة على الملاقاة، إذ بعد فرض عدم تحقق ذلك الأمر حين العلم بالنجاسة لا يعلم بحصول التكليف إجمالاً، فلا موجب لتنجزه بالعلم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 48

من أطراف الشبهة غير المحصورة (1). ولا فرق بين العلم بالحكم التكليفي أو الوضعي والجاهل بهما (2)

بالنجاسة.

ومن ثم كان التحقيق عدم الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة. إلا أن يكون بنفسه طرفاً لعلم إجمالي منجز، كما لو لاقى كل طرف من أطراف العلم الإجمالي ثوباً، حيث يعلم حينئذ بنجاسة الثياب الملاقية.

والظاهر أن ذلك هو مراد سيدنا المصنف (قدس سره)، وإن أوهم كلامه عموم تنزيل أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة منزلة النجس بنحو يشمل ذلك، بل بنحو يقتضي ترتب آثار النجس على كل منهما، فلا تصح الصلاة لو كررها المكلف بكل منهما، مع أن ذلك غير مراد له قطعاً، وليس المراد إلا تنجز احتمال النجاسة في كل منهما، فلا تجزي الصلاة به وحده، من دون أن يمنع من صحة الصلاة بهما معاً التي يعلم معها بتحقق الصلاة بالطاهر.

(1) وكذا إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن الابتلاء، فإن العلم الإجمالي لا يكون منجزاً ولو مع انحصار الشبهة، كما لو علم إجمالاً بنجاسة ثوبه أو ثوب غيره ممن لا يأذن بالصلاة في ثوبه، حيث لا يكون العلم الإجمالي منجزاً حينئذ، ولا يمنع من الرجوع إلى أصالة الطهارة في ثوبه. وتمام الكلام في ذلك، وفي ضابط الشبهة غير المحصورة، في علم الأصول.

(2) الظاهر أن مراده بالحكم الوضعي هو نجاسة الأمر النجس، كنجاسة عرق الجنب من الحرام، ونجاسة الكافر، وبالحكم التكليفي مانعية النجاسة من الصلاة التي هي منتزعة من التكليف بالصلاة المقيدة بعدم النجاسة.

وقد أشار بذلك إلى الكلام في عموم المانعية لصورة الجهل بالحكمين المذكورين أو بأحدهما، كما لو صلى في الثوب الملاقي للمتنجس بتخيل طهارته، للجهل بأن

ص: 49

المتنجس ينجس، أو صلى بالثوب الملاقي لقليل من المني عالماً بنجساته لتخيل أن المني كالدم يعفى عن القليل منه، حيث وقع الكلام منهم في عموم المانعية لذلك بنحو يقتضي بطلان الصلاة في الفرضين المذكورين أو قصورهما عنها فتصح الصلاة فيهما معاً، أو التفصيل بينهما.

لا ينبغي التأمل في أن مقتضى إطلاق أدلة شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة عموم الشرطية أو المانعية لحال العلم بالحكم التكليفي والوضعي والجهل بهما أو بأحدهما، لأن موضوع الحكم هو الطهارة والنجاسة الواقعيان دون احرازهما، ولذا ثبت بطلان الصلاة بالنجاسة نسياناً وإن كان الناسي قد يحرز الطهارة، ولا إشكال ظاهراً في صحة الصلاة واقعاً لو صادفت الطهارة وإن لم تحرز حينها.

كما لا ريب في أن مقتضى أصل الطهارة واستصحابها جواز الدخول في الصلاة، ومقتضى استصحاب النجاسة عدمه، مع أن المحرز بالأصل هو الطهارة والنجاسة بذاتهما، لا بعنوان كونهما محرزتين. وقد أطلنا الكلام في ذلك عند الكلام في الاستدلال بصحيحة زرارة الثانية على الاستصحاب من كتابنا (المحكم في الأصول). فراجع.

ودعوى: امتناع تكليف الجاهل، لأن الغرض من التكليف إحداث الداعي للعمل، ولا يصلح التكليف للداعوية مع الجهل به.

مدفوعة بأن عدم داعوية التكليف مع الجهل به ليس لقصور في ملاكه ولا في موضوعه ولا في متعلقه، بل لتوقف داعوية الداعي - في رتبة متأخرة عن ثبوته - على الإلتفات إليه، ومثل ذلك لا يقتضي قصور التكليف، ولا الإجزاء. ولذا لا إشكال في وجوب التدارك في الوقت وخارجه مع ترك الامتثال للجهل بأصل التكليف أو الغفلة عنه. وبعبارة أخرى: مثل هذا القصور في الداعوية لا يقتضي قصور الداعي في نفسه.

والحاصل: أنه لا إشكال في أن مقتضى إطلاقات أدلة الشرطية أو المانعية العموم لصورة الجهل بالحكم الوضعي والتكليفي. ومقتضاه عدم الاجتزاء بالصلاة

ص: 50

الواقعة مع النجاسة حينئذ. وهو الحال في سائر الأجزاء والشرائط، فإن مقتضى أدلتها العموم لصورة الجهل بالحكم الشرعي المستلزم لعدم الاجتزاء مع الإخلال بالجزء أو الشرط حينئذ.

نعم قد يدعى لزوم الخروج عن ذلك بحديث: «لا تعاد الصلاة...» المشهور، وهو صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنه قال: لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود. ثم قال: القراءة سنة، والتشهد سنة، ولا تنقض السنة الفريضة»(1) ، بناء على ما هو الظاهر - وعن المشهور - من أن المراد بالطهور الإشارة للطهارة من الحدث، دون الطهارة من الخبث، لعدم الإشكال في صحة الصلاة مع الإخلال بالطهارة من الخبث للاضطرار أو الجهل.

ولاسيما مع تعليل الإعادة مع الإخلال بها نسياناً بالعقوبة في موثق سماعة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرى في ثوبه الدم، فينسى أن يغسله حتى يصلي. قال: يعيد صلاته كي يهتم بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه...»(2). فإن التعليل بالعقوبة، وإغفال التعليل بأنه من أركان الصلاة، مناسب جداً لعدم كونه من الأركان.

مضافاً إلى ما نبه له بعض مشايخنا (قدس سره) من أن ما تضمنه الذيل من أن القراءة سنة والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة. راجع للتفريق بين الأركان الخمسة المذكورة وغيرها من واجبات الصلاة بأن الأركان فريضة وغيرها سنة. والمراد بالفريضة ذلك ما فرض في الكتاب، وبالسنة ما وجب بالسنة. والذي تضمنه الكتاب هو الطهارة الحدثية دون الخبثية، وإنما استفيد اعتبارها من الصلاة من النصوص لا غير.

نعم ذكر في مجمع البيان في الوجه الأول لتفسير قوله تعالى: "وثيابك فطهر"(3)

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 29 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(3) سورة المدثر الآية: 4

ص: 51

أنه تطهير الثياب من النجاسة للصلاة، وقد يناسبه قوله تعالى قبل ذلك: "وربك فكبر".

إلا أن النصوص قد تظافرت بتفسير تطهير الثياب في الآية الشريفة بتقصيرها وتشميرها(1) وفي خبر عبد الرحمن بن عثمان: «قال أبو الحسن (عليه السلام): أن الله عز وجل قال لنبيه: وثيابك فطهر وكانت ثيابه طاهرة، وإنما أمره بالتشمير»(2).

وحينئذ يكون مقتضى عموم الحديث عدم الإعادة في المقام ونحوه من موارد الإخلال بالجزء أو الشرط للجهل بالحكم الشرعي. وهو لا ينافي ما سبق من عموم الجزئية والشرطية والمانعية لحال الجهل بالحكم الشرعي، لأن الاجتزاء بالناقص بعد وقوعه لا يتوقف على تحقق الامتثال به، ليستلزم كون متعلق الأمر المتمثل هو ما يعم الناقص، ومرجعه إلى قصور دليل الجزئية أو الشرطية عن حال الجهل، بل قد يكون للاجتزاء بالناقص حينئذ تفضلاً من المولى أو لتعذر استيفاء مصلحة التام بعد الإتيان بالناقص. كما هو الحال في النسيان أيضاً، حيث لا إشكال في الاجتزاء معه بالناقص في كثير من الموارد. وهو يبتني على ما ذكرنا، ولا يتوقف على قصور الجزئية أو الشرطية عن حال النسيان، فإنه مخالف لإطلاق أدلة الجزئية والشرطية أيضاً من دون أن ينافيه دليل الإجزاء لو تم في مورد.

هذا وعن بعض الأعاظم دعوى اختصاص حديث: «لا تعاد...» بالنسيان لوجه ذكره بعض مشايخنا في المقام، وقد يرجع لما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في أوائل فصل الخلل في الصلاة وقد أطالا في مناقشته ودفعه بما يغني عن التعرض له. بل هو لا يرجع إلى محصل ظاهر بعد وضوح صدق الإعادة مع الجهل كالنسيان بلحاظ أن الأمر المعاد من سنخ المأتي به.

نعم قد يدعى لزوم حمله على خصوص النسيان لأحد الأمرين:

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 22 من أبواب أحكام الملابس.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 22 من أبواب أحكام الملابس حديث: 8.

ص: 52

الأول: الإجماع المدعى على أن الجاهل بالحكم بحكم العامد. لكنه - لو تم - ليس بنحو يصلح للخروج عن مقتضى إطلاق الحديث، لعدم وضوح ابتنائه على تعبد شرعي لم يصل إلينا، بل قد يبتني على ملاحظة القواعد العامة من دون خصوصية للصلاة، مع الغفلة عن إطلاق الحديث فيها المخرج عن القواعد المذكورة، أو تخيل اختصاصه بالنسيان بسبب النصوص الواردة فيه بالخصوص، مع الغفلة عن عدم منافاتها لعمومه للجهل.

ولاسيما مع أن التصريح بذلك إنما حصل في عصر تحرير الفتاوى منفصلاً عن النصوص، أما القدماء الذين كانت فتاواهم تعرف من طريق روايتهم للنصوص فلا طريق لإحراز ذهابهم إلى اختصاص الحديث بالنسيان مع روايتهم له من دون تنبيه منهم لتقييده بذلك.

مضافاً إلى ذهاب جماعة كثيرة إلى الإجزاء في العبادات أو مطلقاً مع اختلاف التقليد، والعدول من مجتهد إلى آخر بأحد الأسباب المسوغة للعدول، فإنه وإن كان بينه وبين المدعى في مفاد الحديث عموم من وجه - لاختصاص المدعى بما عدا الأركان من أجزاء الصلاة وشروطها، مع عمومه للخلل السهوي وللجهل من غير جهة اختلاف التقليد، كالجهل التقصيري، واختصاص ما ذكروه بالخلل من جهة اختلاف التقليد، مع عمومه لأركان الصلاة وغيرها وسائر ما يعتبر في العبادات أو مطلقاً - إلا أن تحديد سور القضية المستفادة من الإجماع في غاية الصعوبة والإشكال.

الثاني: ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - في مباحث الخلل من كتاب الصلاة - من أن ظاهر ذيل الصحيح كون الوجه في نفي الإعادة أن ماعدا الخمسة سنة، فيجب تقييده بما دل على وجوب الإعادة بترك السنة تعمداً، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «إن الله عز وجل فرض الركوع والسجود، والقراءة سنة، فمن ترك القراءة متعمداً أعاد الصلاة، ومن نسي القراءة فقد تمت صلاته ولا شيء عليه»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 27 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 2.

ص: 53

وإطلاق الترك التعمدي يشمل الترك للجهل بالحكم.

وقد أجاب (قدس سره) عن ذلك بما حاصله: أن الترك العمدي ينصرف إلى الترك عن علم بالحكم، فهو يبتني على تعمد المخالفة وإنقاص الصلاة. ولا ينافيه مقابلته بالنسيان المشعر بانحصار الأمر بهما، لقرب كون ذكر النسيان لأنه أحد أفراد العذر أو أظهرها وأشيعها، لا لخصوصية فيه من بينها، بحيث ينحصر عدم الإعادة به.

وإن شئت قلت: لو فرض ظهور المقابلة بين العمد والنسيان في الانحصار، فالتنازل عن خصوصية النسيان وتعميم الإعادة لجميع موارد العذر الإثباتي، ومنها الجهل بالحكم، أقرب عرفاً من حمل التعمد على ما يعمّ الجهل بالحكم. ولاسيما مع بنائهم على عدم الإعادة مع الترك العمدي لنسيان الحكم أو لتخيل الإتيان بالجزء أو الشرط أو لقيام الحجة عليهما خطأ. وكذا مع الجهل بالموضوع كالصلاة في النجس أو فيما لا يؤكل لحمه لعدم علمه بلبسه. ولا أقل من الإجمال وعدم نهوض الصحيح بالاستدلال وتقييد إطلاق حديث: «لا تعاد...».

ومثله في ذلك جميع ما تضمن المقابلة بين التعمد والنسيان. وكذا موثق منصور بن حازم: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني صليت المكتوبة فنسيت أن أقرأ في صلاتي كلها. فقال: أليس قد أتمت الركوع والسجود؟ قلت: بلى. قال قد تمت صلاتك إذا كان نسياناً»(1). فإنه من القريب سوق الشرطية للحصر الإضافي في مقابل العمد، أو كونها غير مسوقة للمفهوم بل لمجرد التأكيد على مورد السؤال. ويناسبه بناؤهم على عدم الإعادة مع نسيان الحكم وغيره مما تقدم، كما أشار إلى بعض ذلك سيدنا

المصنف (قدس سره).

نعم في صحيح ميسر عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: شيئان يفسد الناس بهما صلاتهم قول الرجل: تبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك. وإنما هو شيء قالته الجن بجهالة فحكى الله عنهم. وقول الرجل: السلام علينا وعلى عباد الله

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 29 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 2.

ص: 54

الصالحين»(1) وقريب منه مرسل الصدوق. مع وضوح أن الناس من العامة إنما تأتي بالتسليم في التشهد الأول جهلاً بمبطليته.

لكن لا يبعد كون المراد بالإفساد إنقاص الصلاة والإتيان بها على خلاف الوجه المأمور به، من دون نظر للإعادة، لما سبق من أن نقص العمل وعدم مطابقته للمأمور به يجتمع مع عدم وجوب الإعادة، ولاسيما وإن قول: تبارك اسمك... ذكر يبعد وجوب إعادة الصلاة معه فالحديثان واردان لبيان عدم مشروعية الكلامين المذكورين في الصلاة، لا لبيان وجوب الإعادة بهما، فلا ينافيان عموم حديث: «لا تعاد...» للجاهل بالحكم.

على أنهما مختصان بموردهما، فلو فرض البناء على الإعادة فيه تخصيصاً للحديث فلا مانع من العمل به في غير الكلامين المذكورين.

ومن ثم لا مخرج عن إطلاق الحديث، ولا ملزم بحمله على خصوص النسيان وقصوره عن الجهل بالحكم ونحوه من الأعذار.

ثم إن بعض مشايخنا (قدس سره) فصّل في وجوب الإعادة مع الجهل بالحكم بين القاصر والمقصر، فحكم بعدم وجوب الإعادة في الأول، عملاً بإطلاق الحديث الشريف، وبوجوب الإعادة في الثاني، لأن إطلاق الحديث الشريف وإن كان شاملاً له بدواً، إلا أنه لابد من البناء على قصوره عنه، لئلا يلزم حمل أدلة الجزئية والشرطية والمانعية على خصوص صورة الإخلال العمدي مع العلم بالحكم، وهو حمل على الفرد النادر، بل غير المتحقق لأن الإقدام على الامتثال بما يعلم بعدم تماميته لا يصدر إلا من اللاعب العابث، ولا يمكن التقرب به إذا كان عبادياً إلا على وجه التشريع المحرم.

لكنه - كما ترى - يبتني على أن الاجتزاء بالناقص وعدم الإعادة معه مستلزم لكونه امتثالاً للتكليف الراجع لقصور أدلة الجزئية والشرطية والمانعية عن مورد عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 12 من أبواب التشهد حديث: 1.

ص: 55

الإعادة وتقييدها بغيره. وقد عرفت آنفاً المنع من ذلك، وأن عدم الإعادة مع النقصان قد يكون للاجتزاء بالناقص تفضلاً من المولى، أو لتعذر استيفاء ملاك التام معه من دون أن ينافي عموم مطلوبية التام، ويكون الغرض من تشريع التام مطلقاً الحث عليه، وجعله مورداً لمسؤولية المكلف وفي عهدته.

مع أنه إذا تم عموم حديث: «لا تعاد...» في نفسه للناسي والجاهل بقسميه، ولزم من إبقائه على عمومه حمل أدلة الجزئية والشرطية والمانعية على الفرد النادر - كما

ذكره (قدس سره) - فحيث لا شاهد من الحديث ولا غيره على التفصيل بين القاصر والمقصر، بل هو مغفول عرفاً، يلزم البناء على إجمال الحديث، أو حمله على خصوص النسيان، لأنه المتيقن للإجماع على إرادته منه وللأدلة الكثيرة الواردة على عدم الإعادة معه.

وبالجملة: لا مجال للتفصيل المذكور بعد عدم الشاهد عليه، وهو كغيره من التفصيلات التبرعية، بل لابد إما من البناء على اختصاص الحديث بالنسيان - كما هو المشهور - أو البناء على عمومه لغيره من الأعذار الإثباتية، كالجهل بالحكم ونسيانه وغيرهما، كما هو الظاهر.

أما سيدنا المصنف (قدس سره) فهو مع التزامه بعموم الحديث للجاهل بالحكم بقسميه قد ذكر أنه لابد من الخروج عنه في خصوص المقام بما تضمن وجوب الإعادة على من صلى عالماً بالنجاسة، كصحيح عبد الله بن سنان: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم. قال: إن كان قد علم أنه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلي، ثم صلى فيه ولم يغسله، فعليه أن يعيد ما صلى، وإن كان لم يعلم به فليس عليه إعادة»(1). وفي صحيح محمد بن مسلم في الدم يكون في الثوب: «وإذا كنت رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم، فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة، فأعد ما صليت فيه»(2) وفي حديث إسماعيل الجعفي في الدم يكون في الثوب أيضاً: «وإن كان أكثر من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 56

قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته...»(1) ، وفي خبر علي بن جعفر: «إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي...»(2) ونحوها غيرها.

وتوضيح ما ذكره: أنه لا مجال لحمل هذه النصوص على خصوص صورة العلم بالنجاسة والمانعية، إما لوضوح وجوب الإعادة فيها بنحو يستغنى معه عن السؤال كما ذكره (قدس سره)، وإما لعدم الإقدام على الامتثال بما يعلم بعدم تماميته إلا من العابث، ولا يمكن معه التقرب إلا على وجه التشريع المحرم، نظير ما تقدم من بعض مشايخنا (قدس سره).

وحينئذ تكون هذه النصوص أخص من حديث «لا تعاد...»، لورودها في خصوص النجاسة وعمومه لغيرها من غير الخمسة.

وقد أجاب عن ذلك بعض مشايخنا بأن الأمر بالإعادة في هذه النصوص للإرشاد إلى شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة، فهي كسائر ما تضمن بيان أجزاء الصلاة وشروطها محكومة لحديث «لا تعاد...»، ولا تنهض بتخصيصه.

ويندفع بأن النصوص المذكورة ليست واردة للإرشاد إلى شرطية الطهارة أو مانعيتها وإن استفيد منها ذلك، بل هي واردة لبيان حكم وقوع الصلاة مع النجاسة بعد المفروغية عن مانعيتها في الجملة، كما يشهد به تعرضها لصورة إيقاع الصلاة جهلاً بالنجاسة، فهي مساوقة لحديث: «لا تعاد...» وفي مرتبته، ولا وجه لحكومته عليه، خصوصاً بملاحظة ما سبق من امتناع حملها على خصوص صورة العلم بالحكم.

فالعمدة في الجواب عن هذه النصوص: أنه لم يفرض فيها العلم والإلتفات للنجاسة حين الصلاة، بل صريح جملة منها فرض العلم بها قبل الصلاة، وهو محتمل الباقي أو الظاهر منه، ولا شاهد على حملها على صورة الإلتفات لذلك حين الصلاة - إما مع سبق العلم بها أو حصوله حين الصلاة - مع كون العذر هو الجهل بالمانعية،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 10.

ص: 57

بل هو يحتاج إلى كلفة وتنبيه، بل هي تنصرف إلى صورة الغفلة والنسيان حين الصلاة، لأن ذلك هو العذر الشايع عند الناس الذي تكرر ذكره في النصوص. ولا أقل من الإجمال الموجب للاقتصار في الخروج عن إطلاق حديث: «لا تعاد...» على المتيقن، وهو نسيان النجاسة.

ودعوى: أن مقتضى إطلاق النصوص الحمل على الأعم من الأمرين معاً. مدفوعة بأن تعليل الإعادة مع النسيان بالعقوبة في موثق سماعة السابق، والتعبير معه بتضييع الغسل في صحيح محمد بن مسلم السابق أيضاً، مناسبان لكون العلم السابق بالنجاسة مقتضياً للعمل، لفرض العلم بالمانعية، إذ مع الجهل بالمانعية لا موضوع للعقوبة والتضييع. فمع فرض شمول هذه النصوص للعلم السابق مع النسيان المفروض معه العلم بالمانعية لا يمكن عرفاً شمول إطلاقها لصورة العلم المقارن للصلاة مع الجهل بالمانعية، لعدم الجامع بين الأمرين عرفاً.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن مقتضى إطلاق ما تضمن إعادة الصلاة بالنجاسة نسياناً العموم لصورة الجهل بالحكم الوضعي أو التكليفي، وحيث كان أخص من حديث: «لا تعاد...» تعين العمل بإطلاقه، وإذا كان العلم بالنجاسة السابق على الصلاة مع النسيان موجباً للإعادة مع الجهل بالحكم فالعلم بها المقارن للصلاة أولى بأن يكون موجباً لها مع الجهل المذكور.

لاندفاعها بأن التعبير بالتضييع والتعليل بالعقوبة لا يناسبان الإطلاق المذكور، بل يتعين لأجلهما حمله على خصوص صورة العلم بالحكم. بل الإنصاف أن الإطلاق المذكور منصرف إلى ذلك مع غض النظر عن التعليل والتعبير المذكورين، لانصرافه إلى ما إذا كان النسيان هو السبب في الصلاة مع النجاسة، بحيث لولاه لم تقع الصلاة معها، وذلك إنما يكون مع العلم بالحكم، أما مع الجهل به فالصلاة تقع بالنجاسة حتى مع العلم بها والإلتفات إليها، ولا أثر للنسيان.

وقد تحصل من جميع ما تقدم أنه لا مخرج عن إطلاق حديث: «لا تعاد...»

ص: 58

في جميع ذلك (1).

المقتضى للإجزاء مع الجهل بالحكم التكليفي والوضعي في النجاسة وغيرها، فاللازم البناء عليه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) يعني: في اشتراط الطهارة في البدن واللباس، وطهارة مسجد الجبهة، وجريان حكم العلم الإجمالي، فلا يفرق فيها بين العلم بالحكم الوضعي والتكليفي والجهل بهما أو بأحدهما. هذا هو الذي يظهر من سياق كلامه (قدس سره).

لكن عموم ذلك لطهارة مسجد الجبهة لا يخلو عن إشكال بناء على ما ذكره من أن المخرج عن إطلاق حديث «لا تعاد...» هو ما تضمن إعادة الصلاة مع العلم بالنجاسة، لاختصاصه بنجاسة الثوب والبدن، وعدم وروده في مسجد الجبهة وكذا الحال فيما دل على بطلان الصلاة مع نسيان النجاسة. وإلحاق مسجد الجبهة بالثوب والبدن يحتاج إلى دليل، فلا مخرج فيه عن إطلاق حديث: «لا تعاد...» مع النسيان، فضلاً عن الجهل بالحكم التكليفي أو الوضعي.

كما أن جريان حكم العلم الإجمالي لا يخلو عن إشكال أيضاً، إذ مع الجهل بأحد الحكمين لا يتنجز العلم الإجمالي بالنجاسة، ولا يمنع من الامتثال. فإذا صلى المكلف بأحد الثوبين المعلوم ملاقاة أحدهما للكافر مثلاً، وهو لا يرى نجاسته أو لا يرى مانعية النجاسة، ثم علم بذلك بعد الفراغ من الصلاة، فإن تبين أن الثوب الذي صلى فيه هو الثوب الطاهر فلا إشكال في صحة صلاته، لمطابقتها للمأمور به وتأتي قصد القربة منه بسبب جهله بالحكم حينها.

وإن تبين أنه الثوب النجس فالظاهر البناء على صحة صلاته أيضاً حتى لو تم ما سبق منه (قدس سره) في الجاهل بالحكم، لعدم شمول ما تضمن بطلان الصلاة في الثوب الذي علم بنجاسته له، لأن الذي سبق العلم به هو نجاسة أحد الثوبين، لا

ص: 59

(60) (مسألة 32): لو كان جاهلاً بالنجاسة ولم يعلم بها حتى فرغ من صلاته فلا إعادة عليه في الوقت (1)

خصوص الثوب الذي صلى فيه، فلا مخرج عن حديث: «لا تعاد...». بل ذلك هو مقتضى إطلاق ما تضمن صحة الصلاة بالثوب جهلاً بنجاسته.

ولا مجال لقياسه بما إذا صلى فيه مع العلم بالحكم، لانصراف الجهل بالنجاسة إلى الجهل المعذر، ولا يشمل الجهل مع تنجز احتمال النجاسة بالعلم الإجمالي. كما أن حديث: «لا تعاد...» يقصر عندهم عن صورة التردد في صحة الصلاة حين الانشغال بها.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يتبين أحد الأمرين، حيث يتعين البناء على الصحة حتى لو فرض البطلان في الصورة الثانية. لقاعدة الفراغ، بناء على ما هو الظاهر من عمومها لما إذا علم بالغفلة حين العمل عن منشأ الشك في البطلان. فلاحظ.

(1) وفاقاً للمشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً. كذا في الجواهر. وهو مقتضى إطلاق الشيخ في مبحث لباس المصلي من النهاية، بل هو كالصريح منه في مبحث تطهير الثياب والبدن من النجاسات. وكذا في التهذيبين.

ويقتضيه - مضافاً إلى إطلاق حديث: «لا تعاد...» بناء على ما تقدم - النصوص الكثيرة. كصحيح عبد الله بن سنان المتقدم، وصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد»(1) ، ونحوه صحيح عبد الله بن سنان وصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إن أصاب ثوب الرجل الدم، فصلى فيه وهو لا يعلم، فلا إعادة عليه، وإن هو علم قبل أن يصلي، فنسي وصلى فيه، فعليه الإعادة»(2) ، وغيرها مما يأتي بعضه.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 5، 7.

ص: 60

لكن صرح في المبسوط ومياه النهاية بوجوب الإعادة إذا علم بوقوع الصلاة في النجاسة في الوقت وهو ظاهره في الخلاف، وتبعه على ذلك ابن زهرة في الغنية وجماعة، بل في الغنية الإجماع عليه.

قال في المنتهى: «احتج الشيخ بأنه لو علم في الصلاة الإعادة، فكذا إذا علم في الوقت». وهو - كما ترى - بالقياس أشبه.

نعم قد استدل له - مضافاً إلى الأصل - بصحيح وهب بن عبد ربه عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الجنابة تصيب الثوب، ولا يعلم به صاحبه، فيصلي فيه، ثم يعلم بعد ذلك. قال: يعيد إذا لم يكن علم»(1) ، وموثق أبي بصير عنه (عليه السلام): «سألته عن رجل صلى وفي ثوبه بول أو جنابة. قال: علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم»(2). بدعوى: أن مقتضى الجمع بينهما وبين النصوص السابقة حملهما على وجوب الإعادة إذا علم بالنجاسة في الوقت، وحمل النصوص السابقة على نفي القضاء إذا علم بها بعده.

وفيه أولاً: أن متن الحديثين لا يخلو عن إشكال، لأن صحيح وهب قد رواه في الوسائل عن الشيخ، والموجود في التهذيب بطبعتيه القديمة والحديثة، وفي الاستبصار بطبعته الحديثة روايته هكذا: «لا يعيد إذا لم يكن علم». وهو الأنسب بالشرط الذي تضمنه الصحيح، لأن الذي يناط بعدم العلم هو عدم الإعادة. أما على المتن الأول فلابد من تنزيل الشرط على محض الإشارة لمورد السؤال، وهو خلاف الظاهر جداً.

نعم في الطبعة القديمة للاستبصار روايته كما في الوسائل. وهو المناسب لما في التهذيب من عدّ الصحيح من النصوص الموهمة للإعادة، المحتاجة للتأويل. لكن ذلك وحده لا يكفي في ردّ النسخة الأخرى والاستدلال بالصحيح لوجوب الإعادة.

وأما موثق أبي بصير فالاستدلال به موقوف على أن يكون قوله (عليه السلام): «علم به أو لم يعلم» قضية شرطية مسوقة للتعميم في الحكم بعدم الإعادة، وقوله (عليه السلام): «إذا

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 8، 9.

ص: 61

علم» مسوقاً لبيان إناطة الإعادة بالعلم بعد الصلاة بوقوعها حال النجاسة. وهما وإن كانا مناسبين للتفريع بالفاء في قوله (عليه السلام): «فعليه الإعادة»، لدخولها على جواب الشرط إذا كان جملة اسمية، إلا أنهما مخالفان للظاهر جداً.

أما الأول فلعدم ما يثير احتمال الاختصاص بالعلم بعد إطلاق السؤال، ولاسيما مع ابتناء التعميم قبل بيان الحكم على عناية، وليس هو كتعميمه بعد بيانه.

وأما الثاني فلأن الإناطة المذكورة راجعة إلى إناطة تنجز الحكم بالعلم بموضوعه التي هي عقلية محضة مستغنية بوضوحها عن تعرض الإمام لها في الجواب.

مع أن متعلق العلم في الفقرة الأولى إن كان هو العلم حين الصلاة بالنجاسة فالإناطة في الفقرة الثانية إنما يحتاج إليها على الشق الثاني من التعميم، أما على الشق الأول فهي مستغنى عنها، لأن العلم حين الصلاة بالنجاسة مستلزم للعلم بوقوع الصلاة حينها.

وإن كان هو العلم قبل الصلاة بالنجاسة مع فرض الغفلة عنها حين الصلاة، لزم اختلاف متعلق العلم في الفقرتين، وهي مخالفة أخرى للظاهر. وبذلك يظهر أن الوجه الذي يبتني عليه الاستدلال بالموثق مستلزم لركاكة متنه.

ومن هنا لا يبعد حمل قوله (عليه السلام): «علم به أو لم يعلم» على الاستفهام، وحمل قوله (عليه السلام): «فعليه الإعادة إذا علم» على التفصيل في الإعادة بين شقي الاستفهام. غاية الأمر أنه قد لا يناسب ذلك التفريع بالفاء، إلا أنه أهون مما سبق على الوجه الأول بكثير. وحينئذ يكون مطابقاً لنصوص المشهور. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال، أو الذي يلزم معه الحمل على الثاني بقرينة نصوص المشهور.

وثانياً: أنه لا شاهد على الجمع المذكور لعدم الإشارة للتفصيل المذكور في شيء من النصوص المتقدمة. ومجرد التعبير بالإعادة في صحيح وهب وموثق أبي بصير لا يقتضي الاختصاص بما إذا علم بالنجاسة في الوقت، لأن الإعادة أعم من القضاء.

ص: 62

لكن ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الشاهد عليه ما دلّ على عدم وجوب القضاء من الإجماع وصحيح العيص: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل صلى في ثوب رجل أياماً، ثم إن صاحب الثوب أخبره أنه لا يصلى فيه. قال: لا يعيد شيئاً من صلاته»(1) ، ونحوه صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال: إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي، ولا ينقص منه شيء، وإن كان قد رآه وقد صلى فليعتد بتلك الصلاة، ثم ليغسله»(2) بدعوى: أنه بعد تقييد صحيح وهب وموثق أبي بصير المتضمنين للإعادة بذلك، وحملهما على خصوص الإعادة في الوقت، يكونان أخص من نصوص عدم الإعادة، فتقيد بهما وتحمل على ما إذا علم بالنجاسة بعد الوقت.

وفيه: أنه لا مجال لدعوى الإجماع الحجة بعد ظهور أن اختلاف الأصحاب في المسألة للاختلاف في مفاد النصوص والجمع بينها، لا للمفروغية عن وجوب القضاء، ولاسيما مع ظهور محكي المنتهى وجود الخلاف، حيث نسب سقوط القضاء لأكثر أصحابنا. بل صرح في الخلاف باختلاف أصحابنا في مسألة من صلى بالنجاسة ثم علم بذلك إلى أربعة أقوال، منها: وجوب الإعادة والقضاء مطلقاً علم بالنجاسة قبل الصلاة أو لم يعلم.

بل القول المذكور هو ظاهر الصدوق والمفيد، قال في الفقيه: «وإن كان الدم دون حمصة فلا بأس بأن لا يغسل. إلا أن يكون دم الحيض، فإنه يجب غسل الثوب منه ومن البول والمني قليلاً كان أو كثيراً، وتعاد منه الصلاة علم به أو لم يعلم». وقال في المقنعة في أواخر باب أحكام السهو في الصلاة: «ومن ظن أنه على طهارة فصلى ثم علم بعد ذلك بأنه كان نجساً ففرط في صلاته فيه من غير تأمل له أعاد ما صلى فيه في ثوب طاهر من النجاسات».

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 6، 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 6، 10.

ص: 63

وأما صحيح العيص فهو - مع ابتنائه على حجية خبر صاحب الثوب - لا يختص بالقضاء، بل يشمل الإعادة، لعمومه لما إذا أخبره الرجل بعد صلاته في يومه أو ليلته قبل خروج وقتها. وأما صحيح علي بن جعفر فلو فرض ظهور صدره المتضمن لأمر بالتدارك بالقضاء في القضاء المقابل للإعادة، إلا أنه لا إشكال في عموم ذيله المتضمن لعدم التدارك لما إذا رآه بعد الصلاة قبل خروج وقتها.

وثالثاً: أن الجمع المذكور تأباه جملة من نصوص المشهور، لقوة ظهورها في أن موضوع عدم الإعادة الصلاة مع الجهل بالنجاسة، في قبال الصلاة مع سبق العلم بها، من دون إشارة لمضي وقتها. ولاسيما مثل صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً وهو يصلي. قال: لا يؤذنه حتى ينصرف»(1) ، وصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين، ثم علم به. قال: عليه أن يبتدئ الصلاة. قال: وسألته عن رجل يصلي وفي ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم. قال: مضت صلاته ولا شيء عليه»(2).

وصحيح زرارة: «قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر فيه شيئاً، ثم صليت فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لم ذاك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً»(3). فإن التعليل فيه كالصريح في أن منشأ عدم الإعادة وجود العذر المسوغ للصلاة، وهو لا يناسب جداً وجوب الإعادة في الوقت وعدم سقوطها إلا بخروجه. ومن ثم لا مجال للجمع المذكور بعد خلوه عن الشاهد وإباء النصوص له.

هذا وفي الدروس: «ولو جهل النجاسة فالأقوى الصحة. وقيل: يعيد في الوقت. وحملناه في الذكرى على من لم يستبرئ بدنه وثوبه عند الظنة، للرواية».

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 41 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 64

وقد يستفاد ذلك من الصدوق في الفقيه، حيث أرسل فيه رواية بالتفصيل المذكور في المني(1). ولعلها رواية ميمون [منصور] الصيقل عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قلت له: رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل، فلما أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة. فقال الحمد لله الذي لم يدع شيئاً إلا وله حد. إن كان حين قام نظر فلم ير شيئاً فلا إعادة عليه، وإن كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة»(2).

وقد يناسبه مفهوم صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: «ذكر المني فشدده، فجعله أشد من البول. ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك. فكذلك البول»(3). وقد قوّاه في الحدائق جمعاً بين النصوص المتقدمة، بشهادة هذه النصوص. بل استظهره من عبارة المقنعة المتقدمة.

لكن المقابلة بين الصدر والذيل في صحيح محمد بن مسلم تناسب عدم سوقه للمفهوم، وأن ذكر النظر لمجرد تحقق موضوع عدم إصابة النجاسة والجهل بها، فيشكل جعله شاهداً في المقام على التفصيل المذكور.

نعم هو صريح خبر الصيقل ومرسل الصدوق. إلا أنهما لم يتضمنا تقييد الإعادة بظن الإصابة، بل ولا يعم الشك فيها، والبناء على إطلاقهما لا يناسب أكثر نصوص المشهور، لقوة ظهورها في أن المدار على الجهل، خصوصاً صحيح العيص المتقدم المتضمن الصلاة في ثوب الغير من دون إشارة للسؤال منه عن أنه هل تجوز الصلاة فيه، وخبر علي بن جعفر المتقدم المتضمن إصابة الثوب بالدم عند الحجامة، وصحيح محمد بن مسلم المتضمن النهي عن إعلام المصلي بإصابة الدم لثوبه حتى يفرغ من صلاته.

كما أن حمل الخبر والمرسل على خصوص صورة الظن التي يسهل تنزيل كثير من نصوص المشهور على غيرها بلا شاهد، فيكون الجمع بذلك تبرعياً.

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 4، 3، 2.

ص: 65

(66) (66)بل هو لا يناسب ما في صحيح زرارة، حيث قال - بعدما تقدم فيه من الحكم بعدم الإعادة مع الجهل -: «قلت: فهل عليّ أن شككت في أنه أصابه أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك»(1).

ومنه يظهر الإشكال فيما ورد في الحدائق من أن عدم وجوب النظر لا ينافي وجوب إعادة الصلاة معه. لظهور الصحيح في انحصار فائدة النظر في إذهاب الشك، مع أنه لو وجبت الإعادة لكان من فوائده المهمة التحفظ على صحة الصلاة وتجنب وجوب إعادتها لو ظهر له بعد ذلك نجاسة الثوب. ومن ثم يتعين الجمع بينهما وبين نصوص المشهور بحملهما على الاستحباب.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن مقتضى ما يأتي في مبحث العفو عن الدم دون الدرهم عن ابن أبي عقيل أنه يرى أن الصلاة في الدم إنما تجزي مع الجهل إذا كان الدم بقدر الدينار. ويظهر ضعفه مما سبق، لظهور عموم بعض نصوصه لما زاد عن قدر الدينار والدرهم من الدم، كصراحة جملة منها في العموم لغير الدم من النجاسات. وكذا مما يأتي من نصوص العفو عن الدم دون الدرهم، لصراحتها في الصحة مع العلم.

الثاني: أنه ورد في حديث أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام): «قال: لا تعاد الصلاة من دم لا [لم] تبصره غير دم الحيض، فإن قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء»(2). وعن بعض نسخ الكافي روايته هكذا: «من دم تبصره». وكيف كان فمقتضاه وجوب إعادة الصلاة في الثوب الذي أصابه دم الحيض وإن لم يعلم بإصابته له، استثناء من عموم نصوص المشهور المتقدمة.

وقد يستشكل فيه من وجهين:

الأول: أن الحديث المذكور ضعيف السند، لأن في سنده أبا سعيد المكاري

********

(1) هامش وسائل الشيعة ج: 2 باب: 41 من أبواب النجاسات ذيل الحديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 66

الذي لا نص على توثيقه. بل قد يكون في قول النجاشي في ترجمة ابنه الحسين: «كان هو وأبوه وجهين في الواقفة وكان [الحسين. ظ] الحسن ثقة في حديثه» إشعار بعدم وثاقة أبيه، كما ذكر ذلك بعض مشايخنا (قدس سره).

ويندفع بأن اقتصار النجاشي على بيان وثاقة ابنه لا يشعر بذلك بعد قرب كون منشئه أن ابنه هو صاحب الترجمة. بل تصريحه بأنهما وجهين في الواقفة مناسب جداً لكونهما وجهين في أصحابنا، لأن الواقفة فرقة منشقة على أصحابنا، والوجه فيها هو الوجه في أصحابنا قبل الانشقاق. ولاسيما مع رواية الأجلاء عنه، كأبي أيوب الخزاز وأبان ومعاوية بن وهب ويحيى الحلبي.

بل يكفي في وثاقته رواية ابن أبي عمير وصفوان عنه، مؤيداً أو معتضداً برواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه، وهو الذي أخرج البرقي من قم لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، كما تكرر منا التعرض لذلك.

على أنه يكفي في انجبار سند الحديث - لو تم ضعفه في نفسه - اعتماد الأصحاب عليه في استثناء دم الحيض من عموم العفو عن الدم القليل. ومن ثم لا ينبغي التوقف في الحديث من هذه الجهة.

الثاني: ظهور إعراض الأصحاب عن الحديث في هذا الحكم، حيث أهملوا استثناء الدم المذكور من عموم عدم إعادة الصلاة في النجس، والإعراض المذكور وإن لم يقدح في أصالة الصدور فلا ينافي ما تقدم من حجية الخبر، إلا أنه يقدح في أصالة الظهور أو الجهة، ويمنع من التمسك بهما.

اللهم إلا أن يقال: قد يبتني عدم الاستثناء منهم على حمل قوله (عليه السلام) في الحديث: «لا تبصره» وقوله: «لم يره» على الكناية عن القلة، ولو لصعوبة الخروج عندهم عن عموم النصوص الكثيرة المتضمنة عدم الإعادة مع الجهل بالنجاسة، ولاسيما مع قوة تأثر المشهور بآراء الشيخ (قدس سره) وتأويلاته.

على أن الكليني قد أودع الحديث المذكور في باب الرجل يصلى في الثوب وهو

ص: 67

ولا القضاء في خارجه (1).

غير طاهر عالماً أو جاهلاً، بنحو يظهر منه التعويل عليه في تمام مضمونه. ولعل ذلك رأي أمثاله ممن تعرف فتاواهم من رواياتهم في كتبهم المعدة للعمل.

مضافاً إلى أن مثل الصدوق والمفيد ممن يرى لزوم الإعادة والقضاء مع الصلاة في النجس جهلاً - الذي تقدم من الخلاف أنه أحد الأقوال في المسألة - مستغن عن الاستثناء. بل صرح الصدوق بالاستثناء فيما تقدم من كلامه، كما صرح به في الفقه الرضوي(1) ، الذي لا يبعد كونه كتاباً لأحد الأصحاب، ولاسيما مع ظهور اضطراب الأصحاب (رضوان الله عليهم) كثيراً في مسألة الصلاة في النجس جهلاً.

وبالجملة: من الصعب جداً مع كل ذلك استيضاح سقوط الحديث عن الحجية في هذا الحكم. ولا أقل من الاحتياط، كما جرينا عليه.

(1) قال في الجواهر: «بلا خلاف، كما في السرائر وعن التنقيح وكشف الرموز. بل في المدارك والذخيرة والحدائق أن ظاهر الأصحاب الاتفاق عليه. بل في الغنية والمفاتيح وعن المهذب الإجماع عليه». لكن تقدم أن صريح الخلاف وظاهر محكي المنتهى وجود قول من أصحابنا بوجوب القضاء، وأن القول المذكور هو ظاهر المفيد في المقنعة. ومن الغريب بعد ذلك ردّ القول المذكور في الجواهر بالإجماع المدعى مع إلتفاته لذلك.

فالعمدة في رده النصوص الكثيرة التي تقدم الاستدلال بها للمشهور الدالة بإطلاقها بل فحواها على نفي القضاء، بل هو صريح بعضها.

نعم في موثق عبد الله بن بكير: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلاً ثوباً، فصلى فيه وهو لا يصلى فيه. قال: لا يعلمه. قلت: فإن علمه؟ قال: يعيد»(2).

********

(1) الفقه الرضوي ص: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 47 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 68

(69) (مسألة 33): لو علم في أثناء الصلاة بوقوع بعض الصلاة في النجاسة، فإن كان الوقت واسعاً بطلت في واستأنف في الصلاة (1)،

وظاهره إرادة الإعلام بعد الصلاة، لا حين إعارة الثوب، وهو شامل للإخبار بعد الوقت، بل هو كالمتيقن من فرض كثرة الصلوات التي صلاها في الثوب. ولا مجال لحمله على امتناع الصلاة فيه لأمر غير النجاسة، ككون الثوب حريراً، أو من غير مأكول اللحم. لأن أظهر أفراد المانعية من الصلاة وأشيعها النجاسة.

ومن ثم يصلح الموثق شاهداً على للقول المذكور. كما قد يستشهد له بإطلاق صحيح وهب وموثق أبي بصير اللذين سبق الاستدلال بهما للتفصيل بين القضاء والإعادة، بناء على ما سبق من عدم نهوضهما به.

لكن يظهر مما سبق الإشكال في الاستدلال بصحيح وهب وموثق أبي بصير لوجوب التدارك. فلم يبق إلا موثق عبد الله بن بكير، ولا مجال للخروج به عن نصوص المشهور، بل يتعين حمله من أجلها على الاستحباب. وكذا الحال في صحيح وهب وموثق أبي بصير لو فرض نهوضهما بدواً بالاستدلال على وجوب التدارك، وغض النظر عما سبق فيهما.

(1) كما في المفاتيح والرياض، وظاهر الوحيد في حاشيته على المدارك القول به. بل مقتضى ما تقدم من المنتهى عن الشيخ في وجه وجوب الإعادة في المسألة السابقة المفروغية عنه. لصحيح زرارة الطويل فيمن أصاب ثوبه دم رعاف أو غيره أو شيء من مني: «قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيده إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطباً، قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً»(1). لظهور صدره في كون ما رآه في أثناء الصلاة هو ما شك فيه قبلها، كما

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 69

هو المناسب لتعليل عدم الإعادة في الذيل باحتمال وقوعه عليه في الأثناء.

وصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين، ثم علم به. قال: عليه أن يبتدئ الصلاة»(1). وقوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم المتقدم: «إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته فلا إعادة عليك فكذلك البول»(2) فإنه إن لم يختص بصورة العلم بسبق النجاسة، لاستبعاد وقوع المني والبول في الأثناء، فلا أقل من كونها متيقنة من إطلاقه.

وقد يستدل أيضاً بصحيحه الأخر عنه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً وهو يصلي. قال: لا يؤذنه حتى ينصرف»(3) ، بحمل النهي فيه عن الإعلام في الأثناء على الإرشاد على المحافظة على صحة الصلاة، وذلك لا يكون إلا مع البطلان لو علم بالنجاسة في الأثناء. لكنه غير ظاهر، لامكان ورود النهي المذكور للإرشاد إلى عدم إحراجه بتكليف نزع الثوب في الأثناء لو أمكن والبطلان مع تعذر نزعه. فالعمدة الصحاح الثلاثة الأول.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): «وبها يخرج عما دل على نفي الإعادة في الجاهل، سواءً كان دالاً على حكم المقام بالإطلاق أم بالأولوية». وظاهره المفروغية عن نهوض ما دل على صحة الصلاة بالنجاسة جهلاً بصحتها في المقام، كما هو ظاهر الجواهر وغيره أيضاً.

لكن لا مجال لاستفادته من إطلاقه بعد اختصاص أدلته بالإلتفات بعد الصلاة. كما لا مجال لاستفادته منه بالأولوية، لأن الاجتزاء بالناقص مع الغفلة عن نقصه وعدم الإلتفات إليه إلا بعد إكمال العمل لا يستلزم الاجتزاء به مع الإلتفات

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 41 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 70

إليه في الأثناء، بحيث له البناء على ما مضى منه وإكماله. نظير الاجتزاء بالناقص مع عدم الإلتفات لنقصه إلا بعد الوقت، بحيث لا يجب القضاء، فإنه لا يستلزم الاجتزاء به مع الإلتفات إليه في الوقت بحيث لا تجب الإعادة.

نعم يتجه الإطلاق والأولوية من حيثية مقدار النقص، فإن ما دل على الاجتزاء بالصلاة في النجاسة جهلاً كما يشمل إيقاعها بتمامها في النجاسة يشمل إيقاع بعضها فيها، بل الثاني أولى بالاجتزاء به. لكن لابد من اشتراك الكل في عدم الإلتفات للنقص إلا بعد الفراغ من الصلاة، وهو خارج عن محل الكلام.

كما أنه لو كان الاجتزاء بالصلاة في النجاسة جهلاً مبنياً على أن المانع ليس هو النجاسة الواقعية، بل إحرازها - فتكون الصلاة المذكورة من أفراد المأمور به التامة التي يتحقق بها الامتثال - يتجه الإطلاق والأولوية أيضاً، فمع الإلتفات للنجاسة في أثناء الصلاة لا نقص فيما وقع منها، كما لا نقص فيها لو وقعت بتمامها مع النجاسة جهلاً، فيتعين الاجتزاء به والبناء عليه وإكمال الصلاة خالية من المانع المذكور.

نعم يختص ذلك بما إذا كان الالتفات له بعد التخلص منه، كما لو صلى في ثوب نجس جهلاً ركعتين، ونزعه، ثم علم بنجاسته. أما إذا التفت إليه قبل التخلص منه ونزعه، فقد يشكل بلحاظ العلم بلبس النجس في الصلاة من حين الالتفات للنجاسة إلى حين التخلص منها بالنزع.

على أنه سبق ضعف المبنى المذكور وأن الاجتزاء بالصلاة مع النجاسة جهلاً ليس لكونها امتثالاً تاماً بل للاجتزاء بالناقص تفضلاً. وحينئذ يحتمل اختصاص ذلك بما إذا كان الإلتفات للنقص بعد الفراغ من الصلاة الذي هو مفاد الأدلة، ولا طريق لتعميمه لما إذا كان الإلتفات إليه في أثنائها، كما ذكرنا.

وقد ظهر بذلك أن ما تضمنته الصحاح المذكورة مطابق لمقتضى القاعدة، وهو عدم إجزاء الناقص من دون أن ينافي ما تضمن صحة الصلاة بالنجاسة جهلاً، كي يدعى أنها هي المخرجة عنه، كما تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره) وجرى عليه غيره.

ص: 71

ومنه يظهر الحال فيما لو علم في أثناء الصلاة بعد التخلص من النجاسة بوقوع بعض الصلاة معها، كما لو نزع ثوبه في أثناء الصلاة فظهر له بعد نزعه قبل الفراغ من الصلاة أنه كان نجساً. فإنه وإن كان خارجاً عن مورد الصحاح المتقدمة، إلا أن بطلان الصلاة حينئذ هو مقتضى القاعدة الأولية، من دون أن تنهض نصوص صحة الصلاة مع النجاسة جهلاً بالخروج عنها، لما سبق.

اللهم إلا أن يخرج عن القاعدة المذكورة بعموم حديث: «لا تعاد الصلاة...»، بناء على ما تقدم في المسألة الواحدة والثلاثين من اختصاص الطهور المستثنى فيه بالطهارة الحدثية.

هذا وقد صرّح المحقق (قدس سره) في مورد الكلام بأنه إن أمكنه إلقاء الثوب النجس والتستر بغيره من دون فعل مناف للصلاة وجب، وإلا استأنف الصلاة، وحكاه في مفتاح الكرامة عنه وعن العلامة في كتبهما. وسبقهما إلى ذلك الشيخ في مبحث لباس المصلي من النهاية. وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بين أجلاء القائلين بمعذورية الجاهل مطلقاً إلى ما بعد الفراغ». بل قال بعد تقريب عدم الفرق في معذرية الجهل بالنجاسة - على القول به - بين تمام الصلاة وبعضها: «ولذا لم يعرف خلاف بين الأصحاب على هذا التقدير، بل نفى عن الإشكال عنه في الذكرى ونسبه إلى الوضوح في مجمع البرهان». وهو مبتن على ما سبق من الإطلاق والأولوية الذين عرفت الإشكال فيهما.

وأشكل من ذلك جري الشيخ في المبسوط على التفصيل المذكور مع تصريحه فيه قبل ذلك بوجوب إعادة الصلاة مع الإلتفات للنجاسة بعد الفراغ منها قبل خروج الوقت، كما تقدم.

وكيف كان فقد يستدل لهم بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إن رأيت في ثوبك دماً وأنت تصلي ولم تكن رأيته قبل ذلك، فأتم صلاتك، فإذا انصرفت فاغسله. قال: وإن كنت رأيته قبل أن تصلي فلم تغسله، ثم رأيته بعد وأنت

ص: 72

في صلاتك فانصرف فاغسله وأعد صلاتك»(1). وموثق داود بن سرحان عنه (عليه السلام): «في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دماً قال: يتم»(2).

بحملهما على المضي في الصلاة مع التخلص عن النجاسة بنزع الثوب أو تطهيره، وحمل الصحاح السابقة على صورة تعذر التخلص عنه، بشهادة صحيح محمد بن مسلم: «قلت له الدم يكون عليّ وأنا في الصلاة. قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره، وإن لم عليك ثوب غيره فامض في صلاتك، ولا إعادة عليك، ما لم يزد على مقدار الدرهم. وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم تره...»(3) ، حيث تضمن جواز المضي في الصلاة مع إمكان التخلص من النجاسة، وعدم جوازه بدونه، إلا أن تكون النجاسة معفواً عنها، لكونها دون الدرهم، فيكون شاهداً للجمع بين الطائفتين المتقدمتين.

ويشكل أولاً: بأن الاستشهاد بالصحيح المذكور موقوف على كون موضوع الشرطية الأولى هو الدم الكثير، حيث يتعين حينئذ حمل الأمر بطرح الثوب على الوجوب، وهو خلاف الظاهر جداً بعد كون موضوع الثانية خصوص القليل بقرينة قوله: «ما لم يكن...» فلابد إما من كون موضوع الشرطية الأولى خصوص القليل بأن يرجع القيد في قوله: «ما لم يكن...» للشرطيتين معاً، كما هو الظاهر، فيكون أجنبياً عن المقام، ويتعين حمل الأمر بطرح الثوب ونزعه على الاستحباب، أو كون موضوعها الأعم من القليل والكثير بأن يرجع القيد في قوله: «ما لم يكن...» للشرطية الثانية فقط، فيتعين حمل الأمر بطرح الثوب ونزعه على الأعم من الوجوب والاستحباب، فلا ينهض بإثبات وجوب النزع في الكثير، ليكون شاهد جمع بين الطائفتين.

نعم روى الشيخ (قدس سره) في التهذيب الصحيح المذكور بسنده عن الكليني هكذا: «ولا إعادة عليك وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشيء». ومقتضاه أن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب النجاسات حديث: 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 73

موضوع الشرطيتين معاً الدم الكثير، فتدل الشرطية الأولى على وجوب الطرح والنزع مع الامكان وصحة الصلاة حينئذ كما عليه المشهور، ويكون الحديث شاهد جمع بين الطائفتين. وأما الشرطية الثانية المتضمنة صحة الصلاة مع تعذر الطرح والنزع، فلابد من طرحها، لمخالفتها لاتفاق الأصحاب، ولا تمنع من الاستدلال بالشرطية الأولى، كما في الجواهر.

لكن في نهوض الاتفاق المدعى بإسقاط إحدى الشرطيتين عن الحجية دون الأخرى مع ظهور الارتباط بينهما إشكال. على أن الذي يهون الأمر هو سقوط رواية الشيخ في التهذيب عن الحجية بمعارضتها لروايته لها في الاستبصار بسنده عن الكليني أيضاً بالوجه الأول. فلا تنهض بمعارضة رواية الكافي والفقيه بالوجه الأول. ولاسيما مع ظهور كونهما أضبط. بل حصول التحريف في رواية التهذيب حينئذ كالمقطوع به.

وثانياً: بأن الجمع المذكور مما تأباه كلتا الطائفتين، فمن الطائفة الأولى صحيح زرارة المتضمن ذيله الأمر بغسل الثوب والبناء على ما مضى من الصلاة عند احتمال وقوع النجاسة في الأثناء، حيث لا مجال معه لحمل الحكم ببطلان الصلاة في الصدر على خصوص صورة تعذر التخلص من النجاسة، كما هو ظاهر.

كما أن التأكيد على عدم الفرق بين رؤية النجاسة قبل الصلاة وعدمها في

قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم المتقدم: «وما كان أقل من ذلك فليس بشيء، رأيته قبل أو لم تره» مشعر أو ظاهر في عدم كون الغفلة عن النجاسة منشأ للعفو عنها مع العلم بها في أثناء الصلاة، بل منشؤها أمر آخر. ولعله ما ذكرنا من فرض كون الدم دون الدرهم. فلاحظ.

وأما الطائفة الثانية فالأمر فيها بالمضي في الصلاة من دون تنبيه للتخلص من النجاسة ظاهر جداً في عدم وجوب التخلص منها. ولاسيما صحيح عبد الله بن سنان، فإن قوله (عليه السلام) في ذيله: «فإذا انصرفت فاغسله» كالصريح في عدم وجوب غسله حال

ص: 74

الصلاة. بل التعرض فيه لذلك مع وضوح خروجه عن حكم الصلاة المسؤول عنه لا يناسب إهمال وجوب الغسل لو كان شرطاً فيها.

وبذلك ظهر أنه لا مجال للجمع المذكور بذلك، لا بشهادة صحيح محمد بن مسلم، ولا بشهادة الإجماع على عدم جواز المضي في الصلاة من دون تخلص من النجاسة.

نعم لو أمكن حمل الطائفة الثانية على المضي في الصلاة مع التخلص من النجاسة، ولو بقرينة الإجماع المدعى، لأمكن الجمع بينها وبين الطائفة الأولى، إما بحمل الطائفة الأولى على استحباب الإعادة، أو حمل هذه الطائفة على احتمال وقوع الدم في أثناء الصلاة، وحيث لا مرجح لأحد الوجهين تعين سقوط الطائفتين معاً بالمعارضة، والرجوع للقاعدة المقتضية للإعادة، كما سبق. لكن سبق تعذر الحمل المذكور عرفاً.

ومن ثم تسقط هذه الطائفة بمخالفتها للإجماع المذكور، وتنفرد الطائفة الأولى بالحجية، معتضدة بالقاعدة المذكورة. ويتعين وجوب الاستئناف.

وأما ما في الجواهر من أن ذلك يكاد يكون خرقاً للإجماع، إذ لم نعرف أحداً قال بمعذورية الجاهل إلى ما بعد الفراغ وأوجب الاستئناف هنا.

فهو كما ترى! للاطمئنان بعدم رجوع ذلك إلى إجماع تعبدي على الملازمة، لينهض بالخروج عن مفاد الأدلة، بل هو مبني على كون ذلك مقتضى الجمع بين النصوص، فمع ظهور خطئهم فيه يتعين العمل على ما تقتضيه القاعدة والنصوص المعتبرة، وهو ما تقدم، ولاسيما مع ما سبقت الإشارة إليه من ظهور اضطرابهم كثيراً في هذه المسائل.

بقي شيء: وهو أن مقتضى المقابلة في صحيح زرارة بين العلم بسبق النجاسة على الصلاة واحتمال وقوعها في الأثناء وإن كان هو الصحة مع وقوعها في الأثناء حتى لو وقع بعض الصلاة بالنجاسة، كما لو علم وهو في الركعة الرابعة بوقوعها في

ص: 75

الركعة الثالثة. إلا أن المناسبات الارتكازية تقتضي حمله على خصوص صورة عدم وقوع شيء من أجزاء الصلاة مع النجاسة كي لا يلزم فقد الصلاة لشرطها.

وإن شئت قلت: حيث لم يكن المحذور هو الصلاة مع العلم بالنجاسة، لفرض عدم العلم في المقام، فلابد من كون المحذور هو الصلاة مع النجاسة واقعاً ولو مع الجهل بها. ولا فرق ارتكازاً بين تمام ما مضى من الصلاة وبعضه في ذلك. وذلك يقتضي حمل قوله: «لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك» على إيقاعه في الأثناء من دون أن يقع شيء من الصلاة في النجاسة، لأنه مقتضى ارتكازية التعليل.

ولو فرض أجمال التعليل من هذه الجهة كان المرجع إطلاق قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم: «وإن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة» المعتضد بالقاعدة المقتضية للبطلان كما تقدم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الصحة مقتضى إطلاق صحيح محمد بن مسلم الآخر المتضمن لطرح الثوب وموثق داود بن سرحان.

فيظهر اندفاعه مما سبق من حمل صحيح محمد بن مسلم على الدم دون الدرهم، أو إجماله من هذه الجهة، ومن سقوط موثق داود بن سرحان عن الحجية بما تضمنه من جواز المضي في الصلاة مع النجس. على أنه لو تم حجية إطلاقهما كان معارضاً بإطلاق صحيح محمد بن مسلم الأول، ومع التساقط فالمرجع القاعدة التي سبق أنها تقتضي البطلان.

نعم قد يتجه العفو عن مقارنة النجاسة لما يقبل التدارك، كالقراءة والذكر، فضلاً عن المستحبات، كالقنوت، وما ليس بجزء كالجلوس من السجود. إذ بعد أن كان المستفاد من صحيح زرارة عدم مبطلية عروض النجاسة في الصلاة، وأنها ليست كالحدث، يتعين كونها مبطلة لأجزائها، فمع إمكان تدارك الجزء لا وجه للبطلان.

ولاسيما أنه من الصعب جداً حمل إطلاق قوله (عليه السلام): «لعله شيء أوقع عليك» على خصوص إيقاعه مقارناً للالتفات إليه، بحيث لم يقع شيء من أجزاء الصلاة

ص: 76

وإن كان الوقت ضيقاً حتى عن إدراك ركعة (1)، فإن أمكن التبديل أو التطهير بلا لزوم المنافي فعل ذلك وأتم الصلاة (2)،

- المبتنية بطبعها على الاستمرار والإسراع - حال حصول النجاسة.

على أن التعليل المذكور قد لا يبتني على ما ذكرنا آنفاً من كون المحذور هو وقوع أجزاء الصلاة مع النجاسة، بل على كون المحذور هو الدخول في الصلاة حال النجاسة، فمع فرض صحة الدخول فيها، للعلم بعدم وجود النجاسة قبل الصلاة، تصح الصلاة وإن وقع بعض أجزائها مع النجاسة جهلاً. بل هو أنسب بالإطلاق. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) بناءً على ما عليه الأصحاب من الاجتزاء في إدراك الوقت بإدراك ركعة، وقد تقدم الكلام فيه في المسوغ السابع من مسوغات التيمم. وتقدم هناك أن الدليل على ذلك إنما يقتضي وجوب إتمام الصلاة لو أدرك ركعة منها في الوقت، لا جواز تأخيرها حتى يبقى من الوقت مقدار ركعة، بل مقتضى ما دل على لزوم إيقاع الصلاة في الوقت عدم جواز التأخير حينئذ.

وعلى ذلك قد يدعى في المقام الاجتزاء بما وقع من الصلاة في النجاسة مع ضيق الوقت عنها بتمامها، ولا يعتبر فيه ضيقه حتى عن إدراك ركعة منها.

لكن حيث كان الاجتزاء بما وقع من الصلاة في النجاسة ليس لكونه فرداً اختيارياً، بل لكونه فرداً اضطرارياً فالمتيقن من تشريعه صورة تعذر إدراك ركعة من الصلاة في الوقت، ولا طريق لإحراز تشريعه بمجرد تعذر إيقاع تمام الصلاة فيه. فلاحظ.

(2) كما في العروة الوثقى وجملة من شروحها وحواشيها. وقد يستدل له بأحد وجهين:

الأول: أن ما دل من النصوص المتقدمة على بطلان الصلاة مع العلم بالنجاسة

ص: 77

في الأثناء ووجوب استئنافها ينصرف عن مثل المقام مما يتعذر معه استئناف الصلاة التامة في الوقت.

لكن النصوص المذكورة مسوقة لبيان بطلان الصلاة حينئذ، كبطلانها مع نسيان النجاسة، ووجوب الإعادة إنما هو تابع لذلك، من دون أن يكون قيداً في البطلان، فضلاً عن أن يكون القيد خصوص الإعادة في الوقت.

ومن ثم لا يظن منهم الالتزام بذلك مع نسيان النجاسة والالتفات لها في الأثناء لو تعذر استئنافها في الوقت، مع سوق العلم بالنجاسة قبل الصلاة وفي أثنائها في مساق واحد في صحيح محمد بن مسلم من تلك النصوص. على أنه لو فرض قصور النصوص المذكورة عن شمول الفرض كفى في البناء على البطلان القاعدة، بناء على ما تقدم.

الثاني: أن الوقت أهم من الطهارة الخبثية، فيسقط اعتبار الطهارة إذا أدى إلى فوات الصلاة في الوقت.

وفيه: أن ذلك إنما يقتضي سقوط اعتبار الطهارة في الأجزاء الباقية من الصلاة لو تعذرت الطهارة فيها، أما الأجزاء السابقة فحيث كان إيقاعها عند الشروع في الصلاة مع الطهارة ممكناً، وإنما أوقعت مع النجاسة جهلاً، فلا مزاحمة بين شرطية وقوعها بالطهارة ووجوب إيقاعها في الوقت، لتكون أهمية الوقت منشأ لسقوط شرطية الطهارة فيها بل هي قد وقعت باطلة، ولا تصح بتعذر تداركها بعد ذلك.

نعم يتجه الاستدلال بذلك فيما إذا وقعت النجاسة في أثناء الصلاة وتعذر إزالتها وضاق الوقت عن استئناف الصلاة، حيث تصح الأجزاء الأولى لوقوعها مع الطهارة، والأجزاء الباقية لسقوط شرطية الطهارة بالمزاحمة للوقت، كما يأتي في المسألة اللاحقة.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن إلحاق الجهل بالتعذر في إجراء حكم التزاحم مما يساعده المذاق العرفي. فهو غريب جداً، بل لم يلتزم هو (قدس سره) بذلك في

ص: 78

(79) وإلا صلى فيه (1). والأحوط استحباباً القضاء أيضاً.

(مسألة 34): لو عرضت النجاسة في أثناء الصلاة (2)، فإن أمكن

النسيان الذي هو نظير الجهل في المعذرية. ومن ثم كان الظاهر بطلان الصلاة في الفرض.

نعم بناء على ما عليه المشهور من صحة الأجزاء السابقة بسبب الجهل يتعين البناء على الصحة في المقام، لفرض المحافظة على الطهارة في باقي الأجزاء، كما هو الحال مع سعة الوقت.

(1) هذا يتم بناء على صحة الأجزاء السابقة - إما مطلقاً كما عليه المشهور، أو في خصوص ضيق الوقت عن الاستئناف كما سبق منه (قدس سره) - لأن مقتضى أهمية الوقت من الطهارة الخبثية سقوط اعتبارها في الأجزاء الباقية بعد الإلتفات للنجاسة، كما أصرّ عليه في الجواهر، رداً على ما في المدارك من التشكيك في الأهمية المذكورة، فإن الظاهر أن التشكيك في ذلك في غير محله، كما يظهر مما ورد في انحصار الساتر بالنجس. بل الظاهر مفروغية الأصحاب (رضوان الله عليهم) عن ذلك.

هذا كله بناءً على أنه مع انحصار الساتر في النجس يجب الصلاة فيه، أما بناء على أنه يجب الصلاة عارياً فاللازم النزع إذا كانت النجاسة في الثوب إلا مع الاضطرار للبس الثوب، فيجوز لبسه حينئذ. ويأتي الكلام في ذلك في المسألة الثامنة والثلاثين إن شاء الله تعالى.

(2) يعني: من دون أن يقع بعض الصلاة حال النجاسة. بل يكفي عدم العلم بوقوع بعضها في الحال المذكور، لاستصحاب عدم النجاسة حين الإتيان بالأجزاء الماضية من الصلاة، أو استصحاب عدم وقوع الأجزاء المذكورة مع النجاسة من باب استصحاب العدم الأزلي. ولذا كان موضوع ما يأتي من المعتبر والجواهر عدم العلم بسبق النجاسة، لا عدم سبقها واقعاً، ولا خصوص صورة العلم بعدم سبقها.

ص: 79

التطهير أو التبديل على وجه لا ينافي الصلاة فعل ذلك (1)، وأتم صلاته ولا إعادة عليه (2).

(1) من أجل رفع النجاسة المعلومة عن بقية أجزاء الصلاة، حيث سبق الاتفاق على مانعيتها من صحتها، كما هو مقتضى القاعدة العامة، والنصوص الخاصة التي يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى.

(2) قال في الجواهر: «لم أجد فيه خلافاً هنا، بل الظاهر أنه إجماعي كما اعترف بهما بعضهم». وممن ذكر الإجماع المحقق في المعتبر. وقد استدل له سيدنا المصنف بواجدية الصلاة بتمام أجزائها للطهارة، والنجاسة الطارئة إنما هي حال عدم الانشغال بشيء من الأجزاء، ولا دليل على مانعيتها. ولعله إليه يرجع ما في الجواهر قال: «ضرورة عدم كون عروض النجاسة من المبطلات القهرية كالحدث ونحوه».

وقد يشكل بأنه إن استفيد من أدلة اعتبار الطهارة في الصلاة أو مانعية النجاسة منها أن موضوع الشرطية أو المانعية هو الصلاة فلا إشكال في أن الأكوان المتخللة هي أكوان صلاتية، ولازم ذلك بطلان الصلاة بمقارنتها للنجاسة.

وإن أستفيد منها أن موضوع الشرطية أو المانعية هو الأفعال الصلاتية - التي هي المرادة من الأجزاء في كلامهم - فاللازم البناء على صحة الصلاة لو وقعت الأجزاء مع النجاسة سهواً، لكن مع تدارك الأجزاء المذكورة إذا لم يستلزم زيادة الركن.

وحيث لا إشكال في عدم البناء على ذلك وأن الأمر مردد بين صحة الصلاة من دون تدارك الأجزاء المذكورة للعفو عن النجاسة حينئذ، وبطلانها حتى مع تداركها لعدم العفو عنها لزم البناء على الأول، الذي لا يبعد كونه هو المستفاد من أدلة الشرطية أو المانعية، لظهورها في أن الموضوع هو الصلاة بما أنها عمل واحد، لا أجزاؤها بما أنها أفعال متفرقة، كما هو الحال في سائر الشروط التي تضمنتها الأدلة اللفظية، كالطهارة الحدثية والستر والاستقبال وغيرها.

ص: 80

فالعمدة في المقام النصوص منها: قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة المتقدم في أول المسألة السابقة: «وإن لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك...»(1).

ومنها: نصوص الرعاف في أثناء الصلاة، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«سألته عن الرجل يصيبه الرعاف وهو في الصلاة. فقال: إن قدر على ماء عنده يميناً أو شمالاً أو من بين يديه، وهو مستقبل القبلة، فليغسله عنه، ثم ليصل ما بقي من صلاته، وإن لم يقدر على ماء حتى ينصرف بوجهه أو يتكلم فقد قطع صلاته»(2) ، ونحوه غيره. ومنها يظهر توقف صحة الصلاة على عدم لزوم المنافي من التطهير.

نعم في صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال: إذا لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، وإن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله. وعن الرجل يكون في صلاته، فرماه رجل فشجه فسال الدم، فانصرف فغسله ولم يتكلم حتى رجع إلى المسجد، هل يعتد بما صلى أو يستقبل الصلاة؟ قال: يستقبل الصلاة، ولا يعتد بشيء مما صلى»(3). وقريب منه غيره.

لكن يتعين حملها على صورة توقف التطهير على فعل المنافي - ومنه الإلتفات - كما هو الغالب بقرينة النصوص المتقدمة، فإنه أقرب عرفاً من التفصيل بين الرعاف وغيره. ولاسيما بملاحظة صحيح زرارة المتقدم الوارد في دم الرعاف وغيره والمني.

هذا وحيث كانت النصوص مختصة بصورة حصول النجاسة قهراً، فالتعدي عنها لصورة تعمد ملاقاة النجاسة، أو لبس النجس، من دون أن ينشغل حالها بأفعال الصلاة موقوف على تحقيق مقتضى القاعدة التي تقدم الكلام فيها في تعقيب ما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) ، وسائل الشيعة ج: 4 باب: 2 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 6، 15.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 4 باب: 2 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 6، 15.

ص: 81

(82)وإذا لم يمكن ذلك، فإن كان الوقت واسعاً استأنف الصلاة بالطهارة (1). وإن كان ضيقاً، فمع عدم إمكان النزع لبرد ونحوه - ولو لعدم الأمن من الناظر - يتم صلاته، ولا شيء عليه (2). ولو أمكنه النزع ولا ساتر له غيره فلا يبعد أيضاً وجوب الإتمام فيه (3). والأحوط استحباباً القضاء أيضاً.

(مسألة 35): إذا نسي أن ثوبه نجس وصلى فيه كان عليه الإعادة إن ذكره في الوقت (4).

(1) بلا إشكال ظاهر، وقد صرح بالإجماع عليه في الجواهر. ويقتضيه - مضافاً إلى القاعدة - بعض نصوص الرعاف، ومنها قوله (عليه السلام) صحيح الحلبي المتقدم: «وإن لم يقدر على ماء حتى ينصرف بوجهه أو يتكلم فقد قطع صلاته»، ونحوه غيره.

(2) لأن الوقت أهم من مانعية النجاسة الخبثية، كما تقدم في آخر المسألة السابقة.

(3) إنما يتجه ذلك بناءً على أنه مع انحصار الساتر في النجس يجب الصلاة فيه. أما بناء على أنه يجب الصلاة عارياً مع الامكان وعدم الاضطرار للبس الثوب، فيجب نزع الثوب إذا كانت النجاسة فيه لا في البدن، والصلاة عارياً، كما تقدم نظيره في المسألة السابقة. ولعل الاحتياط الاستحبابي الذي ذكره (قدس سره) يبتني عليه. ويأتي الكلام في ذلك في المسألة الثامنة والثلاثين إن شاء الله تعالى.

(4) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، ونفى الخلاف فيه في السرائر، بل في الغنية ومحكي شرح الجمل الإجماع عليه.

للنصوص المستفيضة الواردة في نجاسة الثوب، كصحيح زرارة: «قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئاً وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك.

ص: 82

قال: تعيد الصلاة وتغسله»(1) ، وموثق سماعة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرى في ثوبه الدم، فينسى أن يغسله حتى يصلي. قال: يعيد صلاته، كي يهتم بالشيء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه»(2) ، وغيرها مما تقدم جملة منه في المسألة الثانية والثلاثين والثالثة والثلاثين.

ومثلها في ذلك النصوص الواردة في نجاسة البدن، كصحيح ابن مسكان: «بعثت بمسألة إلى أبي عبد الله (عليه السلام) مع إبراهيم بن ميمون، قلت: سله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله، فيصلي، ويذكر بعد ذلك أنه لم يغسلها. قال: يغسلها ويعيد صلاته»(3) ، ونحوه حديث الحسن أو الحسين بن زياد(4) ، ونصوص نسيان الاستنجاء، كصحيح عمرو بن أبي نصر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أبول وأتوضأ وأنسى استنجائي ثم أذكر بعدما صليت. قال: اغسل ذكرك، وأعد صلاتك، ولا تعد وضوءك»(5) وغيره.

ومال في المعتبر إلى عدم وجوب الإعادة، وحكاه في التذكرة عن الشيخ في موضع، وجزم به في المدارك، وحكي عن غيره.

لصحيح العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشيء ينجسه، فينسى أن يغسل، فيصلي فيه، ثم يذكر أنه لم يكن غسله، أيعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد، قد مضت الصلاة، وكتبت له»(6). قال في المعتبر: «قال الشيخ: هذا خبر شاذ لا يعارض به الأخبار التي ذكرناها. ويجوز أن يكون مخصوصاً بنجاسة معفو عنها. وعندي أن هذه الرواية حسنة، والأصول يطابقها، لأنه صلى صلاة مشروعة مأمور بها، فيسقط بها الفرض. ويؤيد ذلك قوله (عليه السلام): عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان. لكن القول الأول أكثر، والرواية به أشهر».

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5.

(3و4) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 4، 6.

(5) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 18 من أبواب نواقص الوضوء حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 83

ويشكل بأن ما تضمنه الصحيح مخالف للأصل، لعدم مشروعية الصلاة المأتي بها واقعاً بعد فقدها للشرط، ومقتضى الأصل عدم الاجتزاء بها. وحديث العفو عن الخطأ والنسيان إنما يقتضي عدم العقاب، لا صحة العمل الناقص والاجتزاء به بعد ظهور الحال.

نعم هو مقتضى عموم حديث: «لا تعاد الصلاة...» الذي لا إشكال في شموله للنسيان، بناء على ما تقدم في المسألة الواحدة والثلاثين من أن الطهور المستثنى فيه يختص بالطهارة الحدثية.

لكن النصوص التي اعتمدها المشهور تنهض بتخصيص العموم المذكور لولا معارضة الصحيح لها. ومن ثم لابد من علاج المعارضة المذكورة.

وقد يدعى أن مقتضى الجمع بينه وبينها حملها على استحباب الإعادة، الذي هو نحو من الجمع العرفي يرتفع معه التعارض، وعليه جرى في المدارك.

وقد استشكل فيه بعض مشايخنا بأن ذلك إنما يتم لو كان الأمر بالإعادة ونفيها في النصوص المذكورة مولويين، أما حيث كانا إرشاديين إلى بطلان الصلاة وعدمه فهماً متعارضان، للتنافي بين الفساد وعدمه.

لكنه يندفع بأن الأمر الإرشادي بالإعادة كما يمكن أن يكون إلزامياً كناية عن فساد الصلاة، يمكن أن يكون استحباباً كناية عن نقص في الصلاة لا يبلغ مرتبة الفساد وعدم الاجزاء، والأول وإن كان هو الظاهر من الأمر بالإعادة بدواً، إلا أن ورود التصريح بعدم الإعادة صالح للقرينية عرفاً على حمله على الثاني.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن اشتمال بعض النصوص على التفصيل بين الجاهل والناسي بالأمر بالإعادة في الثاني دون الأول، يأبى حمل الأمر بالإعادة للناسي على الاستحباب، لأن الجاهل أيضاً تستحب له الإعادة.

لاندفاعه بأن الاستحباب ذو مراتب، فيمكن الجمع بحمل التفصيل المذكور

ص: 84

على كون استحباب الإعادة في الناسي بمرتبة أشد. على أن الدليل على استحباب الإعادة في الجاهل ليس بذلك الوضوح. فلاحظ.

فالعمدة في وهن الجمع المذكور ما أشار إليه (قدس سره) من أن اشتمال موثق سماعة(1) على تعليل الأمر بالإعادة بالعقوبة لا يناسب الاستحباب، لعدم تحقق العقوبة به.

مضافاً إلى أن تعليل عدم الإعادة مع الشك في صحيح زرارة بالاستصحاب بعد الحكم بالإعادة مع النسيان، مع اشتراكهما في فقد الشرط لا عن عمد، راجع إلى أن الاستصحاب عذر شرعي، بخلاف النسيان ولو في خصوص المقام، وعدم كون النسيان في المقام عذراً شرعياً يناسب وجوب الإعادة، دون استحبابها. وكذا التعبير في جملة من نصوص المشهور بأن عليه الإعادة بمفاد الجملة الاسمية، ولاسيما مع ورود بعضها في فرض كثرة الصلوات وخروج وقتها(2). فتأمل. بالجملة: التأمل في مجموع نصوص الإعادة لا يناسب حملها على استحبابها.

ومن ثم كان الظاهر استحكام التعارض بين الصحيح ونصوص المشهور فاللازم النظر في المرجحات حينئذ. وقد سبق من المعتبر عن الشيخ رمي الصحيح بالشذوذ. فلا يعارض الأخبار الأول الكثيرة المشهورة رواية، لما هو المعلوم من مرجحية الشهرة في الرواية، بل هي أول المرجحات.

وهو إن كان تاماً بملاحظة حال الصحيح وحده، إلا أنه قد لا يتم بلحاظ اعتضاده بجملة من النصوص في نسيان الاستنجاء، كمعتبر هشام بن سالم: «في الرجل يتوضأ وينسى أن يغسل ذكره وقد بال. قال: يغسل ذكره ولا يعيد الصلاة»(3) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن رجل ذكر وهو في صلاته أنه لم يستنج من الخلا. قال: ينصرف ويستنجي من الخلا ويعيد الصلاة، وإن ذكر وقد فرغ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6، وباب: 40 منها حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 85

من صلاته فقد أجزأه ذلك ولا إعادة عليه»(1) ، وموثق عمار: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)

يقول: لو أن رجلاً نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة»(2) ، وصحيح عمرو بن أبي نصر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني صليت فذكرت أني لم أغسل ذكري بعد ما صليت، أفأعيد؟ قال: لا»(3).

لكن النصوص المذكورة معارضة بجملة من النصوص في موردها قد تضمنت الأمر بإعادة الصلاة، كما سبق. ومن ثم يتعين النظر في الجمع بين الطائفتين.

ومن القريب حمل صحيح عمرو بن أبي نصر على عدم إعادة الوضوء، فإنه وإن كان بعيداً بدواً، إلا أنه قد يتعين بلحاظ صحيحه المتقدم المفصل بين الوضوء والصلاة، وموثقه الآخر المقتصر فيه على عدم إعادة الوضوء(4).

كما أن موثق عمار يقرب حمله على عدم الاستنجاء من الغائط بالماء مع الاستنجاء بالأحجار، بقرينة موثقة الآخر عنه (عليه السلام): «في الرجل ينسى أن يغسل دبره بالماء حتى صلى، إلا أنه قد تمسح بثلاثة أحجار قال: إن كان في وقت تلك الصلاة فليعد الصلاة، وليعد الوضوء، وإن كان قد مضى وقت تلك الصلاة التي صلى فقد جازت صلاته، وليتوضأ لما يستقبل من الصلاة»(5). فإنه صريح في ذلك. غاية الأمر أنه يتعين حمل الأمر بالإعادة فيه على الاستحباب.

بل قد يصلح ذلك قرينة على تنزيل صحيح علي بن جعفر عليه أيضاً، ولو للجمع بين النصوص.

وأما معتبر هشام بن سالم فمتنه لا يخلو عن اضطراب، لأن السؤال فيه إنما كان عن الوضوء، ولم تفرض فيه الصلاة، ليناسب الجواب فيه بعدم إعادة الصلاة. ومن ثم قد يكون لفظ الصلاة في الجواب مصحفاً عن الوضوء الذي اختلفت النصوص

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4، 3.

(3و4) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 18 من نواقص الوضوء حديث: 6، 5.

(5) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 86

في إعادته مع نسيان الاستنجاء.

اللهم إلا أن يراد بالوضوء في السؤال غسل الغائط بالماء، كما هو غير بعيد، فيرتفع الاضطراب بذلك، ويبقى دليلاً على عدم وجوب إعادة الصلاة، ويكون عاضداً لصحيح العلاء المتقدم في الثوب.

لكنه - لو تم - لا يمنع من شذوذ الحديثين معاً في مقابل النصوص الكثيرة المتقدمة ولاسيما مع مخالفتها للمشهور بين الأصحاب. بل لم ينسب عدم وجوب الإعادة مع نسيان الاستنجاء لأحد من الأصحاب، وإنما الخلاف بينهم في وجوب إعادة الصلاة وحدها أو مع الوضوء.

كما أنه لم يظهر القول بعدم وجوب الإعادة مع الصلاة في الثوب النجس نسياناً قبل المحقق في المعتبر في كلامه السابق على تردد منه ظاهر. ونسبته في التذكرة للشيخ في موضع لا يناسبه كلامي الشيخ والمحقق المتقدمين، ولا كلام الشيخ في كتبه المعروفة. ومن ثم يشكل التعويل على النسبة المذكورة.

كما يشكل التعويل على الحديثين مع إعراض جمهور الأصحاب عنهما، وشيوع الابتلاء بالمسألة، حيث يبعد جداً خطؤهم فيها. ولا أقل من حصول الريب فيهما الملزم بالتوقف فيهما وسقوطهما عن الحجية. وتنفرد نصوص المشهور بالحجية بنحو يلزم بالعمل بها.

وأما دعوى ترجيحها بمخالفته العامة، كما يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره). فلا مجال له بعد ظهور الخلاف بينهم، واختلاف النقل عنهم، كما يظهر بمراجعة الخلاف والتذكرة. والعمدة ما ذكرنا. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

ص: 87

وإن ذكر بعد خروج الوقت فعليه القضاء (1).

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب أيضاً المنفي عنه الخلاف والمدعى عليه الإجماع في كلام من سبق في لزوم الإعادة في الوقت.

ولم يعرف الخلاف فيه إلا من الشيخ في الاستبصار، حيث ذكره وجهاً للجمع بين نصوص الإعادة وصحيح العلاء المتقدم، بشهادة صحيح علي بن مهزيار المتقدم في أدلة عدم تنجيس المتنجس، والوارد فيمن نسي تطهير كفه من البول حتى تمسّح بدهن وتوضأ وصلى، حيث قال (عليه السلام) فيه: «فإن تحققت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلاة التي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك له، من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت»(1). وقد تقدم هناك تقريب سند الحديث ووافقه على ذلك في الوسائل والمفاتيح، وحكي عن العلامة في بعض كتبه، وفي الحدائق أنه المشهور بين المتأخرين.

لكن قد يشكل ما ذكروه في المقام بأن الصحيح لا يصلح لأن يكون شاهد جمع بين صحيح العلاء ونصوص المشهور، حيث يصعب جداً حمل عدم الإعادة في صحيح العلاء على خصوص القضاء خارج الوقت، ولاسيما مع إشعاره بتمامية الصلاة وقبولها.

نعم حيث سبق وهن صحيح العلاء بشذوذه وإعراض المشهور عنه فلا يهم عدم ملائمته لصحيح ابن مهزيار، ويكفي في التفصيل جعل صحيح ابن مهزيار مقيداً لإطلاق نصوص المشهور، وقرينة على حملها على خصوص الإعادة في الوقت.

لكن تقدم في مسألة تنجيس المتنجس أن متن صحيح ابن مهزيار لا يخلو عن إشكال، لظهور صدره في أن بطلان الصلاة لخلل في الوضوء، وظهور ذيله في أن بطلانها من جهة النجاسة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 88

ولا فرق بين الذكر بعد الصلاة وفي أثنائها (1)، مع إمكان التبديل أو التطهير

ومن ثم قال سيدنا المصنف (قدس سره): «لكن يشكل بأن ذيله وإن كان صريحاً في التفصيل بين الوقت وخارجه، لكنه غير ظاهر في الناسي، ومورده وإن كان هو الناسي، لكنه لا يظهر منه كون الذيل حكماً له، لما فيه من الاضطراب في المتن فإن ظاهر صدره أن الخلل كان من الوضوء، لا من مجرد النجاسة، وذيله ظاهر في كون الخلل من جهة النجاسة، ومع هذا الاضطراب لا يحصل الوثوق النوعي بعدم طروء الخلل من جهة الزيادة أو النقيصة. بل قيل: إنه يشبه أن يكون وقع فيه غلط من النساخ».

فإن تم ذلك فهو. وإلا أشكل الاستدلال به على التفصيل المذكور بما أشار إليه في الجواهر من إباء بعض نصوص الإعادة عنه، كقوله (عليه السلام): في صحيح محمد بن مسلم: «وإذا كنت رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم، فنسيت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة، فأعد ما صليت فيه»(1). وقوله (عليه السلام) في صحيح علي بن جعفر فيمن احتجم، فأصاب ثوبه دم ولم يعلم به إلا من الغد: «إن كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي، ولا ينقص منه شيء»(2).

حيث يصعب جداً أيضاً حملهما على وجوب تدارك ذات الوقت واستحباب تدارك ما خرج وقتها، بعد إشعار الأول بأن علة القضاء تضييع الغَسل المشترك بين الكل، والتأكيد في الثاني على عدم إنقاص شيء من الصلوات، ومع فرض الفوت فيه بالإضافة إلى الكل. فتأمل جيداً.

(1) لأن المستفاد من الأمر بالإعادة مع الصلاة في النجس نسياناً أن ذلك من جهة مانعية النجاسة من الصلاة، وعدم كون النسيان عذراً موجباً للعفو عنها، وذلك كما يقتضي الإعادة مع الإلتفات بعد الفراغ يقتضي الاستئناف مع الإلتفات في الأثناء.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 10، البحار ج: 10 ص: 282.

ص: 89

ولاسيما مع التعليل بالعقوبة في موثق سماعة المتقدم.

ولا يهم مع ذلك تحقيق قصور إطلاق ما تضمن الإعادة مع الصلاة في النجس نسياناً عن صورة وقوع بعض الصلاة أو شموله لها، كما هو غير بعيد.

مضافاً إلى قوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان: «وإن كنت رأيته قبل أن تصلي فلم تغسله ثم رأيته بعد وأنت في صلاتك فانصرف فاغسله وأعد صلاتك»(1).

وأما صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن رجل ذكر في صلاته أنه لم يستنج من الخلا. قال: ينصرف ويستنجي من الخلا، ويعيد الصلاة»(2) ، ونحوه أو عينه صحيحه الآخر(3). فلا مجال للاستدلال بهما بعد احتمال أن يكون منشأ الإعادة فيهما توقف التطهير على كشف العورة المبطل للصلاة. وبعد ما سبق عند الكلام في وجوب إعادة الناسي إذا ذكر في الوقت من قرب حمل الثاني على نسيان الاستنجاء بالماء مع تحقق التمسح بالأحجار. فالعمدة ما سبق.

نعم في صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، فإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه. إلا أن يكون فيه أثر فيغسله»(4) حيث يظهر منه جواز المضي في الصلاة حتى لو كان فيه أثر يقتضي تنجسه.

لكن حيث كان ظاهره جواز المضي في الصلاة من غير تطهير، ولا قائل بذلك - نظير ما تقدم فيمن علم بالنجاسة في الأثناء - تعين كون موضوع السؤال صورة عدم الأثر الموجب للتنجيس والذي يستحب مع النضح، ويكون قوله: «إلا أن يكون فيه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 19 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 90

(91) (91) وعدمه (1).

(مسألة 36): إذا نسي أن عرق الجنب مثلاً نجس، وصلى في ثوب يعلم أنه أصابه عرق الجنب، وجبت الإعادة أو القضاء (2) وكذا إذا كان جاهلاً أن عرق الجنب نجس (3).

(مسألة 37): إذا طهر ثوبه النجس وصلى فيه ثم تبين له أن النجاسة

أثر فيغسله» استثناء منقطعاً من استحباب النضح قبل الدخول في الصلاة، وليس استثناء متصلاً من موضوع السؤال. فلاحظ.

(1) لعموم ما تقدم. نعم تقدم في المسألة الثالثة والثلاثين منه (قدس سره) استثناء صورة ضيق الوقت عن إعادة الصلاة مع الدخول فيها جهلاً بالنجاسة، وتقدم منا أن ذلك لو تم يجري مع النسيان. فراجع.

(2) قال (قدس سره): «لإطلاق دليل الإعادة على العالم». وقد تقدم منه في المسألة الواحدة والثلاثين أن مقتضى حديث: «لا تعاد الصلاة...» وإن كان هو عدم الإعادة في الجاهل بالحكم، فضلاً عن الناسي، إلا أن ما تضمن وجوب الإعادة مع العلم بسبب النجاسة ملزم بالخروج عن ذلك، وحينئذ فمقتضى إطلاق ذلك عدم الفرق بين الجاهل بالحكم والناسي له.

لكن تقدم منا اختصاص ما تضمن وجوب الإعادة مع العلم بسبب النجاسة بما إذا التفت المكلف إلى مانعيته من الصلاة، ولا يشمل صورة الجهل بالمانعية أو نسيانها، وحينئذ يتعين البناء على صحة الصلاة في المقام، عملاً بعموم حديث «لا تعاد». بعد اختصاص ما دلّ على الإعادة مع النسيان بنسيان الموضوع. كما أنه سبق عدم الفرق في عموم الحديث المذكور بين القاصر والمقصر، خلافاً لبعض

مشايخنا (قدس سره). فراجع.

(3) يظهر الحال مما تقدم هنا في الناسي، وما تقدم في المسألة الواحدة والثلاثين.

ص: 91

باقية فيه، لم تجب الإعادة ولا القضاء، لأنه جاهل بالنجاسة (1).

(1) لا يخفى أن موضوع النصوص ليس هو الجهل بالنجاسة، بل الجهل بسببها كإصابة الدم والبول والمني ونحوها، ومن الظاهر أنه لا جهل في المقام بذلك، بل سبق العلم به غايته أن الإقدام معه ليس للنسيان، بل لتخيل التطهير، نظير الإقدام لتخيل عدم نجاسة الشيء، كعرق الجنب.

وقد تقدم منه (قدس سره) في المسألة الواحدة والثلاثين وجوب الإعادة معه لإطلاق أدلة وجوبها مع الصلاة في الثوب مع العلم بتحقق أسباب النجاسة فيه، ولازم ذلك البناء على الإعادة هنا للإطلاق المذكور.

نعم تقدم منا عدم وجوب الإعادة هناك لانصراف الإطلاق إلى ما إذا كان الأمر المعلوم يقتضي الاجتناب، للعلم بكون الأمور المذكورة أسباباً للنجاسة، والعلم بمانعية النجاسة من الصلاة. ولاسيما بملاحظة التعليل بالعقوبة في موثق سماعة المتقدم في أول المسألة الخامسة والثلاثين، والتعبير بالتضييع في صحيح محمد بن مسلم المتقدم في أواخر المسألة المذكورة. ولأجله يتعين عدم الإعادة في المقام. فلاحظ.

هذا ومقتضى ذلك عدم الإعادة في جميع موارد اعتقاد التطهير خطأ، سواءً كان للخطأ في أصل التطهير منه أو من غيره، أم للخطأ في صحته مع وقوعه منه أو من غيره.

لكن في صحيح ميسر: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غَسله فأصلي فيه فإذا هو يابس قال: أعد صلاتك. أما إنك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء»(1).

ومقتضاه التفصيل بين مباشرة المكلف نفسه للتطهير والتعويل على الغير فيه، ولا يظهر منهم الفتوى بذلك، لعدم إشارتهم لمضمون الصحيح، مع شدة الحاجة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 92

(93) (مسألة 38): إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً، فإن لم يمكن نزعه لبرد أو نحوه صلى فيه (1)،

لبيانه، لشيوع الابتلاء به فيسقط بإعراض الأصحاب عنه.

بل قد يدعى ابتناء الحكم في الصحيح على عدم حجية أصالة الصحة في عمل الغير، ولو في خصوص التطهير وأن وجوب الإعادة لوقوع الصلاة حال النجاسة من دون عذر مبرر. وحينئذ لا يناسب سيرة المتشرعة على التعويل على النساء والجواري والخدم في ذلك، وعدم مباشرة المكلف بنفسه التطهير، وعدم فحصه عن صحته لو وقع من الغير.

لكنه يندفع بأنه حيث لم يتضمن الصحيح الردع عن الدخول في الصلاة، فلابد أن يبتني الدخول فيها إما على حجية قاعدة الصحة عند الشك فيها في المورد من دون ردع ظاهر، أو على اعتقاد صحة العمل من دون اعتماد على القاعدة المذكورة، لأن الاعتماد عليها فرع الشك في الصحة. وكيف كان فلابد أن يكون الأمر بالإعادة غير مبتن على عدم حجية أصالة الصحة، بل على التعبد المحض.

وحينئذ إن أحرز إعراض الأصحاب عما هو ظاهر فيه من وجوب الإعادة

- كما هو غير بعيد - تعين سقوطه عن الحجية، أو حمله على استحباب الإعادة. وإلا تعين البناء على مضمونه من وجوب الإعادة من دون أن يرجع ذلك إلى سقوط أصالة الصحة في عمل الغير عن الحجية.

نعم هو مختص بالمني، ولا مجال للتعدي منه لكل نجاسة، بل غاية الأمر أن يتعدى منه لكل ما يكون مثله مما يحتاج فيه زوال العين إلى عناية ومؤنة، ويصعب العلم به حال الغسل وبلل الثوب بالماء.

(1) قولاً واحداً، كما في الجواهر، وظاهر مفتاح الكرامة، حيث أهمل التعليق على الحكم بذلك في القواعد. لما هو المعلوم من أهمية الصلاة في الوقت، بحيث لا

ص: 93

ولا يجب عليه القضاء (1)

يحتمل سقوطها من أجل تعذر التخلص من النجاسة.

كما أنه المناسب لما هو المعلوم من مشروعية الصلاة للمسلوس والمستحاضة، بل كل من لا يستطيع إزالة النجاسة عن بدنه، ومنه الذي يجامع ولا ماء عنده، الذي صرح في الآيتين الشريفتين بأنه يصلي بتيمم، حيث يصعب جداً حملهما على صورة التطهير من الخبث، مع ما هو المتركز من أن مانعية النجاسة في الثوب مسانخة لمانعية النجاسة في البدن.

وهو المناسب أيضاً للعفو عن الثوب الذي فيه دم الجروح والقروح وثوب المربية، حيث إن المرتكز أن منشأ العفو لزوم الحرج النوعي من التطهير، وهو يقتضي العفو عن النجاسة مع تعذر التخلص منها بالأولوية العرفية.

مضافاً إلى ما قيل من أن ذلك هو المتيقن من نصوص الصلاة في الثوب النجس مع الانحصار به، من دون أن يعارضها فيه نصوص الصلاة عارياً، لقصورها عن صورة تعذر النزع.

بل قد يدعى أن ذلك صريح موثق الحلبي أو صحيحه: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام)

عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول، وليس معه ثوب غيره، ولا يقدر على غسله. قال: يصلي فيه إذا اضطر إليه»(1) ، بناء على أن المراد بالاضطرار إليه الاضطرار الناشئ من تعذر النزع، لا الاضطرار الناشئ من انحصار الساتر به. ويأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. فلاحظ.

(1) كما صرح به غير واحد، وفي الجواهر: «بل هو المشهور المعروف، بل لم نتحقق فيه خلافاً من غير الشيخ وعن ابن الجنيد». ولا ينبغي التأمل في أن مقتضى الأصل الإعادة لو قدر على الثوب الطاهر في الوقت، لأن المتيقن من مشروعية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 7.

ص: 94

الصلاة مع النجاسة تعذر تجنبها في تمام الوقت، فمع تجدد القدرة في الوقت ينكشف عدم مشروعية الصلاة الواقعة في النجس فلا تجزئ. ولعله خارج عن مورد كلام المشهور القائلين بعدم الإجزاء ووجوب الإعادة.

نعم لو اعتقد استمرار التعذر في تمام الوقت ومشروعية الصلاة بالنجاسة معه فلا يبعد البناء على عدم وجوب الإعادة، لحديث: «لا تعاد الصلاة...»، بناء على ما سبق في المسألة الواحدة والثلاثين من اختصاص الطهور فيه بالطهارة الحدثية، وهذا بخلاف صورة الشك، حيث لا يحرز معه مشروعية الصلاة، ليكون عذراً مصححاً للإقدام.

ودعوى: جريان استصحاب بقاء التعذر حينئذ، كما يظهر من بعض

مشايخنا (قدس سره)، فيكون الإقدام معه عن عذر كاف في عموم حديث: «لا تعاد...».

مدفوعة بأن ذلك إنما يتم لو كان موضوع مشروعية الصلاة مع النجاسة بقاء تعذر الصلاة في كل آن إلى تمام الوقت، أما إذا كان موضوعه تعذر ماهية الصلاة بما لها من أفراد طولية وعرضية في مجموع الوقت فهو أمر لا يحرز في أول الوقت. ليستصحب وحيث كان دليل مشروعية الصلاة مع النجاسة لبياً فلا طريق لإحراز كون الموضوع بالوجه الأول. فلاحظ. هذا كله لو قدر على الثوب الطاهر في الوقت.

أما لو استمر العذر في تمام الوقت فلا إشكال في أن مقتضى الأصل عدم القضاء، لاختصاص أدلة القضاء بمن لم يصل في الوقت، ولا تشمل من صلى فيه صلاة مشروعة وإن كانت اضطرارية.

نعم استدل الشيخ لوجوب إعادة الصلاة بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه سئل عن رجل ليس عليه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه، وليس يجد ماء يغسله، كيف يصنع؟ قال: يتيمم ويصلي، فإذا أصاب ماء غسله، وأعاد الصلاة»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 95

وقد اختلف كلامه (قدس سره) فقد حمله في الاستبصار وموضع من التهذيب على ما نحن فيه من فرض تعذر نزع الثوب، وحمله في موضع آخر من التهذيب على صورة إمكان النزع التي يأتي الكلام فيها. لكن لا شاهد بحمله على صورة تعذر النزع، بل هي تحتاج إلى عناية لا قرينة في الموثق عليها.

مضافاً إلى ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه لا يظهر منه كون الإعادة لأجل الصلاة في النجاسة، بل لعله لأجل التيمم الذي تضمنت جملة من النصوص الأمر بالإعادة معه(1) ، والتي يتعين حملها على الاستحباب.

اللهم إلا أن يقال: الأمر بالإعادة مع الصلاة بالتيمم وإن تعين حمله على الاستحباب، إلا أنه يختص بما إذا كان نقص الصلاة منحصراً بالتيمم، لما تضمن إجزاء الصلاة بالتيمم، ولا يشمل المقام ونحوه مما كان النقص فيها من جهة أخرى، كنجاسة الثوب. وحينئذ لا ملزم بحمل الأمر بالإعادة في الموثق على الاستحباب. ولاسيما مع ظهور السؤال في أن منشأه حيثية نجاسة الثوب، لعدم الإشارة فيه للتيمم.

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الموثق وارد فيمن يتيمم للصلاة صاحبة الوقت وصلى، ثم قدر على الماء في أثناء الوقت، حيث ينكشف حينئذ عدم مشروعية التيمم وبطلان الصلاة به، فيجب إعادتها. وعليه يحمل الموثق، ولا قرينة على حمله على كون منشأ الإعادة هو نجاسة الثوب أيضاً.

لاندفاعه بأنه لا شاهد في الموثق على كون إصابة الماء قبل خروج الوقت. ومجرد التعبير بالإعادة لا يقتضيه، لأنها أعم. بل من البعيد جداً حمله على خصوص الوجدان في الوقت، لاحتياجه إلى عناية. ولاسيما مع ابتناء الاضطرار ارتكازاً على اليأس من تحصيل الماء في تمام الوقت. مع أن الظاهر عدم وجوب إعادة الصلاة بالتيمم حتى مع وجدان الماء في الوقت، كما تقدم في أوائل الفصل الخامس في أحكام التيمم.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات.

ص: 96

(97)وإن أمكن نزعه فالظاهر وجوب الصلاة فيه (1). والأحوط استحباباً الجمع بين الصلاة فيه والصلاة عارياً.

وأما ما سبق منّا من عدم القرينة على حمل الموثق على صورة تعذر النزع فهو لا ينافي الاستدلال بإطلاقه على وجوب الإعادة في الصورة المذكورة لو أمكن البناء على الإطلاق المذكور، وهو ما يأتي الكلام فيه في بيان حكم صورة إمكان النزع إن شاء الله تعالى.

(1) ففي كشف اللثام بعد أن جعل التخيير بين الصلاة في الثوب والصلاة عرياناً أقوى من القول بوجوب الصلاة عرياناً قال: «بل الأحوط والأقوى الصلاة في الثوب، وعن المعالم تقويته، وفي المدارك لا ريب أنه الأولى، وعن البيان أنه رجحه. بل قد يظهر من الفقيه، حيث اقتصر على ذكر رواية الحلبي الآتية.

وكيف كان فيقتضيه جملة من النصوص، كموثق الحلبي أو صحيحه وموثق عمار المتقدمين وصحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره آخر. قال: يصلي فيه فإذا وجد الماء غسله»(1). ونحوه صحيحه الآخر في الثوب الواحد الذي فيه بول(2) ، وصحيح عبد الرحمن وموثقه أو صحيحه الآخر اللذين لا يبعد اتحادهما(3) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام): «سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة، فأصاب ثوباً نصفه دم أو كله دم، يصلي فيه أو يصلي عرياناً؟ قال: إن وجد ماء غسله، وإن لم يجد ماء صلى فيه ولم يصل عرياناً»(4).

لكن المعروف عدم وجوبه، وعن الدلائل أنه لعله لم يذهب أحد من علمائنا إلى وجوبه. بل في المبسوط والنهاية والخلاف والشرايع والإرشاد وعن السرائر والكامل

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 1، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 4، 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 45 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 97

والتحرير وجوب الصلاة عارياً، وقد يظهر من الكليني، حيث اقتصر على موثق سماعة الآتي، وفي الذكرى عن غيره أنه المشهور، بل في الخلاف الإجماع عليه.

لغير واحد من النصوص، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة، وليس عليه إلا ثوب واحد، وأصاب ثوبه مني. قال: يتيمم ويطرح ثوبه، ويجلس مجتمعاً فيصلي، ويومي إيماءً»(1) ، وموثق سماعة: «سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض، وليس عليه إلا ثوب واحد، وأجنب فيه، وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال: يتيمم، ويصلي عرياناً قاعداً يومي إيماءً»(2) ، ونحوه موثقه الآخر، إلا أن فيه: «يتيمم ويصلي عرياناً قائماً يومي إيماءً»(3).

والإشكال في الأول بأن في سنده محمد بن عبد الحميد العطار الذي لم يوثق صريحاً، فإن النجاشي قال في ترجمته: «محمد بن عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر. روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى. وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين. له كتاب النوادر». وظاهره رجوع التوثيق لأبيه عبد الحميد، لا إليه.

مدفوع بأن كلام النجاشي وإن كان ظاهراً بدواً في رجوع التوثيق للأب، إلا أن ذلك لا يناسب كون كتاب النوادر للابن، حيث رواه عنه النجاشي بطريق الحميري الذي لا يمكن عادة روايته عن الأب.

مضافاً إلى استفادة توثيقه من كونه من رجال كامل الزيارات، وممن روى عنه ابن أبي عمير، مؤيداً برواية جماعة من الأعيان عنه، وبما ذكره النجاشي في ترجمته سهل بن زياد من أنه كاتب الإمام العسكري (عليه السلام) على يد محمد بن عبد الحميد العطار، فإن ظاهره ليس مجرد كونه واسطة في إيصال الكتاب، وإلا فكل من يكاتب لابد من أن يستعين بواسطة لإيصال كتابه، بل كونه من ذوي الاختصاص بهم (عليهم السلام) المتصدين لإيصال كتب شيعتهم إليهم (عليهم السلام)، نظير السفراء، وذلك ملازم للوثاقة عادة، وإن لم يكن لازماً لها شرعاً ولا عقلاً.

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 46 من أبواب النجاسات حديث: 4، 1، 2.

ص: 98

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الإشكال في الموثقين بالإضمار، إذ ليس سماعة في الجلالة والاعتبار كمحمد بن مسلم وزرارة وأضرابهما، كي لا يحتمل سؤاله من غير الإمام (عليه السلام).

لاندفاعه بأن سؤال غير الإمام ليس ممتنعاً عادة حتى على الأئمة (عليهم السلام) لبعض المصالح، فضلاً عن أصحابهم مهما بلغت جلالتهم، إذ لا ينحصر وجه السؤال بالاستفتاء من أجل العمل، وليست القرينة على حمل المضمرات على سؤال الإمام هي جلالة مقام السائل، بل هي ظهور حال الأصحاب الراوين للحديث المدونين له في الكتب المعدة لنقل أخبار الأئمة (عليهم السلام)، حيث يكشف ذلك عن إطلاعهم على كون المسؤول والمجيب هو الأمام.

وهو في مثل سماعة من أهل الكتب ميسور جداً، حيث يسهل عليهم العلم بأن الكتاب في أحاديث الأئمة (عليهم السلام)، بأن يبدأ في الكتاب بالتصريح بالإمام المسؤول، ثم يضمر بعد ذلك عند استطراد الأحاديث التي معه. على أن الرجوع لما ذكره (قدس سره) في معجمه في ترجمة سماعة شاهد بأنه من الأعيان من حيثية كثرة رواياته.

مع أنه يكفي في الوثوق بالروايات الثلاث ظهور اعتماد الأصحاب عليها في البناء على إجزاء الصلاة عارياً أو وجوبه، بحيث قد يظهر في إجماعهم على ذلك، حيث يمتنع عادة خطؤهم في نسبة الروايات المذكورة للأئمة (عليهم السلام) مع اعتمادهم عليها بالوجه المذكور.

ومن هنا لابد من النظر في الجمع بين الطائفتين، وقد يجمع بينهما بوجهين:

الأول: حمل الطائفة الأولى على صورة تعذر النزع، لبرد أو لعدم الأمن من الناظر أو نحوهما، بشهادة قوله (عليه السلام) في حديث الحلبي المتقدم في الصورة الأولى: «يصلي فيه إذا اضطر إليه»، كما أشرنا إليه في ذيل الكلام في صورة تعذر النزع.

لكن أشرنا هناك أيضاً إلى ما ذكره غير واحد من احتمال أن يكون المراد بالاضطرار فيه الاضطرار للصلاة فيه من جهة انحصار الساتر به، فيكون تأكيداً

ص: 99

للمفروض في السؤال، لا قيداً زائداً عليه. وهو وإن كان خلاف الأصل، إلا أن في كفاية ذلك في ظهور الحديث في الأول إشكالاً أنه بعد الإشارة في السؤال لجهة الاضطرار فإطلاق الاضطرار في الجواب ينصرف إليها، ولو كان المراد به غيرها لكان المناسب التنبيه له.

نعم لو فرض إجمال الاضطرار من هذه الجهة فلا يمنع من كون الصحيح شاهد جمع في المقام، لأنه حيث كان المتيقن منه جواز الصلاة فيه مع تعذر النزع، لأنها المتيقن من الاضطرار فيه، كان صالحاً لتقييد إطلاق الطائفة الثانية بغير الصورة المذكورة، فتكون بعد التقييد أخص من الطائفة الأولى، فتنهض بتخصيصها، وحملها على صورة الاضطرار لعدم النزع. ولا يبعد كفاية ذلك عرفاً في الجمع بين الطائفتين ورفع التنافي بينهما.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الطائفة الأولى لو كان موردها تعذر النزع كان المتعين ذكره في السؤال، فإنه مما له مزيد دخل في الحكم، فإهماله يدل على عدم دخله.

لاندفاعه بأن ذلك يجري في كل قيد يكون به الجمع بين النصوص المطلقة. نعم إذا كانت إرادة القيد محتاجة لعناية كان إهماله في المطلقات مانعاً من حملها عليه في مقام الجمع، لاستهجانه عرفاً، ولا مجال لذلك في المقام، لأن لبس الثوب مما يحتاج إليه نوعاً، فحمل نصوص الصلاة فيه على خصوص تعذر نزعه غير مستهجن عرفاً. فلاحظ.

فالعمدة في رد الجمع المذكور - بعد ما سبق من انصراف الاضطرار فيه للاضطرار من جهة انحصار الساتر به - هو إباء بعض نصوص الطائفة الأولى عنه، كصحيح علي بن جعفر المتقدم، فإن فرض الرجل فيه عارياً، ثم الأمر له بلبس الثوب لأجل الصلاة، والنهي عن الصلاة عارياً لا يناسب الاضطرار للبس الثوب مع قطع النظر عن الصلاة، بحيث يتعذر عرفاً الصلاة عارياً.

ص: 100

وإن شئت قلت: لا ريب في قوة ظهوره في الأمر بلبس الثوب لأجل الصلاة، لا في مجرد عدم وجوب نزعه بسبب الاضطرار للبسه مع قطع النظر عنها. ومن ثم لا مجال للجمع المذكور.

الثاني: الجمع بينهما بالتخيير، بدعوى: أن كلاً منهما صريح في جواز ما تضمنه من الصلاة في الثوب والصلاة عارياً، وظاهر في لزومه، فيجمع بينهما برفع اليد عن ظهور كل منهما في لزوم ما تضمنه بقرينة الآخر الصريح في جواز ما تضمنه.

وفيه: أن كلاً من الطائفتين صريح في بيان الوظيفة، والحث على ما تضمنه منها، لا في مجرد الترخيص فيها، والحث على كل من الوظيفتين ينافي الحث على الأخرى. نعم الحث على الشيء قد يرد لبيان الجواز دفعاً لتوهم الحظر، ولا مجال لاحتماله في المقام، فإن جميع النصوص واردة لبيان الوظيفة في مقام التحير من دون إشعار بتوهم الحظر عن شيء، ليحمل الأمر به والحث عليه على مجرد الترخيص فيه.

وبعبارة أخرى: الجمع المذكور في المقام موقوف على ورود كلتا الطائفتين في مقام توهم المنع والحظر عما تضمنته، ولا مجال لاحتمال ذلك بأدنى ملاحظة لها، كما لا يخفى.

نعم قد يتجه الجمع بالتخيير فيما إذا أمكن عرفاً حمل كل من الدليلين على الحث على القدر المشترك بين مضمونيهما، وإلغاء خصوصية كل منهما، كما إذا ورد: إن ولد لك ولد فتصدق على زيد، وورد: إن ولد لك ولد فتصدق على عمرو، وعلم من الخارج بالاكتفاء بصدقة واحدة، حيث قد يمكن حمل كل منهما على إلغاء خصوصية كل من الرجلين والحث على القدر المشترك، كأصل الصدقة، أو خصوص الصدقة على أولاد بكر، أو على العلماء أو نحو ذلك مما هو مشترك بينهما.

ومنه ما قد تختلف فيه الأدلة من الأمر بأحد خصال الكفارة منفرداً، حيث يكون ظاهر كل منها التعيين، ويسهل الجمع بينها بالتخيير بحمل الأمر في كل منها على القدر المشترك المعهود شرعاً، وهو الكفارة المخيرة، وإلغاء خصوصية كل منها بعينه.

ص: 101

ومن الظاهر أنه لا مجال لذلك في المقام، لعدم القدر المشترك بين الصلاة في الثوب والصلاة عارياً، لا عرفاً، ولا شرعاً، بل بينهما كما المنافاة عرفاً. ولاسيما أن الصلاة عارياً لما كانت اضطرارية بالإيماء فالأمر بها ظاهر في شدة أهمية مانعية النجاسة في الصلاة من شرطية الستر فيها، وهو لا يناسب الترخيص في الصلاة في الثوب.

وبالجملة: الجمع بالتخيير في المقام وأمثاله ليس عرفياً، فلا مجال للبناء عليه من دون شاهد خارجي، وحيث كان مفقوداً كان الظاهر استحكام التعارض بين الطائفتين.

ومن ثم قد يدعى لزوم ترجيح الأولى، لأنها أكثر عدداً وأصح سنداً. ولا مجال لترجيح الثانية بالشهرة في الفتوى، لأنها ليست من مرجحات الروايات عند التعارض.

لكن حيث كان التحقيق هو الاقتصار في الترجيح على المرجحات المنصوصة، فالشهرة في الرواية التي ثبت الترجيح بها في النصوص لا يكفي فيها ذلك، بل لابد فيها من كون أحد الخبرين مشهوراً معروفاً بين الأصحاب، والآخر شاذاً نادراً، ومن الظاهر عدم صدق ذلك في المقام، لأن نصوص الطائفة الأولى خمسة، ونصوص الطائفة الثانية ثلاثة، وهو لا يكفي في شذوذها، ولاسيما مع اشتهار الفتوى بها.

ولو فرض البناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة لكان ترجيح الطائفة الأولى بأنها أكثر عدداً وأصح سنداً معارضاً بترجيح الطائفة الثانية بشهرة الفتوى بمضمونها بين الأصحاب.

وأشكل من ذلك ما ذكره غير واحد من ترجيح الطائفة الأولى بأن تفويت شرط الساتر أولى من تفويت أصل الساتر. ولاسيما مع أنه يلزم من الصلاة عارياً إبدال الركوع والسجود بالإيماء.

لاندفاعه بأن ذلك من المرجحات المضمونية غير المنصوصة فلا مجال للتعويل عليه بناء على ما سبق. مضافاً إلى أن شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة لا تختص

ص: 102

بالساتر، بل تعم أصل الصلاة، فليس محذور الصلاة في الثوب هو تفويت شرط الساتر، ليدعى أنه أولى من تفويت أصل الساتر، بل هو تفويت شرط الصلاة فيكون كالصلاة عارياً الذي يفوت به شرطها الآخر، وهو الساتر. فلاحظ.

ومن هنا يتعين سقوط كلتا الطائفتين، كما هو الأصل في المتعارضين، بعد عدم ثبوت دليل معتد به على التخيير يخرج به عن مقتضى الأصل المذكور، على ما أوضحناه في الأصول.

ودعوى: سقوط الطائفة الأولى عن الحجية بهجر المشهور لها، لعدم ظهور القول بوجوب الصلاة في الثوب إلا من المتأخرين، فتنفرد الطائفة الثانية بالحجية.

مدفوعة بأنه لم يثبت الهجر المسقط لها عن الحجية بعد ظهور حال الصدوق في العمل بهذه الطائفة وظهور حال الشيخ في الجمع بين الطائفتين بحمل الأولى على تعذر النزع، وقرب ابتناء القول بالتخيير ممن يأتي على الجمع بين الطائفتين بالوجه المتقدم.

ومن هنا يتعين البناء على كلتا الطائفتين بالتعارض، والرجوع للأصل المقتضي للاحتياط بالتكرار. وذلك للتزاحم بين شرطية الساتر مع المحافظة على الركوع والسجود التامين ومانعية للنجاسة مع التنزل للركوع والسجود الإيمائيين، وحيث لا طريق للجزم بأهمية أحد الأمرين يتعين الاحتياط بالتكرار، لعدم إحراز الفراغ عن التكليف بدونه.

وأما ما اشتهر من البناء على التخيير عند التزاحم بين التكليفين مع عدم ثبوت أهمية أحدهما، سواءً علم بأهمية أحدهما إجمالاً أو شك في ذلك، أم علم بتساويهما فهو مختص بالتزاحم بين التكليفيين الاستقلاليين، كالتزاحم بين إنقاذ مؤمنين من الهلكة، فإنه بعد تعذر الجمع بينهما بالتكرار يتعين الاحتياط به خروجاً عن التكليف بأحدهما المعلوم إجمالاً. وقد ذكرنا في خاتمة مباحث التعارض من الأصول حقيقة التزاحم بين التكاليف الضمنية بما لا مجال معه لإطالة الكلام في ذلك هنا، بل نكتفي بما تقدم.

ص: 103

(104)ودعوى: أن ذلك إنما يتم فيما إذا علم بأهمية أحدهما إجمالاً، للعلم الإجمالي حينئذ بالتكليف التعييني بالواجد لأحدهما، ولا يحرز الفراغ عنه إلا بالتكرار، أما مع احتمال التساوي المستلزم لاكتفاء الشارع بأحد الأمرين، فالمتعين الاجتزاء به، وعدم الاعتناء باحتمال أهمية أحدهما، لأصالة البراءة من وجوب كل منهما بعينه، وليس هناك علم إجمالي مانع من التعويل عليه.

مدفوعة بأن المقام من الدوران بين التخيير والتعيين، والتحقيق فيه عندنا لزوم الاحتياط المقتضي في المقام الجمع بين الطرفين لاحتمال التعيين في كل منهما، ولا مجال معه لجريان البراءة من التعيين والبناء على التخيير، على ما أوضحناه في الأصول. ولاسيما أن احتمال التخيير في المقام ليس لقصور ملاك التعيين، بل لمزاحمته. فلاحظ.

هذا وقد قرب في المعتبر وكشف الرموز والمنتهى والذكرى والدروس التخيير في محل الكلام بين الصلاة في الثوب النجس والصلاة عارياً ويظهر من المختلف الميل إليه، كما قد يظهر من الشيخ في موضع من التهذيب، وهو المحكي عن ابن الجنيد والبيان وغيرهما. ويظهر من غير واحد ابتناؤه على العمل بكلتا الطائفتين، إما للجمع العرفي بينهما بذلك، أو التخيير بينهما بعد استحكام التعارض. وقد ظهر مما تقدم ضعف كلا الوجهين، كضعف دعوى: أن ذلك مقتضى الأصل بعد البناء على التساقط.

بقي في المقام أمران:

الأول: أن المصرح في كلامهم عدم الإعادة مع الصلاة عارياً لوجوبها تعييناً لو تخييراً. وأما مع الصلاة في الثوب النجس فقد يدعى وجوب الإعادة، لموثق عمار المتقدم في صورة تعذر النزع. فقد حمله الشيخ في موضع من التهذيب على جواز الصلاة في الثوب مع الإعادة تخييراً بينها وبين الصلاة عارياً. وقد تقدم عدم إمكان حمله خصوص ارتفاع العذر في الوقت، ولا على خصوص صورة تعذر النزع.

وحينئذ لا يبعد حمله على الاستحباب، لعدم الأمر بالإعادة في بقية نصوص

ص: 104

(105) (105) (مسألة 39): إذا كان عنده ثوبان يعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما وجبت الصلاة في كل منهما (1). ولو كان عنده ثوب ثالث يعلم بطهارته

الصلاة في الثوب النجس، مع شدة الحاجة إليه لو كان واجباً للغفلة عنه. بل النصوص المذكورة مسوقة سؤالاً وجواباً لبيان تمام الوظيفة الواجبة، فعدم الأمر فيها بالإعادة موجب لقوة ظهورها في عدم وجوبها. ولاسيما مع عدم مألوفية الجمع في شيء من فروع الصلاة بين وجوب الصلاة الاضطرارية ووجوب إعادتها. كما أن التنبيه في صحيح الحلبي الأول على غسل الثوب إذا وجد الماء مع خروجه عن الوظيفة المطلوبة في مورد السؤال مع إغفال الإعادة يجعله كالصريح في عدم وجوبها. وذلك بمجموعه كاف في رفع اليد عن ظهور الأمر في موثق عمار في الوجوب وحمله على الاستحباب. ولعله لذا حمله عليه في الوسائل، وإن كان قد حمله أيضاً - كجميع نصوص الصلاة في الثوب النجس - على صورة تعذر النزع.

الثاني: قد اختلفت نصوص الصلاة عارياً في كون المصلي قاعداً، كما في صحيح الحلبي وأحد موثقي سماعة، وكونه قائماً، كما في موثق سماعة الآخر.

لكن من القريب اتحاد موثقي سماعة، لتقارب لسانيهما، حيث يقرب معه كون الاختلاف بينهما بسبب النقل بالمعنى. ومرجع ذلك إلى الخطأ في أحد النقلين عن سماعة الموجب لتساقطهما، وانفراد صحيح الحلبي المتضمن للصلاة قاعداً بالحجية.

غاية الأمر أن يحمل على ما إذا خاف المصلي من وجود الناظر، مع وجوب القيام عند الأمن منه، لأن التفصيل المذكور ثابت في صلاة العراة عموماً، والمقام من صغرياته.

ومنه يظهر أنه لو فرض تعدد موثقي سماعة فالمتعين الجمع بين نصوص المقام بذلك، وتمام الكلام في مسألة تعذر الساتر من مبحث لباس المصلي.

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، بل لم يعرف مخالف في ذلك إلا

ص: 105

ابنا إدريس وسعيد في السرائر والجامع، فحكما بوجوب الصلاة عارياً، وإن نسبه في الخلاف لقوم من أصحابنا، وفي السرائر لبعضهم.

ويقتضيه - مضافاً إلى لزوم الاحتياط في تحصيل الصلاة بالثوب الطاهر بعد إمكان تحصيلها وعدم إحراز الفراغ عنها إلا بالوجه المذكور - صحيح صفوان: «أنه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الرجل معه ثوبان، فأصاب أحدهما بول، ولم يدر أيما هو وحضرت الصلاة، وخاف فوتها وليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال (عليه السلام): يصلي فيهما جميعاً»(1).

ويستدل للقول الآخر بما أرسله في المبسوط، قال: «وروي أنه يتركهما ويصلي عرياناً»(2). بعدم تيسر الجزم بالنية المعتبرة في العبارة مع الصلاة في الثوبين، فيدور الأمر بين رفع اليد عن مانعية النجاسة مع المحافظة عن شرطية الساتر، فيكتفي بالصلاة في أحدهما، ورفع اليد عن شرطية الساتر مع المحافظة على مانعية النجاسة، والثاني أهم، بناء على ما سبق أنه المشهور من وجوب الصلاة عارياً مع انحصار الساتر بالنجس.

ويندفع بأن ضعف المرسل مانع من التعويل عليه في قبال ما سبق. وأما الوجه الآخر فهو يبتني على اعتبار الجزم بالنية في العبادات، وهو ممنوع مع القدرة عليه، فضلاً عن التعذر، على ما تقدم في المسألة الثالثة من مبحث التقليد، وأطلنا الكلام فيه في مبحث العلم الإجمالي من مباحث الأصول.

على أنه قد سبق الإشكال في أهمية مانعية النجاسة من شرطية الستر. مع أن الدوران هنا - بعد فرض طهارة أحدهما - ليس بين رفع اليد عن مانعية النجاسة وعن شرطية الستر، بل بين رفع اليد عن الجزم بالنية وعن شرطية الستر، ولا إشكال في تعين الأول، لأن دليل الجزم بالنية - لو تم - لبي لا إطلاق له يشمل المقام، بخلاف دليل مانعية النجاسة. على أنه لو تم جميع ذلك في نفسه، فلابد من رفع اليد عنه بالصحيح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 46 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) ج: 1 ص: 39 الطبعة الحديثة.

ص: 106

(107) تخير بين الصلاة فيه والصلاة في كل منهما (1).

(مسألة 40): إذا تنجس موضع من بدنه وموضع من ثوبه، ولم يكن عنده من الماء ما يكفي لهما معاً، لكن كان يكفي لأحدهما فالظاهر وجوب تطهير البدن (2). ولو كان الموضعان من ثوبه أو بدنه وجب تطهير

المعول عليه عند الأصحاب.

وبذلك يظهر أن الواجب شرعاً واقعاً هو إحدى الصلاتين، فالامتثال إنما يكون بها واقعاً، ووجوب الجمع بينهما عقلي، والمنوي هو الامتثال بهما إجمالاً، وبكل منهما احتمالاً.

لكن في الجامع بعد أن أفتى بالصلاة عرياناً، قال: «وروي أنه يصلي في كل واحد منهما صلاة. وإن صحّ ذلك حمل على أنه قد فرض عليه الصلاة مرتين، كما يصلي عند التباس القبلة الصلاة أربع مرات». ومقتضاه نية الامتثال جزماً بكل من الصلاتين هنا وبكل من الأربع عند اشتباه القبلة. وهو غريب جداً.

(1) بناءً على ما هو التحقيق من الاجتزاء بالامتثال الإجمالي - وإن استلزم التكرار - مع تيسر الامتثال التفصيلي. وقد تقدم في المسألة الثالثة من مبحث التقليد التعرض لوجهه. كما أطلنا الكلام في ذلك في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع من الأصول.

(2) وقد علله (قدس سره) - بعد الفراغ عن لزوم تقليل النجاسة، الذي يأتي الكلام فيه في الفرع اللاحق من هذه المسألة - باحتمال أهمية نجاسة البدن. وكأنه لأنها أشد لصوقاً بالمصلي من نجاسة ثوبه، فيترجح إزالتها في مقام التزاحم.

ولا إشكال في لزوم مراعاة احتمال الأهمية في مقام التزاحم، إذ بعد العلم بثبوت ملاك الإلزام في كل منهما، والشك إنما هو في سقوط الإلزام بسبب العجز من جهة التزاحم، يعلم بكون المحافظة على محتمل الأهمية عذراً في ترك الآخر، ولا يعلم

ص: 107

أحدهما (1) مخيراً (2)، إلا مع الدوران بين الأقل والأكثر، أو الأخف

بكون المحافظة على الآخر عذراً في ترك محتمل لأهميته، فيتعين الاحتياط بالمحافظة على محتمل الأهمية، بعد أن كان الشك في العذر المسقط لا في أصل ثبوت التكليف والملاك.

هذا كله بناءً على وجوب الصلاة في الثوب النجس عند انحصار الساتر به، كما هو مختاره (قدس سره). أما بناء على وجوب الصلاة عارياً فقد قال (قدس سره): «فلا ينبغي الإشكال في وجوب تطهير البدن عملاً بمانعية النجاسة، لأنه إذا طهر بدنه وصلى عارياً لم يصل في النجاسة، بخلاف ما لو طهر الثوب وصلى فيه، لأنه صلى وبدنه نجس قطعاً».

وبعبارة أخرى: بعد أن كان وجوب الصلاة عارياً عند انحصار الساتر بالثوب النجس مبنياً على أهمية مانعية النجاسة من شرطية الستر، فاللازم الحفاظ على مانعية النجاسة بتطهير البدن والصلاة عارياً، ولا يجوز صرف الماء في تطهير الثوب وإبقاء البدن نجساً المستلزم للصلاة في النجاسة.

وأما بناءً على ما سبق منّا من لزوم الاحتياط بالجمع بين الصلاة في الثوب النجس والصلاة عارياً، لعدم وضوح أهمية أحد الأمرين - من مانعية النجاسة وشرطية الستر - بعينه، فاللازم التخيير بين تطهير الثوب والاقتصار على الصلاة فيه مع نجاسة البدن وتطهير البدن مع الاحتياط المتقدم بالجمع بين الصلاتين، لأن أهمية طهارة البدن من طهارة الثوب لا تستلزم أهمية طهارة البدن من الستر، ومع التردد بينهما يتعين التخيير المذكور.

(1) لأن الظاهر من دليل مانعية النجاسة كون مانعيتها بنحو الانحلال، لا بنحو المجموعية، فمع القدرة على تقليل النجاسة وتعذر إزالتها بتمامها يجب تقليلها، لأن الزائد من النجاسة مانع مستقل.

(2) لعدم المرجح بينهما من حيثية الموضع، لفرض كونهما معاً في الثوب أو في البدن.

ص: 108

(109) والأشد (1)، فيختار التطهير من الأكثر (2) أو الأشد (3).

(مسألة 41): يحرم أكل النجس وشربه (4). ويجوز الانتفاع به فيما لا يشترط فيه الطهارة (5).

(1) كنجاسة البول ونجاسة الدم، حيث لا يبعد استفادة كون الثانية أخف من عدم احتياج التطهير فيها للتعدد، أو من العفو عن قليلها في الصلاة، بخلاف الأول. بل لا يبعد لذلك كون نجاسة البول أشد من جميع النجاسات التي لا يعتبر في التطهير منها التعدد، خصوصاً المني الذي ورد أن البول أنجس منه(1). كما صرح في بعض النصوص بأن الغائط أقذر وأنجس من المني(2).

(2) لأن فيه تقليلاً للنجاسة كماً أو مرتبة، وقد سبق لزومه.

(3) حيث لا يبعد أهمية مانعيته. ولا اقل من احتمال أهميته الذي تقدم أنه يجب مراعاته ومنه يظهر لزوم ترجيح التطهير من محتمل الأشدية.

(4) من دون فرق بين الأعيان النجسة والمتنجسات، بلا إشكال ظاهر في الجميع، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، كما هو المنقول في حرمة الجامدات النجسة والمتنجسة والمائعات كذلك، بل لعله من الضروريات.

ويستفاد من النصوص الواردة في الماء القليل المتضمنة لإراقته، وفي المرق الذي يقع فيه نجاسة، وفي الدهن والسمن والعسل المتنجسة، والنصوص الواردة في تطهير الأواني وغير ذلك من النصوص الكثيرة.

(5) ويقتضيه - بعد الأصل - السيرة المستمرة على الانتفاع بالنجاسات بالتسميد والإحراق وغيرها. وأظهر من ذلك الحال في المتنجسات، حيث لا يتوقون عن الثياب المتنجسة، وسقي المياه المتنجسة للأطفال والحيوانات، وغسل الأرض ورشها بها للتبريد، وإطعام الطعام والعلف المتنجسين للأطفال والحيوانات، وغير ذلك.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الجنابة حديث: 5، 4.

ص: 109

مضافاً إلى النصوص الكثيرة الواردة في الأعيان النجسة، مثل معتبر البزنطي عن الرضا (عليه السلام): «سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من إلياتها وهي أحياء أيصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: نعم يذيبها ويسرج بها، ولا يأكلها ولا يبيعها»، ونحوه خبر علي بن جعفر عن أخيه(1) (عليه السلام).

ومعتبر الحسن بن علي في إليات الغنم أيضاً: «قلت: فنصطبح بها؟ قال: أما تعلم أنه يصيب اليد والثوب، وهو حرام»(2). فإن الردع عن الاستصباح من جهة إصابة اليد والثوب ظاهر في جوازه ذاتاً.

وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الماشية تكون للرجل، فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها؟ قال: لا. ولا لبسها فلا يصل فيها»(3). فإنه ظاهر في جواز اللبس من دون صلاة، وأن المنهي عنه هو اللبس مع الصلاة، دفعاً لتوهم مطهرية الدبغ للميتة.

ومعتبر زرارة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء. قال: لا بأس»(4) ، ومعتبر برد الاسكاف الوارد في العمل بشعر الخنزير، وفيه: «فما كان له دسم فلا تعملوا به، وما لم يكن له دسم فاعملوا به»(5) ، ومعتبره الآخر وخبر سليمان الاسكاف(6) الواردين فيه أيضاً.

وخبر قاسم الصيقل: «كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إني أعمل أغماد السيوف من جلود الميتة، فتصيب ثيابي، فأصلي فيها؟ فكتب إليّ: اتخذ ثوباً لصلاتك»(7). وقريب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6 وذيله.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الذبائح حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

(5) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 65 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 65 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 3.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 110

منه الخبر عنه وعن ولده(1).

وصحيح علي الواسطي: «دخلت الجويرية - وكانت تحت عيسى بن موسى -

على أبي عبد الله (عليه السلام)، وكانت صالحة، فقالت: إني أتطيب لزوجي، فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر، وأجعله في رأسي. قال: لا بأس»(2).

ومعتبر علي بن أبي حمزة على أبي عبد الله (عليه السلام) في الكيمخت «قال: وما الكيمخت؟ قال: جلود دواب، منه ما يكون ذكياً، ومنه ما يكون ميتة. قال: ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه»(3). وقريب منه موثق سماعة(4). لظهورهما في اختصاص المنع عن لبس الميتة بالصلاة.

وخبر وهب عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام): «أنه كان لا يرى بأساً أن يطرح في المزارع العذرة»(5). وقد يعثر المتتبع على غير ذلك.

بل قد يستفاد المفروغية عنه من مثل صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ، أيصلح للمرأة أن تصلي وهو على رأسها؟ قال: لا حتى تغتسل منه»(6) ، وصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقي به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس»(7). وقريب منه موثق ولده الحسين(8). لأن السؤال فيها عن الصلاة في النضوح، والوضوء من الماء، قد يظهر في المفروغية عن جواز صنع النضوح ووضعه في الرأس، واستقاء الماء بالحبل المذكور. فلاحظ.

مضافاً إلى ما ورد في المائع المتنجس، الذي قد يظهر منهم مساواته للنجس في الحكم، لكونه غير قابل للتطهير، كالنصوص الكثيرة المتضمنة الأمر بالاستصباح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 38 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 37 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 4، 12.

(4) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 4، 12.

(5) ، وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 3.

(6) ، وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 3.

(7) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 3.

(8) ، وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 3.

ص: 111

بالزيت والسمن المتنجسين(1).

هذا وعن ظاهر جماعة وصريح آخرين حرمة الانتفاع بأعيان النجاسة مطلقاً إلا ما خرج بدليل. وقد يلحق بها ما لا يقبل التطهير من المتنجسات. وظاهر مفتاح الكرامة والجواهر القول بذلك أو الميل إليه.

قال في الجواهر: «بل ربما ظهر من ملاحظة كلامهم في الدهن النجس الإجماع على عدم جواز الانتفاع به، بل في المحكي عن شرح الإرشاد للفخر وتنقيح المقداد ذلك، حيث قالا: إنما يحرم بيعها لأنه محرمة الانتفاع، وكل محرم الانتفاع لا يصح بيعه. أما الصغرى فإجماعية. بل لعل ذلك ظاهر الغنية أيضاً...».

وقد يستدل له - بعد الإجماع المدعى - بإطلاق قوله تعالى: "وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ"(2) ، بناء على أن الرجز النجس. لأن الانتفاع بالشيء لا يناسب هجره. وكذا قوله تعالى في الخمر:" رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ"3. لأن مقتضى التفريع كون منشأ الاجتناب عن الخمر كونه رجساً نجساً، فيدل على وجوب اجتناب كل نجس.

وبقوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ"4. بدعوى: أن إطلاق نسبة التحريم للأعيان يقتضي حرمة جميع الانتفاعات بها. وهو وإن اختص بالأمور المذكورة في الآية الشريفة، إلا أنه يمكن التعدي لجميع النجاسات بعدم الفصل أو بفهم عدم الخصوصية.

وبقوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول بعد الحكم بحرمة بيع النجس بأنواعه: «لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام»(5).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 43 من أبواب ما يكتسب به، وج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) سورة المدثر الآية: 5.

(3) ، سورة المائدة، الآية: 90، 3.

(4) ، سورة المائدة، الآية: 90، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 2 من أبواب ما يكتسب به حديث: 1.

ص: 112

لكن لا مجال لدعوى الإجماع بعد عدم تحرير المسألة بهذا الوجه في كلمات القدماء وقد تعرض شيخنا الأعظم في مكاسبه لوجه الإشكال في استفادة الإجماع منها. وما تقدم عن الفخر والمقداد لا يناسب ما تقدم من النصوص المتضمنة جواز الاستصباح بالدهن النجس التي ذكرها القدماء من أهل الحديث والاستدلال، ولا يتضح منهم هجرها، بل المعروف منهم العمل عليها، بل لعل الإجماع منهم على ذلك.

على أنه لو تمت دعوى الإجماع منهم ففي نهوضها بالاستدلال إشكال، لقرب ابتنائها على فهمهم ذلك من بعض الأدلة التي استوضحوا الإجماع على قبولها وعدم ردها، لما هو المعلوم من كثرة اضطرابهم في دعاوى الإجماع.

وأما الآية الأولى فهي لا تنهض بالاستدلال، لأن الرجز هو الخبيث، لا النجس الشرعي الذي هو محل الكلام، ولذا فسره بعضهم بهجر عبادة الأصنام، وآخرون بالمعاصي، وثالث بالفعل القبيح والخلق الذميم... إلى غير ذلك. ومثلها الآية الثانية، كما يظهر مما تقدم في الاستدلال على نجاسة الخمر عند سوقها مرجحاً لنصوص النجاسة.

على أنه لو تم الاستدلال بهما لما نحن فيه لزم حرمة الانتفاع بالمتنجس حتى لو أمكن تطهيره، والتزام التخصيص فيهما في ذلك قد يأباه لسانهما.

وأما الآية الثالثة فهي قاصرة عن إفادة المدعى، لأن إطلاق النهي عن الأعيان ظاهر في النهي عما يقصد نوعاً منها، وهو الأكل في المقام.

وأما رواية تحف العقول فهي ضعيفة بالإرسال مضطربة المتن، حتى استظهر بعضهم أنها منقولة بالمعنى. مع أن مقتضاها العموم للمتنجس وإن أمكن تطهيره، ولا يظن بأحد البناء على ذلك، بحيث يحتاج جواز الاستعمال فيه للدليل المخرج عنها. ومن ثم لا مجال للاستدلال بها خصوصاً في قبال ما سبق من السيرة والنصوص. ويأتي الكلام في الحكم المذكور في المسألة الخامسة من مقدمات التجارة إن شاء الله تعالى.

ص: 113

(114) (مسألة 42): لا يجوز بيع الأعيان النجسة (1)

(1) بلا خلاف يعتد به، كما في الجواهر، وفي التذكرة: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية... فلو باع نجس العين - كالخمر والميتة والخنزير - لم يصح إجماعاً». وفيه أيضاً: «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعاً منا». وقد ادعي الإجماع على حرمة بيع كثير من النجاسات - كالخمر والفقاع والميتة والدم وغيرها - بنحو قد يظهر منه الإجماع على الكلية المذكورة، عداماً استثني ككلب الصيد.

وقد يستدل له بعد الإجماع المذكور بقوله تعالى:" والرجز فاهجر "(1) وقوله عز وجل في تحريم الخمر:" رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه "(2) بناء على الرجز والرجس فيهما النجس. بدعوى: أن البيع ينافي الهجر والاجتناب. وبرواية تحف العقول المتقدمة. وبالنبوي المشهور: «إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه». وبالنصوص الكثيرة الناهية عن بيع الخمر والكلب والخنزير والميتة، بإلغاء خصوصية مواردها، بحيث يستفاد منها عموم حرمة بيع النجس، أو بعدم الفصل.

ويندفع بأن الإجماع لم يثبت بنحو يعتد به في الخروج عن عمومات الصحة، إذ التأمل في كلماتهم يكشف عن أن المنشأ لحرمة بيعه حرمة الانتفاع به مطلقاً أو الانتفاع الظاهر، كما علل بذلك في كلمات غير واحد مثل ما تقدم عن الفخر والمقداد، وفي الغنية بعد أن اشترط في المعوضين ثبوت المنفعة المباحة قال: «وقيدنا بكونها مباحة تحفظاً من المنافع المحرمة. ويدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلم للصيد والزيت النجس للاستصباح تحت السماء، وهو إجماع الطائفة».

ويشهد بذلك استثناء كثير من النجاسات التي ينتفع بها منفعة محللة مقصودة

********

(1) سورة المدثر، الآية: 5.

(2) سورة المائدة، الآية: 90.

ص: 114

عند بعضهم واختلافهم فيه لاختلافهم في حلية الانتفاع أو في كونه مقصوداً، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة.

على أنه يصعب جداً استفادة إجماع تعبدي منهم في المقام، بل من القريب ابتناء الإجماع المدعى على فهمهم ذلك من الأدلة بتكلفات ومقدمات مطوية، كما هو الحال في كثير من الإجماعات على كبريات قد تكون متصيدة من الأدلة من دون أن تتضمنها النصوص بعمومها، فإنه يصعب جداً الوثوق بها، فضلاً عن العلم الذي عليه المعول في الأدلة اللبية.

وأما الآيتان الكريمتان فيظهر الحال فيهما مما تقدم في المسألة السابقة من أن المراد بالرجز معنى غير النجاسة الشرعية التي هي محل الكلام، وأن مقتضاهما العموم للمتنجس. فراجع.

كما يظهر مما تقدم وهن الاستدلال برواية تحف العقول. ولاسيما بملاحظة ابتناء حرمة البيع فيها على حرمة جميع وجوه التصرف الذي سبق عدم امكان البناء عليه. مضافاً إلى ما تضمنه صدرها من جواز بيع كل شيء يكون فيه الصلاح من جهة من الجهات.

وأما النبوي فضعفه مانع من الاستدلال به، لأنه لم يذكر في كتبنا إلا مرسلاً، ولم يرد مسنداً إلا في كتب العامة وبطرقهم. مع أن المحكي روايته في كتبهم المعتمدة هكذا: «إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم ثمنه» ولا مجال للبناء على العموم المذكور، إذ لا إشكال في جواز بيع كثير مما يحرم أكله كالدهن المتنجس والطيور المحرمة الأكل والطين وغيرها. فلابد من حمله على أن يكون الأكل هو المقصود نوعاً من الانتفاعات به، كالشحوم ونحوها، فلا مجال للتعدي لغيره، فضلاً عن التعدي لكل نجس. ولم يرد بالوجه الأول إلا في بعض المواضع من مسند أحمد، وحينئذ من الظاهر أنه لا مجال لحمله على خصوص ما حرم منه كل شيء، لعدم وجود ذلك، ولا على كل ما يحرم منه شيء من الانتفاعات ولو كان نادراً، لأنه خلاف الظاهر منه عرفاً

ص: 115

ويجوز بيع الأعيان المتنجسة (1) إذا كان لها منفعة محللة معتد بها عند

ولاستلزامه كثرة التخصيص المستهجن، بل الظاهر حمله على ما يحرم الانتفاع الظاهر منه، وهو لا يستلزم حرمة بيع الأعيان النجسة مطلقاً.

وأما النصوص الناهية عن بيع بعض الأعيان النجسة - كالخمر والخنزير وغيرهما - فهي مختصة بمواردها، ولا مجال لاستفادة الكلية المذكورة منها بإلغاء خصوصية مواردها. ولاسيما مع استثنائهم من الكلية المذكورة - تبعاً للنصوص - بيع الميتة المختلطة بالمذكى على من يستحل أكل الميتة، وبيع كلب الصيد، وبيع العبد الكافر مع نجاسته عند المشهور، وليس إلحاق بقية النجاسات بالمستثنى منه بأولى من إلحاقها بالمستثنى.

وأشكل من ذلك تتميم الاستدلال بها بعدم الفصل. لعدم وضوح قيام إجماع تعبدي على الملازمة، وليس إلا لإجماع المدعى على عموم المنع الذي سبق عدم نهوضه بالاستدلال في المقام. ومن ثم لا مجال للخروج عن عموم نفوذ العقود والتجارة وغيرها، بل يتعين الاقتصار على خصوص ما دل الدليل على حرمة بيعه تخصيصاً للأدلة المذكورة.

وتمام الكلام في ذلك في مبحث المكاسب المحرمة.

(1) من الظاهر اشتراك الأعيان المتنجسة مع النجسة في جملة من الأدلة المتقدمة. ومن ثم عمم غير واحد حرمة البيع لكل ما لا يقبل التطهير من النجاسات، وأطلق في الشرايع حرمة بيع المائع النجس عدا الأدهان. لكن لو بني على العمل بعموم الأدلة المذكورة لزم العموم لكل متنجس وإن أمكن تطهيره.

وكأن منشأ تخصيص سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره الحرمة بالأعيان النجسة أن العمدة في دليل المنع بنظرهم هو الإجماع، والمتيقن منه أعيان النجاسات دون المتنجسات وإن تعذر تطهيرها. ولاسيما بملاحظة النصوص المستفيضة التي أشرنا

ص: 116

العقلاء على نحو يبذل بإزائها المال، وإلا فلا يجوز بيعها وإن كان لها منفعة

محللة جزئية (1).

(مسألة 43): يحرم تنجيس المساجد (2)

إليها، الدالة على جواز بيع الدهن المتنجس التي عولوا عليها في الجملة. لكن عرفت عدم نهوض الإجماع بالاستدلال حتى في النجاسات، فلا يهم تحقيق عمومه أو خصوصه.

(1) كما هو الحال في غير المتنجسات، على ما يذكر في مباحث المكاسب المحرمة.

(2) يظهر المفروغية عن الحكم المذكور مما في المفاتيح من عدم الخلاف في وجوب إزالة النجاسة عن المساجد، لوضوح أن وجوب التطهير إنما هو لعدم مناسبة المسجد للنجاسة المقتضي للمنع من تنجيسه، كما تستفاد المفروغية أيضاً مما صرح به جماعة من وجوب تطهير البدن والثياب لدخول المساجد، وإن قصره بعضهم على ما إذا كانت النجاسة متعدية.

بل في الخلاف في مسألة حرمة دخول المشرك للمساجد: «لا خلاف في أن المساجد يجب أن تجنب النجاسات». وقريب منه عن كشف الحق، وفي السرائر في أواخر الكلام في غسل الميت: «ولا خلاف أيضاً بين الأمة كافة أن المساجد يجب أن تنزه وتجنب النجاسات العينيات»... إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا يبقى بملاحظتها شك في الإجماع على حرمة تنجيس المسجد.

وقد يستدل عليه - مع ذلك - بأمور:

الأول: قوله تعالى:" وإنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"(1) ، بناء على أن المراد بالنجس ما هو محل الكلام، وهو المتصف بالنجاسة الخبثية، فإن مقتضى تفريع النهي عن قرب المشركين للمسجد الحرام على نجاستهم

********

(1) سورة التوبة، الآية: 28.

ص: 117

كون النجاسة علة النهي، فيكون مقتضى عموم التعليل النهي عن قرب كل نجاسة، وحرمة دخولها المسجد، وهو يقتضي حرمة التنجيس بالأولوية القطعية، بل العرفية الراجعة لظهور الدليل نفسه في العموم. وهو وإن كان مختصاً بالمسجد الحرام، إلا أنه يتمم بعدم الفصل المحكي والمحصل بين المسجد الحرام وغيره، كما في الجواهر.

ويشكل بما سبق عند الكلام في نجاسة الكافر من عدم وضوح ظهور النجس في الآية في النجاسة الخبثية التي محل الكلام. فراجع. مضافاً إلى أن المفرع على نجاسة المشركين ليس هو النهي عن قربهم للمسجد الحرام مطلقاً، بل النهي عن قربهم في العام الثاني، ومن الظاهر أن حرمة إدخال النجاسة للمسجد وتنجيسه لم يشرع على هذا النحو، بل لو شرع لكان تشريعه على نحو الإطلاق، فالحكم المذكور حكم سياسي خاص بمورده لا مجال للتعدي عنه لكل نجس بالمعنى الذي هو محل الكلام.

ولاسيما مع قرب كون النجَس بالفتح مصدراً لا وصفاً بمعنى النجس بالكسر، ويكون إطلاقه على المشركين مبالغة في نجاستهم، فالمفرع عليه ليس مطلق النجاسة، بل النجاسة بمرتبة خاصة تناسب المبالغة المذكورة، ولا مجال مع ذلك للتعدي لكل نجس، خصوصاً بملاحظة ما يأتي من عدم الإشكال في جواز إدخال النجس للمسجد في الجملة، مع إباء لسان التعليل في الآية عن التخصيص ارتكازاً.

ومن القريب جداً أن يكون الحكم المذكور مساوقاً لما ورد من نداء أمير

المؤمنين (عليه السلام) لما بعثه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسورة براءة بأنه لا يحج بعد العام مشرك، وهو أجنبي عما نحن فيه جداً.

الثاني: قوله تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود"(1) ، وقوله عز وجل مخاطباً إبراهيم (عليه السلام):" وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود"(2).

********

(1) سورة البقرة، الآية: 125.

(2) سورة الحج، الآية: 26.

ص: 118

(119)وفيه أولاً: أنه لم يتضح كون المراد بالتطهير هو التطهير من الخبث الذي هو محل الكلام، لعدم وضوح شيوع الاستعمال فيه في شريعة إبراهيم (عليه السلام) بل قد يراد به التطهير من رجس الأوثان أو من المشركين، كما روي مرسلاً عن الصادق (عليه السلام) في تفسير علي بن إبراهيم.

وثانياً: أنهما مختصان بالبيت وهو الكعبة الشريفة، ومن الممكن اختصاصها بمزيد التعظيم عن المسجد الحرام، فضلاً عن بقية المساجد.

وثالثاً: أن ظاهرهما الأمر بتطهير البيت من أجل من يعتريه من الطائفين وغيرهم، تشريفاً وتكريماً لهم، أو لتجنب تنجسهم بالنجاسة المتعدية، أو لغير ذلك، ولا ظهور لهما في الأمر بتطهير البيت لذاته نفسياً، كما هو المدعى في المقام.

الثالث: النبوي المذكور في كتب الفقهاء: «جنبوا مساجدكم النجاسة»(1).

لكنه لا ينهض بالاستدلال بعد ضعف سنده وعدم وضوح انجباره بعمل الأصحاب لعدم وروده في كتب الحديث المعول عليها عندهم، وذكره في كتب الفقهاء قد يكون لتأييد الحكم المذكور والاستئناس له بالسنة بعد المفروغية عنه بينهم، وإلا فمن البعيد جداً اعتمادهم على مثل هذه المراسيل في الفتوى بالحكم الشرعي. ومجرد موافقته لفتوى المشهور لا تكفي في انجبار ضعف سنده ما لم يرجع لاعتمادهم عليه. على أن المساجد فيه قد تحمل على مسجد الجبهة، أو جميع أعضاء السجود، نظير ما ورد في تفسير قوله تعالى: "وأن المساجد لله"(2).

الرابع: صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الدابة تبول فتصيب بولها المسجد أو حائطه أيصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جف فلا بأس»(3). بدعوى: ظهوره في مفروغية السائل عن وجوب إزالة النجاسة، وإنما تردد في فورية ذلك،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 24 من أبواب أحكام المساجد كتاب الصلاة حديث: 2.

(2) سورة الجن، الآية: 18، وسائل الشيعة ج: 18 باب: 4 من أبواب حد السرقة حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 18.

ص: 119

بحيث يجب تقديمها على الصلاة، وقد أقره الإمام (عليه السلام) على ذلك، ولم يردعه عن اعتقاده الوجوب.

وفيه: أنه لم يتضح من السؤال مفروغية السائل عن وجوب إزالة النجاسة، لعدم وضوح بنائه على نجاسة أبوال الدواب وإن دلت عليها بعض النصوص، كما سبق في محله. بل هو لا يناسب التفصيل بين الجفاف وعدمه، لعدم الفرق بينهما في وجوب إزالة النجاسة عن المسجد عندهم، بل قد يكون السؤال بلحاظ استقذار البول، المقتضى لتنزيه المسجد عنه بغسله منه. ويرجع التفصيل بين الجفاف وعدمه للفرق بينهما في حصول الإهانة للمسجد وعدمها.

أو بلحاظ احتمال نجاسة البول، المقتضية لامتناع الصلاة في موضعه أو في موضع يستلزم مماسته. ويرجع التفصيل بين الجفاف وعدمه للردع عن احتمال نجاسته، وأنه لا محذور في الصلاة إلا التقذر بملاقاة البول والتلوث به الذي لا يتحقق مع جفافه.

ولعل الثاني أظهر، بلحاظ أنه ظاهر في السؤال عن صحة الصلاة في المسجد قبل الغسل وجوازها وضعاً، لا عن وجوب المبادرة للغسل تكليفاً مع قطع النظر عن الصلاة في المسجد، كما هو الحال في حق من لا يريد الصلاة أو يريد الصلاة في غير المسجد.

وأما احتمال رجوع السؤال للترجيح بين المستحبين، وهما المبادرة لغسل البول، والمبادرة للصلاة من دون نظر لوجوب إزالة النجاسة أو وجوب المبادرة إليها، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره).

فهو مخالف لظاهر الصحيح، لأن المنصرف من السؤال هو السؤال عن الترخيص في الصلاة قبل غسل البول، في مقابل المنع منها، لا في مقابل رجحان تأخيرها واستحبابه.

الخامس: النصوص الكثيرة المتضمنة جواز اتخاذ الكنيف مسجداً بعد تنظيفه

ص: 120

وطمه بالتراب، معللاً في جملة منها بأن التراب يطهره(1). لدلالتها على عدم جواز اتخاذ الأرض المتنجسة مسجداً قبل التنظيف والطم بالتراب، لمنافاة النجاسة للمسجدية، المستلزمة لحرمة تنجيس المسجد ووجوب تطهيره لو تنجس.

وفيه: أن جملة من النصوص المذكورة وإن اشتملت على عنوان التنظيف، إلا أن الظاهر منه التنظيف بإزالة عين النجاسة، لا بالغسل المطهر، ولذا نسب في جملة منها التطهير للتراب، بل ظاهر بعضها أو صريحه عدم وجوب إزالة عين النجاسة، وأنه يكفي وضع التراب عليها، لأن تنظيف المكان وتطهيره يكون بذلك.

كصحيح الحلبي في حديث: «أنه قال لأبي عبد الله (عليه السلام): فيصلح المكان الذي كان حشّاً زماناً أن ينظف ويتخذ مسجداً؟ فقال: نعم إذا ألقي عليه من التراب ما يواريه، فإن ذلك ينظفه ويطهره»(2) ، وموثق مسعدة بن صدقة عنه (عليه السلام): «أنه سئل أيصلح مكان حشّ أن يتخذ مسجداً؟ فقال: إذا ألقي عليه من التراب ما يواري ذلك ويقطع ريحه فلا بأس، وذلك لأن [أن خ. ل] التراب يطهره. وبه مضت السنة»(3).

ومن الظاهر أنه لا يراد بتطهير التراب للمكان - مع وجود عين النجاسة فيه أو رفعها - مطهريته من الخبث الذي نحن بصدده، بل ما يساوق رفع الاستقذار وذهاب الرائحة، ولزوم ذلك قد يكون لتجنب هتك المسجد، وهو أجنبي عما نحن بصدده.

وأما ما يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) من دلالة النصوص المذكورة على لزوم طهارة ظاهر المسجد. فهو مندفع بأن ذلك لا يناسب تعليل لزوم إلقاء التراب بمطهريته، الظاهر في لزوم التطهير للباطن النجس، لكن بالمعنى المتقدم من الطهارة الذي يحصل حتى مع نجاسة التراب الملقى عليها، كما هو مقتضى إطلاق النصوص المذكورة أيضاً.

نعم لو تضمنت النصوص المذكورة لزوم إلقاء التراب الطاهر على النجاسة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 11 من أبواب أحكام المساجد.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 11 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 11 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1، 5.

ص: 121

من دون تعليل بمطهريته للمكان كان لما ذكره وجه.

ومن ثم لا تنهض النصوص المذكورة بإثبات وجوب طهارة ظاهر المسجد بالمعنى الذي هو محل الكلام، فضلاً عن باطنه.

السادس: صحيح الحلبي: «نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: أين نزلتم؟ فقلت نزلنا في دار فلان، فقال: إن بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً، أو قلنا له: إن بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً، فقال: لا بأس، إن الأرض تطهر بعضها بعضاً...»(1). وقريب منه صحيحه الآخر وفي ذيله: «قلت: فأطأ على الروث الرطب. قال: لا بأس. أنا والله ربما وطئت عليه ثم أصلي ولا أغسله»(2). بدعوى ظهورهما في المفروغية عن حرمة تنجيس المسجد، ولذا استدعى الحال السؤال عن الدخول للمسجد بعد تنجس الرجل بالمشي في الزقاق المذكور.

وفيه: أنه لا قرينة على كون منشأ السؤال هو محذور تنجيس المسجد، بل لعله منشأه هو محذور الصلاة مع نجاسة الرجل، كما هو المناسب للجواب بطهارة القدم بالمشي التي شرط في الصلاة، لا بجفاف القدم الذي هو يكفي في عدم تنجيس المسجد. بل ذلك كالصريح من ذيل الصحيح الثاني المتقدم، حيث نبه (عليه السلام) إلى عدم مانعية ملاقاة الروث الرطب من الصلاة، لا من دخول المسجد.

السابع: صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المستحاضة: «فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر... وتحتشي وتستثفر ولا تحني [تحيى]، وتضم فخذيها في المسجد وسائر جسدها خارج. ولا يأتيها بعلها أيام قرئها، وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء»(3).

حيث ادعى في المدارك والحدائق أنه يلوح من ذيله عدم جواز إدخال النجاسة

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 4 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 4، 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 1.

ص: 122

المتعدية. وكأنه للاقتصار فيه في دخول المسجد من دون تحفظ على صورة عدم ثقب الدم الكرسف والأمن من تلويث المسجد به.

وفيه: أن التحفظ في صورة ثقب الدم الكرسف قد يكون من أجل الصلاة، تجنباً لزيادة الحدث والنجاسة فيها، لا من أجل المسجد وتلويثه، وإلا فثقب الدم الكرسف لا يستلزم تلوث المسجد به مع امكان التحفظ منه بالاستثفار ونحوه مما يجب من أجل الصلاة.

الثامن: حديث عبد الله بن ميمون القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: «قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تعاهدوا نعالكم عند أبواب المسجد»(1) ، ونحوه أوعينه مرسل مكارم الأخلاق(2). فإن تعاهد النعل إنما هو للاحتياط والتحفظ من إدخال النجاسة للمسجد، بلحاظ حرمة إدخالها، أو حرمة تنجيس المسجد بها المترتب على الإدخال.

وفيه: أنه بعد أن لم يكن التعاهد للنعل واجباً، بل مستحباً، فكما يمكن أن يكون استحبابه بلحاظ حسن الاحتياط بالفحص تحفظاً من احتمال إدخال النجاسة أو التنجيس للمسجد المحرم مطلقاً عندهم يمكن أن يكون تحفظاً من احتمال خصوص التلويث الموجب لهتك المسجد الذي لا إشكال في تحريمه، أو من احتمال تقذر المسجد ولو بغير النجاسة - كالروث الطاهر - المرجوح من دون أن يكون محرماً.

ومن ثم كان الظاهر انحصار الدليل على حرمة تنجيس المسجد ووجوب تطهيره بالإجماع المشار إليه آنفاً، كما اعترف به في الحدائق وإن كان ظاهره عدم التعويل عليه. وهو كاف في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء، حيث يمتنع عادة خفاء الحكم فيها على الأصحاب وخطئهم فيها.

اللهم إلا أن يقال: لم يتضح من الإجماع كون حرمة التنجيس تعبدية عندهم، بل لعلها بلحاظ لزوم الهتك والتوهين للمسجد للبناء على أن التنجيس هتك

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 3 باب: 24 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1، 3.

ص: 123

للمسجد وتوهين له مطلقاً ولو بنظر الشارع الأقدس الذي تكون النجاسة عنده من سنخ القذارة عند العرف، فكما يكون تقذير المسجد هتكاً له عرفاً يكون تنجيسه هتكاً له شرعاً. كما يناسبه تعميم جماعة منهم الحكم لكل ما يحرم توهينه وهتكه، كالضرائح المقدسة والمصحف الشريف والتربة الحسينية.

وحيث لم يثبت ذلك عندنا - لأن التوهين المعلوم التحريم أمر عرفي، لم يتضح من الشارع الأقدس التصرف فيه، بحيث يرجع الحكم منه بالنجاسة للحكم بحصول التوهين بها شرعاً - أشكل التعويل على الإجماع المذكور.

على أن عدم احتمال خطأ أهل الفتوى في مثل هذه الكبرى الشايعة الابتلاء لا ينافي احتمال الخطأ منهم في صياغتها وتحديدها، بعد عدم تضمن الأدلة النقلية لها بحدودها المذكورة، ليتضح من تعويلهم على تلك الأدلة جريهم على مفادها بحدوده، وإنما استفيدت من أهل الفتوى بملاحظة مجموع كلماتهم.

حيث يتوجه حينئذ احتمال اضطراب الأمر عليهم بسبب أن كثيراً من أفراد النجاسة الشايعة من المستقذرات العرفية الموجبة لهتك المسجد المحرم ارتكازاً، وكثيراً منها لا يناسب المسجد بلحاظ كونه معرضاً لابتلاء المصلين ونحوهم بالنجاسة، خصوصاً مع شيوع السجود منهم على أرض المسجد، حيث قد يكون ذلك مهيأ لهم نفسياً لاستفادة الحكم المذكور من آية المشركين، معتضداً ببقية النصوص المتقدمة، كما حصل لجماعة كثيرة منهم، حتى منع جمع منهم إدخال النجس والمتنجس للمسجد ولو مع عدم تعدي نجاستهما، بنحو لا يتضح المنشأ له لولا الآية الشريفة.

وكيف يمكن مع ذلك كشف تصريحات أهل الفتوى المتقدمة إليها الإشارة عن البناء على الكبرى المذكورة بحدودها ممن سبقهم من الأصحاب الذين لم يتوجهوا لتحرير الفتاوى، وإنما كانوا يقتصرون على إثبات النصوص وتعرف آراؤهم منها، مع ما سبق من قصور الآية والنصوص عن إفادة هذه الكبرى.

ومن هنا يشكل جداً التعويل على الإجماع في إثبات الكبرى على عمومها وعدم

ص: 124

قصرها على صورة لزوم هتك المسجد وتوهينه. ولاسيما مع مناسبة ذلك للنصوص الكثيرة المشار إليها آنفاً المتضمنة جواز اتخاذ الكنيف مسجداً، فإنها وإن لم تصلح دليلاً على التقييد، لامكان الاقتصار فيها على موردها، وهو النجاسة الباطنة السابقة على المسجدية، إلا أنها مناسبة جداً لما سبق. وإن كان الخروج مع ذلك عن الإجماع المتقدم صعب جداً.

نعم لما كان المسجد من الأوقاف العامة وليس من المباحات الأصلية أشكل التصرف فيه بالتنجيس مع احتمال تحريمه وعدم مناسبته للمسجدية، لعدم وضوح السلطنة عليه حينئذ، بل يكون التصرف المذكور تعدياً عرفاً ومحرماً ما لم يثبت جوازه شرعاً، أو يأذن به الولي لصالح المسجد.

وبعبارة أخرى: لما كان المسجد قبل المسجدية مملوكاً لمالكه ولا يجوز التصرف فيه إلا بأنه فجواز التصرف فيه بعد وقف المالك له مسجداً مبني على نفوذ الوقف وملائمة التصرف للجهة الموقوف عليها، فمع الشك في ملائمة التصرف للجهة الموقوف عليها لا يحرز المسوغ له، بل يحرم ارتكازاً بعد احترام المال ذاتاً، نظير ما تقدم في المسألة الثالثة من أحكام التخلي من حرمة التصرف في الوقف ما لم يحرز دخوله في الجهة الموقوف عليها. فتأمل جيداً.

لكن ذلك بنفسه لا يقتضي وجوب التطهير كفائياً، لعدم كون ترك التطهير تعدياً. غاية الأمر أنه قد يجب التطهير على من نجسه لإزالة أثر اعتدائه مع قدرته عليه إذا لم يلزم منه اعتداء آخر على المسجد. فتأمل.

هذا وقد استدل في الحدائق لجواز تنجيس المسجد بموثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الدمل يكون بالرجل فينفجر وهو في الصلاة. قال: يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض، ولا يقطع الصلاة»(1). قال: «فإن إطلاقها شامل لما لو كانت الصلاة في المسجد، بل هو الغالب» .

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب أحكام المساجد حديث: 8.

ص: 125

لكنه كما ترى! لعدم ورودها لبيان جواز تنجيس الحائط، بل لبيان عدم الحاجة لقطع الصلاة من أجل مسح ما ينزل من الدمل، أو عدم جواز قطعها لذلك، لعدم منافاة المسح المذكور لها، فلا ينافي حرمة تنجيس الحائط لو كان مسجداً أو ملكاً للغير أو وقفاً لا يناسبه التصرف المذكور، وليست غلبة كونه مسجداً بحد تمنع من حمل الرواية على غيره بعد عدم الإطلاق فيها.

على أنه لم يتضح ملازمة انفجار الدمل لخروج الدم ونجاسة القيح به، بل كثيراً ما يخرج منه القيح الخالص، خصوصاً في أول انفجاره من قبل نفسه. فالاستدلال المذكور موهون جداً.

ثم إن مقتضى إطلاق الأصحاب عموم الحرمة لباطن المسجد، وفي الجواهر التصريح بذلك، وأن ما تضمن جواز اتخاذ الكنيف مسجداً مختص بمورده. ومنع منه بعض مشايخنا. عملاً بالأصل بعد قصور أدلة الحرمة عن ذلك، لوضوح اختصاص الإجماع والارتكاز بالظاهر وكذا جملة من النصوص المتقدم الاستدلال بها، ومنها نصوص اتخاذ الكنيف مسجداً، وعن الأردبيلي البناء لأجل هذه النصوص على عدم اشتراط الطهارة في المسجد بحيث يكون التحت أيضاً طاهراً، وكذا الفوق.

لكن ظهر حال النصوص مما تقدم، وأما الإجماع فيصعب جداً البناء على اختصاصه بالظاهر بعد استدلال جماعة من الأصحاب بآية المشركين والنبوي اللذين لا مجال لتوهم ذلك فيهما. كما يصعب التفكيك بين الباطن والظاهر ارتكازاً بعد البناء على حرمة التنجيس تعبداً مع قطع النظر عن الهتك وابتلاء المصلين بالنجاسة. بل يصعب جداً بالنظر للارتكاز أن تتخذ في المسجد بالوعة للماء المتنجس إذا لم تشتمل على عين النجاسة، فضلاً عما إذا اشتمل عليها.

وأشكل من ذلك جواز تنجيس الفوق الذي تقدم عن الأردبيلي، فإنه منافٍ للمرتكزات جداً. إلا أن يريد منه الفضاء الأعلى من دون بناء، حيث تكون النجاسة غير متعدية بل يكون ظرفاً للنجاسة لا غير، فإنه لا مجال لدعوى المنع من ذلك بناء

ص: 126

(127) وبنائها (1) وسائر آلاتها (2)،

على ما يأتي من جواز إدخال النجاسة للمسجد. ولاسيما مع علّوه المفرط، بحيث لا يكون ملحقاً بالمسجد عرفاً. فلاحظ.

(1) لإطلاق بعض الأدلة المتقدمة، ومنها آية المشركين التي هي عمدة الأدلة عنده (قدس سره) بعد الإجماع.

لكن استشكل السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة الوثقى في وجوب إزالة النجاسة عن الجانب الخارجي من جدار المسجد وأقره على ذلك جماعة من محشيها.

وكأنه لخروجه عن المتيقن من الإجماع الذي سبق أنه عمدة الدليل في المقام، ولاسيما مع عدم وضوح استنكاره حسب ارتكازيات المتشرعة.

وأما إطلاق الآية الشريفة - لو تم الاستدلال بها - فيشكل تماميته بعد العلم بعدم إرادة المعنى الحقيقي من القرب فيها، إذ لا إشكال في جواز قرب المشرك فضلاً عن غيره من النجاسات من المساجد، بل التصاقه بحائطه من الخارج وليس النهي عن القرب فيها إلا كناية عن دخوله فيها. نعم تنجيس ظاهر المسجد ليس كالتصاق الكافر به من الخارج ارتكازاً. إلا أن ذلك لا يكفي في إحراز دخوله في إطلاق الآية.

على أن من القريب عدم بناء المتشرعة على التقيد فيه، ولو للغفلة عنه، بسبب انكشاف الحائط من الجانب المذكور، وعدم تميزه عن حيطان الدور والبنايات المجاورة، ولو كان بناؤهم على التحفظ من تنجيسه لاحتاج إلى عناية زائدة، ولو كان كذلك لظهر وبان. ومن ثم كان الظاهر عدم حرمة تنجيسه. إلا أن يكون بحيث يوجب هتك المسجد وتوهينه. فلاحظ.

(2) إن كان المراد بالآلات ما يدخل في البناء، من الأخشاب والأبواب ونحوها، فالكلام فيه يظهر مما سبق في البناء. وإن كان المراد بها ما هو خارج عن ذلك - كالمنبر ودولاب الكتب ونحوهما - فالكلام فيها يظهر مما يأتي في الفراش.

ص: 127

وكذلك فراشها (1)

(1) كما نسبه (قدس سره) لكثير. قال: «ولم ينقل فيه خلاف» وفي الجواهر: «بل قد تشعر عبارة مجمع البرهان بالإجماع عليه». وقد يستدل له بآية المشركين، بناء على عموم النجاسة فيها للمتنجس. لكن استشكل (قدس سره) فيه بالمنع من العموم، لما يأتي

منه (قدس سره) في النجاسة غير المتعدية من الفرق بين النجس والمتنجس. بل سبق منّا الإشكال في أصل الاستدلال بالآية الشريفة في المقام.

وفي الجواهر: «ولعله لتبعيتها للمسجد بإضافتها إليه، وتحقق تحقيره بتحقيرها، كتعظيمه ما دامت فيه. ولامكان صدق تلويث المسجد بتلويثها».

والكل كما ترى! إذ التبعية موقوفة على إطلاق يقتضي حرمة تنجيس المسجد، لينظر في استفادة حكمها منه تبعاً، وهو مفقود، كما يظهر مما سبق.

وأما تحقق تحقيره بتحقيرها، فهو موقوف على أن يكون مبنى الحكم بحرمة التنجيس ووجوب التطهير لزوم تحقير السجود وهتكه، وقد سبق المنع من ذلك عند الكلام في الاستدلال بالإجماع.

وأما ما ذكره أخيراً من امكان صدق تلويث المسجد بتلويثها. ففيه: أنه لو أريد به صدقه حقيقة، فهو مقطوع البطلان، ولو أريد به صدقه مجازاً فهو لا ينفع. إلا أن يرجع إلى استفادته من دليله تبعاً، الذي سبق منه التعرض له أولاً، وسبق الكلام فيه.

فالعمدة في حرمة التنجيس ما سبق في المسجد من أن التصرف في الوقف لا يجوز من دون إحراز شمول الوقف للتصرف المذكور، وحيث كان الوقف على المسجد راجعاً للترخيص في التصرف المناسب للمسجد، ومع الشك في مناسبة التنجيس له يتعين حرمته. وهذا يجري في جميع ما وقف للمسجد من أجل أن يكون فيه، ولا يختص بالفراش.

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) فصل بين مثل الفراش مما وقف للعبادة ومثل المنبر مما

ص: 128

وقف لغير العبادة، فمنع من تنجيس الأول، لأنه وقف للعبادة لا للتنجيس، ورخص في الثاني، لعدم منافاته لجهة الوقف.

ويشكل بأنه ليس شيء من ذلك يوقف للتنجيس، وإنما يوقف لأن يكون في المسجد، وينتفع به فيه، فإن كان المعيار في المنع منافاته للانتفاع الموقوف عليه في المسجد، فمن الظاهر أن المنافي للصلاة شرعاً هو نجاسة مسجد الجبهة، والاقتصار على ذلك يقتضي حرمة تنجيس موضع السجود من الفراش إذا كان مما يسجد عليه

- كالحصير - وكان معداً عند الناس للسجود.

وإن بني على التعميم بلحاظ بناء الناس خارجاً على مساورة فراش المسجد، وعدم التوقي من ملاقاته برطوبة، فوقفه لانتفاع الواردين للمسجد يقتضي المنع مما ينافي سيرتهم المذكورة. فهو يجري في جميع ما يوقف لأن يوضع في المسجد وينتفع به فيه، لعموم سيرة الناس بالوجه المذكور للجميع.

على أنه لا يعتبر في المنع منافاة التصرف للجهة الموقوف عليها، بل يكفي عدم إحراز عموم الوقف له وتضمنه للترخيص فيه كما سبق. وذلك يجري في الجميع.

نعم هو لا يقتضي وجوب التطهير كما سبق، خصوصاً في حق غير من نجسه، وخصوصاً إذا كان وقفه بعد تنجيسه.

وكأن الوجه الذي اعتمده سيدنا المصنف (قدس سره) في العموم هو الإجماع الذي قد يثبت أو يعتضد بارتكازات المتشرعة.

لكن سبق الإشكال في الاعتماد على الإجماع في أصل الحكم، فضلاً عن هذه الخصوصيات التي لم ينبه لها جماعة كثيرة. والارتكاز قد يبتني على اختلاط النجاسة بالهتك، بسبب فتوى الفقهاء في المقام، ولم يتضح كونه ارتكازاً مستقلاً عن فتاواهم مستنداً للشارع الأقدس، لينهض بالحجية. بل الإنصاف أن دعوى الارتكاز على العموم المذكور في غاية الإشكال. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

ص: 129

وإذا تنجس شيء منها وجب تطهيره (1). بل يحرم إدخال النجاسة العينية غير المتعدية إذا لزم من ذلك هتك حرمة المسجد (2)، مثل وضع العذرات والميتات فيه، بل مطلقاً (3) على الأحوط وجوباً، إلا فيما لا يعتد به، لكونه من

(1) بلا إشكال فيه بينهم، بحيث لو تم الإجماع على حرمة التنجيس لتم على وجوب التطهير. وكذا الحال في أكثر الأدلة اللفظية المتقدمة، فإنها تقتضي عدم مناسبة النجاسة للمسجد، فكما يحرم تنجيسه يجب تطهيره لو تنجس. نعم ما سبق منا من الوجه لا يقتضي وجوب التطهير في غير مورد لزوم هتك المسجد وإهانته، كما سبق التعرض لذلك.

(2) بلا إشكال، لحرمة هتك المسجد إجماعاً وارتكازاً بعد كونه من شعائر الله تعالى.

(3) كما هو مقتضى إطلاق ما تقدم من الخلاف والسرائر، وإطلاق الشرايع والنافع والمعتبر والتذكرة والقواعد والإرشاد والمنتهى ومحكي غيرها. بل في الذكرى: «قاله الأصحاب... والظاهر أن المسألة إجماعية».

ويستفاد أيضاً من إطلاق جماعة وجوب تطهير الثياب والبدن لدخول المساجد بالأولوية، لأنه إذا حرم إدخال المتنجس حرم إدخال عين النجاسة بالأولوية. بل قد يشتمل الثوب والبدن المتنجسين على عين النجاسة، فإذا حرم إدخالها مع تبعيتها للطاهر حرم إدخالها مع استقلالها بالأولوية أيضاً.

وكيف كان فالوجه فيه ظاهر بناء على تمامية الاستدلال بالآية الشريفة، لوضوح أن موردها لما كان هو دخول الكافر فهي لا تختص بالتنجيس قطعاً. لكن سبق المنع من الاستدلال بها.

ومثله الاستدلال بالنبوي المتقدم. لما سبق من ضعفه سنداً ودلالة. على أن النجاسة اسم مصدر من نجس - كما في مجمع البحرين - واستعماله في الأعيان النجسة توسع، ولا قرينة على إرادته في الحديث، بل مقتضى الأصل استعماله على الوجه

ص: 130

توابع الداخل (1)، مثل أن يدخل وعلى ثوبه أو بدنه دم لجرح أو قرحة أو نحو ذلك. بل الأحوط استحباباً المنع مطلقاً. نعم لا بأس بإدخال المتنجس (2)

الأول، ومقتضاه حرمة تنجيس المسجد ووجوب تطهيره، لا حرمة إدخال النجاسة فيه. كما ذكر ذلك في الجملة بعض مشايخنا (قدس سره).

وبالتأمل فيما سبق من وجوه الاستدلال على حرمة تنجيس المسجد يتضح ما يمكن أن يساق منها دليلاً على حرمة إدخال النجاسة للسمجد، كما يتضح عدم نهوضه بالاستدلال. ومن ثم لا مجال للبناء على حرمة إدخال النجاسة في غير صورة لزوم هتك المسجد وإهانته.

ولعله لذا استشكل في نهاية الأحكام في عموم الحرمة للنجاسة غير المتعدية، بل لذا ذهب جماعة من المتأخرين لجواز إدخالها، كالشهيدين والمحقق الثاني وصاحب المدارك وغيرهم، كما حكي عن بعضهم.

(1) حيث لا إشكال في جوازه بملاحظة النصوص المتضمنة جواز اجتياز الحائض في المسجد(1) وأخذ شيء منه(2) ودخول المستحاضة للمسجد وطوافها بالبيت(3). وكذا السيرة على دخول ذوي الجُروح والقُروح ونحوهم.

(2) كما صرح بذلك جماعة، حيث قيدوا إطلاق من سبق منه وجوب تطهير الثياب والبدن من النجاسة بما إذا كانت متعدية. وكأن الوجه الذي اعتمده سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام ما ذكره في مستمسكه من أن القدر المتيقن من آية المشتركين هو أعيان النجاسات، لأن النجس لما كان مصدراً، وحمله على العين لا يصح إلا على وجه المبالغة، فالموضوع للحكم هو النجس على نحو المبالغة، وصدقه على المتنجس

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 15 من أبواب الجنابة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 17 من أبواب الجنابة، وج: 2 باب: 35 من أبواب الحيض.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 4 باب: 15 من أبواب المستحاضة، وباب: 3 من أبواب النفاس، وج: 9 باب: 91 من أبواب الطواف.

ص: 131

(132) إذا لم يكن فيه عين النجاسة (1).

(مسألة 44): تجب المبادرة إلى إزالة النجاسة من المسجد (2) وآلاته وفراشه، حتى لو دخل المسجد ليصلي فيه فوجد فيه نجاسة وجبت المبادرة إلى إزالتها مقدماً لها على الصلاة مع سعة الوقت (3). لكن لو صلى وترك

غير واضح.

ومن ثم ذكر (قدس سره) أن مقتضى ذلك قصور الآية الشريفة عن حرمة تنجيس المسجد بالمتنجس، وأن الدليل عليه ينحصر بالإجماع.

بل ذكر (قدس سره) أنه لو أمكن الفرق بين النجاسات يشكل الاستدلال بالآية الشريفة على المنع من كل نجاسة. لكن الظاهر امكان البناء على ذلك، لامكان خصوصية نجاسة الشرك وأهميتها. ومن ثم سبق أنه لا مجال للتعدي من المشرك لكل نجاسة. فراجع وتأمل جيداً.

(1) يعني: إذا كان المتنجس غير تابع للداخل، وإلا جاز وإن كان فيه عين النجاسة، كما تقدم منه (قدس سره).

(2) بلا خلاف، بل لعله إجماعي، كما حكاه بعضهم. كذا في الجواهر، وفي المدارك أن الأصحاب قد قطعوا بذلك. وهو المستفاد من جميع أدلة وجوب إزالة النجاسة عن المسجد وعن آلاته وفراشه لو تمت لابتنائه ارتكازاً على منافاة النجاسة للمسجدية، وعدم مناسبتها لها، وذلك يقتضي طهارة المسجد وتجنيبه النجاسة في جميع الأزمنة على نحو الاستغراق الملازم للفورية

(3) كما هو مقتضى القاعدة في مزاحمة التكليف المضيق للموسع.

وأما ما عن المستند من قصور دليل الفورية عن صورة المزاحمة للواجب وإن كان موسعاً، لاختصاص الدليل عليها بالإجماع، وهو قاصر عن صورة مزاحمته لتكليف آخر وإن كان موسعاً.

ص: 132

الإزالة عصى، وصحت الصلاة (1). أما في الضيق فتجب المبادرة إلى الصلاة

فهو ممنوع أولاً: لما تقدم من أن جميع الأدلة اللفظية المستفاد منها وجوب التطهير تقتضي الفورية. وثانياً: لعموم الإجماع بمقتضى المناسبة الارتكازية القاضية بأن وجوب التطهير لعدم المناسبة بين النجاسة والمسجدية، كما تقدم.

ومثله في الإشكال ما ذكره من أنه لو استفيدت الفورية من دليل لفظي كان بينه وبين دليل التكليف المزاحم عموم من وجه، ومع فقد الترجيح فالمرجع التخيير.

لاندفاعه بأن المقام من صغريات التزاحم الذي يتعين فيه تقديم التكليف المضيق في مقام الامتثال، لا من صغريات التعارض، ليجري فيه ما ذكره من الترجيح والتخيير لو تم في نفسه.

(1) بناءً على ما هو التحقيق من أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده، فالأمر بالإزالة فوراً لا يقتضي النهي عن الصلاة، ليمتنع التقرب بها، والإتيان بها على وجه العبادية. وحينئذ يمكن الإتيان بها بوجه العبادية بلحاظ التقرب بالملاك، بل التقرب بالأمر الترتبي، بل الأصلي بناء على عدم التزاحم بين الأمر الموسع والمضيق، ليلزم تقييد الأول بغير الفرد المزاحم على ما ذكرناه مفصلاً في مسألة الضد من كتاب (المحكم في الأصول).

نعم تقدم في فصل شرائط الوضوء عند الكلام في الوضوء من الإناء المغصوب الإشكال في حصول قصد القربة بالعمل إذا ابتنى على قصد المعصية وإن لم يتحد معها. وذلك يجري في المقام إذا كان الداعي للاستمرار في ترك تطهير المسجد هو الصلاة، بحيث لولا الصلاة لبادر للتطهير. فراجع وتأمل جيداً.

هذا كله مع الإلتفات للنجاسة، كما هو مفروض كلام سيدنا المصنف (قدس سره) بقرينة حكمه بحصول المعصية. أما مع الغفلة عنها فلا إشكال عندهم في الصحة، لأن النهي عن الضد - لو تم - لا يمنع من التقرب مع الغفلة عنه. وتمام الكلام في

ص: 133

(134) مقدماً لها على الإزالة (1).

(مسألة 45): إذا توقف تطهير المسجد على تخريب شيء منه لم يجب (2)،

ذلك في الأصول عند الكلام في اقتضاء النهي عن العبادة للفساد.

(1) لأن التكليف بالصلاة في وقتها أهم من الأمر بالإزالة فوراً. والظاهر عدم الإشكال في ذلك عندهم. كما لا ينبغي الإشكال فيه لأدلة الحكمين.

(2) علّله (قدس سره) بمزاحمة حرمة التخريب لوجوب الإزالة، ومع عدم إحراز أهمية أحدهما يتعين التخيير. بل إذا لم يكن تنجيس المسجد بعين النجاسة بل بالمتنجس فحيث سبق منه (قدس سره) قصور الآية عنه وانحصارها بالإجماع، فمع الشك في وجوب الإزالة مع لزوم التخريب يكون المرجع فيه البراءة، فتكون حرمة التخريب بلا مزاحم، كما ذكر (قدس سره) ذلك أيضاً.

وفيه: أن الشك في وجوب الإزالة مع لزوم التخريب وقصور الإجماع عنه ليس لاحتمال قصور ملاكه، بل هو ارتكازًا للمزاحمة بحرمة التخريب، فلابد من الرجوع فيه لمقتضى القاعدة في المزاحمة، ولا مجال معه للرجوع للبراءة من التطهير لتبقى حرمة التخريب بلا مزاحم. على أن الدليل على حرمة التخريب ينحصر أيضاً بالإجماع وارتكاز المتشرعة.

وأما ما ذكره أولاً من مزاحمة حرمة التخريب لوجوب الإزالة، فهو وإن كان متيناً، إلا أن الرجوع معه للتخيير موقوف على عدم أهمية أحد الأمرين أو احتمالها في أحدهما بعينه، وهو يختلف باختلاف الموارد من حيثية نوع النجاسة ومكانها من المسجد، ومراتب التخريب اللازم من التطهير.

بل يأتي منه (قدس سره) وجوب التخريب لأجل التطهير مع وجود الباذل للتعمير، ووجوب بذل المال غير المضر بالحال لو توقف عليه التطهير. ومقتضى الجمع بين الأمرين هو وجوب التطهير إذا لزم منه التخريب الذي يتوقف تعميره على بذل مال

ص: 134

(135) إلا إذا كان يسيراً لا يعتد به. نعم إذا وجد باذل لتعميره وجب تطهيره وإن لزم تخريبه أجمع (1).

(مسألة 46): إذا توقف تطهير المسجد على بذل مال وجب (2)، إلا

لا يضر بالحال، ووجوب بذل ذلك المال، مقدمة لامتثال التكليف بالتطهير بوجه لا يزاحمه حرمة التخريب. فلاحظ.

(1) علّله (قدس سره) بأهمية وجوب الإزالة حينئذ. لكن في عمومه إشكال، بل الظاهر اختلافه باختلاف مدة الخراب قبل إكمال التعمير، واختلاف حال النجاسة. ثم إن الظاهر عدم الفرق بين وجود الباذل فعلاً قبل الإقدام على التخريب وحصوله بعد حصول التخريب لو علم بذلك.

(2) قال (قدس سره): «لإطلاق الدليل». فإن مقتضى الإطلاق المذكور وجوبه حينئذ، فتجب مقدمته. نعم هو موقوف على وجود دليل لفظي لوجوب التطهير له إطلاق شامل لما إذا توقف على بذل المال. والظاهر انحصاره بآية المشركين والنبوي، وقد ظهر ضعف الاستدلال بهما مما تقدم.

ودعوى: أنه حتى لو كان الدليل هو الإجماع أو نحوه من الأدلة اللبية، فحيث يعلم - تبعاً للمرتكزات - بثبوت ملاك وجوب التطهير فيما لو توقف على بذل المال، ولذا لا إشكال في حسن بذله، تعين البناء على عموم وجوب التطهير لصورة ما إذا توقف على بذل المال، فيجب البذل مقدمة له.

مدفوعة بأن المعلوم - تبعاً للمرتكزات - إنما هو ثبوت الملاك المقتضي لرجحان التطهير، من دون أن يعلم بأهمية الملاك المذكور بحيث يقتضي الوجوب في الحال المذكور، ليجب بذل المال مقدمة لامتثال الواجب.

نعم لا ريب - تبعاً للمرتكزات المتشرعية - في وجوب بذل المال إذا لزم من بقاء النجاسة الهتك بمرتبة معتد بها. فلاحظ.

ص: 135

إذا كان بحيث يضّر بحاله (1). ولا يضمنه من صار سبباً للتنجيس (2). كما لا يختص وجوب إزالة النجاسة به (3).

(1) لقاعدة نفي الضرر. لكن بذل المال المعتد به بنفسه ضرر عرفاً وإن لم يضر بالحال، فإن بني على إعمال قاعدة نفي الضرر لزم البناء على عدم وجوب بذل المال المعتد به مطلقاً. وليس وجوب التطهير مما يستلزم عادة بذل المال المعتد به، ليعلم بتخصيص قاعدة نفي الضرر في ذلك، ويقتصر في نفي الوجوب على صورة الإضرار بالحال.

نعم قد يتمسك في صورة الإضرار بالحال بقاعدة نفي الحرج. أو يدعى العلم بعدم تكليف الشارع الأقدس بما يؤدي إلى الإضرار بالحال. فتأمل جيداً.

(2) لعدم الدليل على الضمان. ومجرد وجوب التطهير عليه تكليفاً لإزالة أثر اعتدائه على المسجد - كما أشرنا إليه آنفاً - لا يستلزم انشغال ذمته به وضعاً، بحيث تكون خسارته عليه، حتى أنه لو امتنع من بذل المال ألزم به، ومع تعذر إلزامه يجوز للغير بذل المال بنية الرجوع عليه. لعدم المنشأ للملازمة المذكورة.

ودعوى: أن التنجيس نقص في المسجد كتنجس الثوب، فيكون مضموناً، كما لو كسر باب المسجد.

مدفوعة: بأن ضمان النقص ليس بتداركه وإزالة أثره، بل بضمان أرشه، وهو فرق ما بين الصحيح والمعيب. مع أنه لا مجال له في المسجد، لعدم لحاظ المالية في وقفه، بل الملحوظ فيه حفظ عنوان خاص، فلا يكون مضموناً لا بمنفعته ولا بوصفه كالطهارة. بخلاف مثل بابه وبنائه وفراشه، فإنها وقفت عليه وخصصت به بما أنها مال ذا منفعة وقيمة خاصة، فتكون مضمونه، كسائر الأوقاف الملحوظ فيها ذلك. فلاحظ.

(3) لإطلاق الأدلة المسوقة عليه أو عمومها. ولا ينافي ذلك ما تقدم من احتمال

ص: 136

(137) (137) (مسألة 47): إذا توقف تطهير المسجد على تنجس بعض المواضع الطاهرة وجب إذا كان يطهر بعد ذلك (1).

(مسألة 48): إذا لم يتمكن الإنسان من تطهير المسجد وجب عليه إعلام غيره إذا احتمل حصول التطهير بإعلامه (2).

وجوب التطهير على من نجسه لإزالة أثر اعتدائه لو تم، لإمكان اجتماع وجوب الشيء عيناً على شخص خاص مع وجوبه كفائياً على العموم، نظير وجوب إشغال المشاعر بالحج بما لا يحصل معه تعطيلها، ووجوب الحج عيناً على المستطيع الذي لم يحج.

(1) قال (قدس سره): «لوجوب ارتكاب أقل المحذورين عند التزاحم». هذا ولو دار الأمر بين التعجيل بتطهير المسجد مع تنجيس بعض المواضع الطاهرة ثم تطهيره، وانتظار تطهيره من دون لزوم ذلك، لزم الترجيح بلحاظ سعة الموضع الذي يتنجس وطول زمان الانتظار. نعم لا يبعد أهمية حرمة التنجيس من وجوب التطهير، فلابد من ملاحظة هذه الجهة في التزاحم.

وبذلك يظهر الحال فيما لو لزم من تطهير الموضع النجس تنجيس ما يتعذر تطهيره، حيث لا يبعد حرمة التطهير حينئذ مطلقاً. إلا في مورد لزوم الهتك من تركه. فلاحظ.

(2) علله (قدس سره): بأنه بعد ما كان تطهير المسجد الواجب غير مشروط بالمباشرة، بل يكفي فيه الاستنابة، ولذا يجب الاستئجار وبذل الأجرة لو توقف التطهير عليه، وجب الإعلام مقدمة لحصول التطهير من الغير. وإليه يرجع ما ذكره بعض

مشايخنا (قدس سره) في المقام.

وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كان إعلام المكلف بالنجاسة للغير يقتضي نيابة ذلك الغير عن المكلف في التطهير بحيث يستند فعله إليه، كأجيره وغلامه، حيث يكون الإعلام من المكلف مقدمة لحصول التطهير منه ولو من غير مباشرة فيتحقق

ص: 137

به امتثاله.

أما إذا لم يكن كذلك، بل يعمل المباشر لنفسه امتثالاً لتكليفه بالتطهير، فلا يكون الإعلام من المكلف العاجز مقدمة لامتثال تكليفه، ووجوب ذلك يحتاج للدليل.

مثلاً إذا وجبت نفقة الولد على كل من أبيه وأمه وجب على الأب مع واجديته للنفقة إخبار وكيله بحاجة الولد للنفقة، لينفق عليه من ماله وكالة عنه، مقدمة لامتثاله التكليف بالإنفاق الثابت عليه بعد أن لم يكن الإنفاق الواجب مشروطاً بالمباشرة.

أما مع عجز الأب عن النفقة ولولا بنحو المباشرة، وسقوط التكليف عنه لفقره، فوجوب إعلامه للأم بحاجة الولد للنفقة، مقدمة لامتثالها هي التكليف الثابت عليها، يحتاج إلى دليل، بل هو كسائر موارد الإعلام بموضوع التكليف في حق الغير.

ولعله لذا استظهر السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة الوثقى عدم وجوب الإعلام في صورة عدم لزوم الهتك، واستشكل في وجوبه إذا لزم الهتك. وأقره على عدم وجوب الإعلام بعض محشيها في الموردين، وبعضهم في خصوص الأول. وهو الذي أصر عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) مستدلاً عليه بنحو ما ذكرنا.

نعم ما سبق مبني على رجوع التكليف الكفائي إلى تكليف الكل عيناً بفعله

- بنحو المباشرة أو مطلقاً - مع سقوط التكليف عن الكل بامتثال أحدهم، لتعذر الامتثال في حق الباقين، أو لحصول الغرض، أو لارتفاع الموضوع. أما بناءً على ما ذكرناه في الأصول، من رجوع التكليف الكفائي إلى تكليف الكل بالماهية المطلقة، المتحققة بصرف الوجود الصادر منه أو من غيره، فاللازم البناء على وجوب الإعلام مقدمة لامتثال التكليف المذكور، لأن عجزه عن مباشرة التطهير والاستبانة فيه لا يسقط التكليف عنه بعد أن كان المكلف به هو الأعم من فعله وفعل غيره، وكان قادراً على ذلك بقدرته على فعل الغير، بسبب قدرته على مقدمته، وهي إعلام الجاهل

ص: 138

(مسألة 49): إذا تنجس حصير المسجد وجب تطهيره (1)، أو قطع موضع النجس منه إذا كان ذلك أصلح من إخراجه وتطهيره (2).

بالنجاسة، فيتعين وجوب المقدمة المذكورة عقلاً.

هذا مع العلم بتطهير الغير لو أعلم بالنجاسة، أما لو احتمل ذلك فالاحتمال المذكور يرجع للشك في القدرة على الامتثال، الذي يجب معه الاحتياط بالسعي لتحصيل الامتثال.

ويترتب على ما ذكرنا وجوب الاشتراك في التطهير ولو بفعل المقدمات على من عجز عن الاستقلال به، تحقيقاً للواجب، وهو الماهية المطلقة المذكورة. أما بناء على الوجه الأول في حقيقة الواجب الكفائي فيحتاج وجوب الاشتراك حينئذ للدليل، كما لعله ظاهر. فلاحظ.

(1) لما تقدم منه (قدس سره) من حرمة تنجيس فراش المسجد، وتقدم الكلام فيه.

(2) إذ فرض كونه أصلح ملزم بتعيينه لمصلحة الوقف. لكن لما كان في القطع غالباً إفساد في الحصير بمرتبة ما، فكونه أصلح من التطهير مستلزم لكون التطهير إفساداً أيضاً، وكون الترجيح بينهما لدفع الأفسد بالفاسد.

وحينئذ يقع الإشكال في وجوب التخلص من النجاسة بكل من الوجهين لحرمة الإفساد في الوقف، فلو تم إطلاق لوجوب التخلص من نجاسة فراش المسجد كان مزاحماً بحرمة الإفساد في الوقف، ولا دليل على كونه أهم لو لم يكن المرتكز أهمية حرمة الإفساد. ولا أقل من الشك، فيلزم الامتناع من القطع والتطهير معاً، لأصالة حرمة الإفساد في الوقف، وأصالة البراءة من وجوب تخليص المسجد من النجاسة. فتأمل.

نعم لو كانت النجاسة موجبة للهتك كان للترجيح بين الأمرين وجه، لأهمية الهتك جداً، بنحو قد تقدم على الإفساد في المسجد وفي وفراشه ارتكازاً.

ص: 139

(140) (مسألة 50): لا يجوز تنجيس المسجد الذي صار خراباً (1)

(1) لعدم بطلان مسجديته بذلك بلا خلاف أجده بيننا، كما في الجواهر. والوجه فيه: أن وقف المسجد لم يلحظ فيه إلا حفظ العنوان الخاص من دون أن يتقوم بالمنفعة، ومجرد إعداده شرعاً لبعض المنافع - كالصلاة - لا يجعله متقوماً بتلك المنافع، بحيث يبطل بسقوطه عنها بسبب الخراب. وحينئذ لو شك في بطلان مسجديته فالأصل بقاؤها، فتترتب أحكامها بمقتضى إطلاق أدلتها المتقدمة.

لكن في المسالك: «وهذا كله يتم في غير المبني في الأرض المفتوحة عنوة، حيث يجوز وقفه تبعاً لآثار التصرف، فإنه حينئذ ينبغي بطلان الوقف بزوال الآثار، لزوال المقتضي للاختصاص، وخروجه عن حكم الأصل...».

وفيه: أن المراد بصحة وقفه تبعاً لآثار التصرف إن كان هو كفاية الملكية الموقته تبعاً لآثار التصرف أو السلطنة الموقتة على الأرض تبعاً للآثار المذكورة في صحة وقفها مسجداً فهو لا يقتضي زوال المسجدية بزوال آثار التصرف، بل لما كانت المسجدية مبنية على التأبيد ارتكازاً فالسلطنة عليها ترجع على ما هي عليه من التأبيد، ولا وجه لبطلانها حينئذ بزوال آثار التصرف، بل مقتضى الأصل عدمها، لأن تحديد أمد السلطنة أو الملكية لا يقتضي تحديد سعة السلطنة بحيث يقتضي قصور التصرف التابع لها عما إذا انتهى أمدها، فالوكيل المفوض على الدار مدة معينة له وقفها مثلاً بنحو يقتضي التأبيد، بحيث لا يبطل الوقف بانعزاله عن الوكالة.

وإن كان المراد أن صاحب الأرض الخراجية لما لم يكن مالكاً لها، وإنما هو صاحب حق فيها تبعاً لآثار تصرفه، فالثابت من سلطنته عليها هو سلطنته على التصرفات التابعة للآثار المحدودة بزوالها، ولا دليل على سعة سلطنته بنحو يشمل التصرفات المطلقة غير المحدود والموقتة.

ففيه: أن قصور السلطنة عن التأبيد يقتضي قصورها عن وقف المكان مسجداً

ص: 140

بعد ابتناء المسجدية على التأبيد، وعدم انفكاكها عنه ارتكازاً.

ولو لم تكن المسجدية ملازمة للتأبيد، بحيث يمكن جعل مسجدية موقتة لكان الأنسب منه عدم الاقتصار في الاستثناء على المسجد المبني في الأرض المفتوحة عنوة، بل يعم الكلام كل مسجد موقت ولو في غير الأرض المذكورة، بل حتى لو كان التوقيت بالأشهر أو السنين في الأرض المفتوحة عنوة وغيرها، لا بخصوص بقاء الآثار والعمارة.

وبالجملة: بعد ابتناء المسجدية على التأبيد ارتكازاً إن فرض مشروعية اتخاذ المسجد في الأرض المفتوحة عنوة لزم عدم تبعيته للآثار، وعدم بطلانه بزوالها، وإن لم يشرع يبطل الوقف من أول الأمر حتى مع بقاء الآثار.

هذا وحيث كانت الأرض المذكورة ملكاً لعموم المسلمين فالمتعين عدم نفوذ التصرف فيه بالوقف وغيره إلا بإذن وليهم الحقيقي - وهو إمام الحق ومن يقوم مقامه -

أو الامضائي، وهو خلفاء الجور الذين ثبت إمضاء تصرفهم في الأرض المذكورة من قبل الأئمة (عليهم السلام).

فقد تضمنت النصوص جواز تقبلها وزراعتها بالخراج والمقاسمة(1) ، وجواز الشراء مما يأخذونه من الغلات باسم الخراج والمقاسمة(2). كما أن الظاهر من سيرة المتشرعة مضي تصرفهم فيها باقطاعها لأشخاص خاصين ووقفها مساجد ورباطات وغيرها. وتمام الكلام في محله.

وعليه يتعين عدم بطلان مسجدية المساجد فيها بالخراب إن وقفت بإذن الولي، كما هو الحال في المساجد التي في الأراضي الأخرى، وإلا فهي باطلة من أول الأمر.

نعم عدم جواز التنجيس حينئذ ووجوب التطهير لا يكفي فيه بقاء المسجدية، بل لابد معه من ثبوت الإطلاق لدليل الحكمين، وقد تكرر منا إنكار الإطلاق المذكور،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 11 باب: 71، 72 من أبواب جهاد العدو.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 52، 53 من أبواب ما يكسب به.

ص: 141

والإشكال في التعويل على الإجماع والارتكاز في أصل الحكم فضلاً عن عمومه.

بل يصعب جداً البناء على عموم الإجماع والارتكاز للمساجد الخراب المكشوفة التي صارت ساحات أو التي لم يبق من عمارتها إلا أطلال لا تلفت النظر، لغفلة المتشرعة عن حرمة تنجيسها ووجوب تطهيرها، وعدم التزامهم بالجري عليه، وذلك منهم وإن أمكن أن يكون بسبب الغفلة عن الموضوع وعدم تجليه لهم، لا للبناء منهم على قصور الحكم، إلا أنه يصعب معه البناء على عموم الإجماع والارتكاز.

ودعوى: أنه لما كان المفروض حرمة تنجيسها ووجوب تطهيرها قبل الخراب، فيستصحب ذلك بعده.

مدفوعة أولاً: بعدم ثبوت اليقين بذلك - الذي هو ركن الاستصحاب - في حق من لم يجمع شرائط التكليف - من البلوغ وغيره - قبل الخراب، بل الثابت في حقه اليقين بالعدم. كما لا يثبت أيضاً في وجوب التطهير بالإضافة إلى النجاسة الحادثة بعد الخراب ولو بعد التكليف حيث لا يعلم بوجوب التطهير منها حين حدوثها.

نعم يمكن فرض اليقين التعليقي، فيقال: كان قبل الخراب يجب تطهيره لو تنجس فهو كما كان. بل يمكن فرض اليقين التعليقي حتى في صورة الخراب قبل التكليف، فيقول المكلف كان هذا المسجد قبل الخراب يحرم على تنجيسه ويجب علي تطهيره لو كنت بالغاً فهو كما كان. لكن لا عبرة باليقين المذكور، بناء على ما هو التحقيق من عدم جريان الاستصحاب التعليقي.

وثانياً: أن الاستصحاب لا يجري في المقام، لعدم إحراز وحدة الموضوع، لاحتمال أخذ العمارة قيداً في المسجد الذي يحرم تنجيسه ويجب تطهيره، بحيث ينتهي الحكمان بذلك لارتفاع موضوعهما، ولا يعلم كون الموضوع هو مطلق المسجد، بحيث لو كان الحكمان يرتفعان حال الخراب لكان الخراب من سنخ الرافع مع بقاء الموضوع، على ما ذكرناه في ضابط جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية من الأصول.

نعم ما تقدم منافي وجه حرمة تنجيس المسجد من احتمال منافاة التنجيس

ص: 142

(143) وإن لم يصل فيه أحد (1)، ويجب تطهيره إذا تنجس (2).

(مسألة 51): إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد المسجدين أو أحد المكانين من مسجد وجب تطهيرهما (3).

(مسألة 52): يلحق بالمساجد المصحف الشريف والمشاهد المشرفة. والضرايح المقدسة (4)

للعنوان الموقوف عليه قد يجري هنا. فلاحظ.

(1) لعدم أخذ الصلاة مقوماً لعنوان المسجدية ولا شرطاً في أحكامها.

(2) يظهر الكلام فيه مما سبق. ويأتي في المسألة الثالثة والخمسين ما يتعلق بالمقام.

(3) عملاً بالاحتياط اللازم مع العلم الإجمالي، كما حقق في الأصول.

(4) كما يستفاد من الحكم بوجوب تطهيرها في الدروس وجامع المقاصد والروض والروضة وغيرها. وكأنه يبتني على أن تنجيسها مستلزم لهتكها المحرم. وقد أشرنا آنفاً إلى المنع من ذلك، وأن الهتك المحرم أمر عرفي لا دخل للشارع الأقدس به، وحكمه بالنجاسة لا يقتضيه. فراجع ما سبق عند الكلام في الاستدلال بالإجماع على حرمة تنجيس المساجد ووجوب تطهيرها.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الاستدلال في خصوص خط المصحف الشريف من استفادة وجوب إزالة النجاسة عنه من فحوى ما تضمن النهي عن مس الحدث له.

إذ فيه: أنه لا مجال للبناء على الفحوى المذكورة بعد الجهل بملاكات الأحكام. ولاسيما مع ثبوت جواز الصلاة مع النجاسة الخبثية في بعض الموارد مع عدم مشروعيتها حال الحدث، بل لابد فيها من الطهارة ولو الاضطرارية.

ص: 143

والتربة الحسينية (1)

ومن ثم قد يناط الحكم بحصول الهتك والإهانة عرفاً وعدمه، كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

نعم ذكر (قدس سره) أن الذي تقتضيه المرتكزات الفرق بين إحداث الإهانة وإبقائها، بالحرمة في الأول، دون الثاني، فيحرم التنجيس لو استلزم الإهانة، ولا يجب التطهير حينئذ.

لكنه لا يخلو عن إشكال، فإن إبقاء الهتك والإهانة للمقدسات مما تأباه المرتكزات الشرعية جداً، ولعه لذا أفتى (قدس سره) بعدم الفرق. نعم لا ريب في أن فعل ما يوجب الهتك أشد حرمة من عدم رفعه.

كما أن إبقاءه وعدم رفعه ولو إلى أمد قد يكون راجحاً لبيان جريمة الفاعل والتشنيع عليه، فيخرج عن كونه إهانة إلى كونه تكريماً للمشهد، لأن التشنيع على المعتدي تكريم للمعتدى عليه، وتنبيه لرفعه مقامه، وسبب لشدّ القلوب إليه.

إلا أن ذلك خارج موضوعاً عن محل الكلام من حرمة التنجيس مع لزوم الهتك ووجوب التطهير حينئذ.

هذا وما تقدم منا في وجه تحريم تنجيس المسجد مطلقاً وإن لم يستلزم الهتك من حرمة التصرف في الوقف بما يحتمل منافاته له - لو تم - جار في الأوقاف المقدسة، كالضرائح المطهرة والمشاهد المشرفة ونحوها.

نعم هو لا يقتضي وجوب التطهير، ولا يمنع من وقف ما هو نجس أو متنجس ليكون فيها. كما لا يجري في المصحف الشريف وغيره من الأمور المملوكة غير الموقوفة، بل المتعين فيها الاقتصار في حرمة التنجيس ووجوب التطهير على صورة لزوم الهتك.

(1) لصيرورتها بأخذها للتبرك شعاراً من شعائر الإيمان، فيحرم هتكها

ص: 144

بل تربة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر الأئمة (عليهم السلام) (1) المأخوذة للتبرك (2) فيحرم تنجيسها إذا كان يوجب إهانتها وتجب إزالة النجاسة عنها حينئذ.

وإهانتها. بل مقتضى إطلاقهم، بل تصريح بعضهم، حرمة تنجيسها مطلقاً، إما لما تقدم من ملازمة مطلق النجاسة للهتك والإهانة، أو لما دل على وجوب تعظيم التربة الحسينية، وتنجيسها مناف للتعظيم.

لكن تكرر منا منع الأول. وأما الثاني فلم نعثر من دليله إلا على ما تضمن شرطية التعظيم - من التقبيل والدعاء ونحوهما - لتحقق الشفاء بها، لا على الأمر بالتعظيم نفسياً(1). على أن عموم منافاة التنجيس للتعظيم ممنوع، فإن طلي الموضع المتنجس بها للاستشفاء لا ينافي التعظيم قطعاً. فلا مخرج عما سبق.

(1) لعين ما تقدم. واقتصار غير واحد على تربة الحسين (عليه السلام) لعله لمعروفية أخذها والتبرك بها بالاستشفاء بها والسجود عليها وغيرهما.

(2) اختلف الأصحاب (رضي الله عنهم) في تحديد التربة التي يجب احترامها، فقد يظهر من بعضهم إطلاق الحكم في تربة الحسين (عليه السلام)، كما قد يناسبه ما عن كاشف الغطاء من النهي عن إخراج أواني كربلاء إلى غيرها.

وفي كتاب الأطعمة والأشربة من الروضة بعد تحديد ما يستشفى به من طين قبر الإمام الحسين (عليه السلام): «وليس كذلك التربة المحترمة منها، فإنها مشروطة بأخذها من الضريح المقدس، أو من خارجه - كما مرّ - مع وضعها عليه، أو أخذها بالدعاء». وقريب منه مع اختلاف يسير عن المهذب.

لكن لا مجال للبناء على الأول، إذ هو - مع فقد الدليل عليه - مخالف بعمومه للسيرة القطعية. وأما الثاني فهو خال عن الدليل. والذي تقتضيه المرتكزات الاقتصار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 70، 73 من أبواب المزار، وج: 16 باب: 73 من أبواب الأطعمة المحرمة، وكامل الزيارات ص: 275 إلى ص: 285.

ص: 145

(146) (مسألة 53): إذا غصب المسجد وجعل طريقاً أو دكاناً أو خاناً أو نحو ذلك، ففي حرمة تنجيسه ووجوب تطهيره إشكال (1).

على ما أخذ للتبرك، لقدسيته بملاحظة انتسابه لصاحب الحرم، حيث يكون شعاراً للإيمان، كما سبق.

(1) علل بقصور إطلاق دليل الحكمين عن الصورة المذكورة، فقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الدليل عليهما ينحصر بآية المشركين، وهي مختصة بالمسجد الحرام، والعموم لغيره كان بالإجماع، والمتيقن من معقده غير المقام.

وفيه: أن العموم للمقام ليس أفرادياً، بل هو أحوالي ثابت بمقتضى إطلاق الآية الشريفة، حيث أن مقتضاها عدم جواز قرب المشرك من المسجد الحرام حتى لو غصب شيء منه وجعل طريقاً أو دكاناً أو غيرها. وحينئذ يعمم الحكم بإطلاقه الأحوالي المذكور بعدم الفصل المدعى منهم بين المسجد الحرام وغيره.

أما بعض مشايخنا (قدس سره)، فحيث كان عمدة الدليل عنده على الحكمين نصوص اتخاذ الكنيف مسجداً، فقد ذكر أن المتيقن منها ما يصدق عليه أنه مسجد بالفعل، بمعنى ما يصدق عليه عنوان المسجد عرفاً، دون ما هو مسجد واقعاً ولم يكن مسجداً عرفاً، بل هو عرفاً طريق أو دكان أو نحوهما.

وفيه: أن المستفاد من النصوص المذكورة توقف جعل المسجد على طهارة المكان من دون نظر لحكم ما هو المسجد فعلاً بعد جعل المسجدية. غاية الأمر أن المدعى

له (قدس سره) أن مقتضى التعليل فيها بأن التراب يطهره منافاة النجاسة للمسجدية، وذلك يقتضي عدم الفرق بين حالتي احداث المسجدية وفعليتها. وحينئذ من الظاهر أن المراد بجعل المسجد هو جعل عنوانه بوقف الموضع مسجداً، لا بناؤه بصورة المسجد، ولذا ادعى (قدس سره) عموم الحكم لحال خراب المسجد. وحينئذ يكون مقتضى التعليل المتقدم منافاة النجاسة للمسجد بالمعنى المذكور الصادق على ما غصب وغيرت صورته، ولا

ص: 146

والأقوى عدم وجوب تطهيره من النجاسة الطارئة عليه بعد الخراب (1). ومثله مساجد الكفار إذا لم تتخذ مسجداً (2)، أما إذا اتخذت مسجداً جرى

يختص بما لم يغصب ويغير.

نعم سبق منا الإشكال في الاستدلال بالآية الشريفة والنصوص المذكورة وغيرها مما قد يدعى ثبوت الإطلاق له، لينفع الكلام في سعة مفادها بنحو يشمل المقام، بل سبق الإشكال في الاستدلال بالإجماع، وأن المتيقن في المقام من الأدلة صورة لزوم الهتك التي لا مجال لها في المقام، لأن هتك المسجد وتوهينه وانتهاك حرمته إنما هو بغصبه وتغيير عنوانه، لا بتنجيسه بعد التغيير، فضلاً عن عدم إزالة النجاسة عنه لو تنجس. بل لو كان الدليل في المقام هو الإجماع لكان المتيقن منه غير محل الكلام.

ثم إنه بعد فرض قصور الأدلة يتعين الرجوع للأصل. وهو يقتضي البراءة. نعم تقدم في المسألة الخمسين عند الكلام في حكم المسجد الخراب تقريب جريان الاستصحاب في المقام في حرمة التنجيس ووجوب التطهير، وتقدم المنع منه، وما تقدم هناك جار هنا كما قد يجري هنا ما تقدم منّا في وجه حرمة التنجيس. فلاحظ.

(1) لأصالة البراءة بعد عدم جريان استصحاب وجوب الإزالة عنده، لأنه تعليقي، لعدم اليقين بسبق وجوب إزالة النجاسة المذكورة قبل الخراب إلا معلقاً على حصولها قبله.

ويظهر منه (قدس سره) التوقف في وجوب التطهير عن النجاسة الحاصلة قبل الخراب وفي حرمة التنجيس. وكأنه لشبهة جريان الاستصحاب فيهما منجزاً لا بنحو التعليق. لكنه - مع اختصاصه بالواجد لشرائط التكليف قبل الخراب - قد يشكل بعدم إحراز بقاء الموضوع على ما سبق التعرض له في المسألة الخمسين.

(2) عملاً بالأصل بعد قصور الأدلة اللفظية واللبية عنه، واختصاصها بمساجد المسلمين.

ص: 147

عليها جميع أحكام المسجد (1).

وقد يشكل بأن المسجد حقيقة واحدة في جميع الأديان السماوية الحقة، شرعت لينتسب المكان له تعالى ويكون مجمعاً لعباده من حيثية عبوديتهم له، وإقرارهم بدينه الحق، ليتعبدوا فيه ويذكروه واختلاف أسمائها بين الأديان لا يرجع لاختلاف الحقيقة.

ويناسبه ما هو المعلوم من أن المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد الكوفة أسبق من الإسلام. وكذا قوله تعالى: "قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً"(1). ولعله لذا توقف السيد الطباطبائي في العروة الوثقى في حكم مساجد اليهود والنصارى. نعم لا مجال لذلك في معابد الأديان المبتدعة الوثنية وغيرها.

لكن اتحاد ماهية المسجد حقيقة لا ينافي تعدده عرفاً، بحيث يقصر إطلاق المسجد عن شمول الأمور المذكورة المعنونة عند العرف بعنوان مباين لعنوان المسجد عرفاً، فلا تعمها أحكامه، كما يناسبه قوله تعالى:" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً "(2) حيث عدت الصوامع والبيع والصلوات قبال المساجد، لا من افرادها.

هذا كله بناء على ثبوت إطلاق لفظي للحكم المذكور. أما بناءً على كونه دليلاً لبياً فقصوره عن شمولها أظهر. بل لا ينبغي التأمل بالنظر للسيرة في عدم جريان أحكام المسجد على الأماكن المذكورة.

(1) بلا إشكال، لصيرورتها بذلك مساجد حقيقة وعرفاً.

********

(1) سورة الكهف، الآية: 18.

(2) سورة الحج، الآية: 40.

ص: 148

تتميم فيما يعفى عنه في الصلاة من النجاسات

(149) (149) وهو أمور:

(الأول): دم الجروح والقروح (1) في البدن واللباس (2)، حتى تبرأ بانقطاع الدم انقطاع برء (3)

(1) بلا خلاف أجده، بل عليه الإجماع محصلاً ومنقولاً. كذا في الجواهر. ونفى عنه الخلاف أيضاً في كشف اللثام. وأدعي الإجماع عليه في الخلاف والغنية ومفتاح الكرامة.

والنصوص به مستفيضة، كصحيح إسماعيل الجعفي: «رأيت أبا جعفر (عليه السلام) يصلي والدم يسيل من ساقه»(1) ، وصحيح ليث المرادي: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل تكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوّة دماً وقيحاً، وثيابه بمنزلة جلده. فقال: يصلي في ثيابه ولا يغسلها ولا شيء عليه»(2) وغيرهما.

(2) كما هو مقتضى إطلاق بعضهم وصريح آخرين. ويقتضيه إطلاق بعض النصوص وصريح بعضها، ومنها صحيح ليث المتقدم.

(3) اختلفت كلمات الأصحاب (رضي الله عنهم) في تحديد موضوع المسألة ففي الفقيه: «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه...». وقريب منه في المقنعة.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب المزار حديث: 3، 5.

ص: 149

وظاهرها الاكتفاء بكون الجرح ذا دم ولو متقطع، وليس ذكر السيلان فيهما إلا تمهيداً لبيان إصابة الثوب بدمه، لا لاعتبار السيلان فضلاً عن استمراره.

ولعله إليه يرجع التعبير بالقرح الدامي والجرح اللازم في النهاية والمبسوط والوسيلة وغيرها. بأن يكون المراد بكون القرح دامياً كونه ذا دم في مقابل ما لا دم فيه، حيث يخرج عن موضوع العفو، وبكون الجرح لازماً هو الجرح الذي لم يبرأ.

لكن ظاهر بعضهم إرادة لزوم الدم لهما واستمرار سيلانه، كما يظهر من التذكرة، حيث قال: «وإن كان دم قرح أو جرح سائلاً ملازماً». بل صرح باعتبار استمرار خروج الدم وعدم انقطاعه في المراسم والشرايع والدروس وغيرها.

وفي مفتاح الكرامة: «ولعل مراد الجميع استمرار الدم بحيث لا تحصل فترات يمكن فعل الصلاة فيها، لاشتراكها في اعتبار المشقة». وهو المصرح به في الذكرى مع اعترافه أنه مخالف لظاهر الرواية.

وكيف كان فيشهد للأول إطلاق صحيح ليث المتقدم وموثق عبد الرحمن بن أبي عبد الله أو صحيحه: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه، فيسيل منه الدم والقيح، فيصيب ثوبي، فقال: دعه فلا يضرك أن لا تغسله»(1). وأظهر منهما موثق أبي بصير: «دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وهو يصلي، فقال لي قائدي: إن في ثوبه دماً، فلما انصرف قلت له: إن قائدي أخبرني أن بثوبك دماً. فقال لي: إن بي دماميل. ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ»(2). فإن تعليق غسل الثوب على برئ الجرح لا على انقطاع الدم كالصريح في عدم اعتبار استمرار الإدماء، فضلاً عن استمرار السيلان.

هذا وقد يستدل لاعتبار استمرار خروج الدم بصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «سألته عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمي كيف يصلي؟ فقال: يصلى وإن كانت الدماء تسيل»(3). وقريب منه ما في مستطرفات السرائر عن نوادر

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات حديث: 6، 1، 4.

ص: 150

البزنطي بسنده الموثق عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر(1) (عليه السلام)، ومرسل ابن أبي عمير عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إذا كان بالرجل جرح سائل، فأصاب ثوبه من دمه، فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم»(2) وما في مستطرفات السرائر عن نوادر البزنطي بسنده الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: إن صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها ولا حبس دمها يصلي. ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة»(3).

وفيه: أن القيد في صحيح محمد بن مسلم وما في مستطرفات السرائر مذكور في كلام السائل، فلا ينهض بالتقييد. على أنه لا يبعد حمل قوله: «فلا تزال تدمى» على تعاقب الإدماء منها مرة بعد مرة، لا على استمرار الإدماء الواحد، فهو نظير قولنا: «لا يزال زيد يسافر» فلا ينافي انقطاع الدم منها موقتاً. ولو تم ظهوره بدواً في التقييد باستمرار الإدماء فلابد من رفع اليد عنه بموثق أبي بصير المتقدم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عمومه لصورة السيلان وعدمه، بلحاظ أن الواو وصلية. فهو إنما يقتضي عدم اعتبار السيلان، ولا ينافي اعتبار استمرار إدماء الجرح وإن لم يكن دمه سائلاً. ولا يبعد كون مراد من عبر باستمرار السيلان - كما في المراسم - هو الإدماء لا السيلان خارج موضع الجرح، فيرجع لما في الشرايع وغيره من الاقتصار على الجروح التي لا ترقأ، وإلا فمن البعيد جداً اقتصارهم على خصوص ما يستمر سيلان دمه خارج موضع الجرح.

وأما المرسل فلا ظهور له في أخذ السيلان قيداً في العفو، بل في ذكره تمهيداً لإصابة الثوب بالدم. على أن قوله (عليه السلام): «حتى يبرأ وينقطع الدم» كالصريح في عدم وجوب غسل الثوب قبل انقطاع الدم انقطاع برء، وعدم الاكتفاء فيه بالانقطاع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات ذيل حديث: 4، والسرائر آخر ص: 495.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(3) هامش وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات والسرائر حديث: 4، والسرائر أول ص: 496.

ص: 151

الموقت.

وأما حديث محمد بن مسلم المروي في مستطرفات السرائر، فهو لا يقتضي اعتبار استمرار السيلان، بل تعذر حبس الدم وإن كان نزف الدم من القرحة متقطعاً. والظاهر أن تعذر حبس الدم إنما ذكر فيه مقدمة لبيان إصابة الدم للثوب، لا اعتباره بنفسه، فإن الظاهر عدم وجوب حبس الدم، كما يناسبه ما تقدم في صحيح إسماعيل الجعفي، لظهور أن الساق مما يسهل ربطه وحبس دمه.

وربما يكون نظرهم في التقييد بالصورة المذكورة إلى دعوى ورود العفو مورد الاضطرار المناسب للاقتصار فيه على صورة عدم الفترة، والرجوع في غيرها لعموم مانعية النجاسة.

لكن لم يتضح ورود العفو مورد الاضطرار، بل مقتضى النصوص المتقدمة وروده مورد الامتنان بالتخفيف والتسهيل، فلا ينافي العموم لصورة الفترة. بل هو المتعين بملاحظة النصوص المذكورة. ومن ثم ذكر في المسالك والروض والمدارك أن مقتضى النصوص عدم اعتبار استمرار خروج الدم، وأن الغاية البرء.

هذا ومقتضى إطلاق حديث عبد الرحمن المتقدم العفو عن دم الجرح حتى بعد برئه. لكنه لو لم ينصرف إلى بقاء الجرح دامياً فلا أقل من تقييده بذلك بلحاظ قوله (عليه السلام) في موثق أبي بصير المتقدم: «ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ»، لأن فعله (عليه السلام) وإن كان أعم من الوجوب، إلا أنه لما كان وارداً لدفع توهم عموم مانعية النجاسة الارتكازي عند المتشرعة، فاقتصاره (عليه السلام) في بيان الخروج عنه على حال ما قبل البرء قد يظهر في تحديد الخروج عنه بما قبل البرء، وقصره على ذلك.

مضافاً إلى مرسل سماعة المتقدم الذي هو كالصريح في ذلك، والذي هو حجة بناء على المختار من حجية مراسيل ابن أبي عمير. والى ظهور مفروغية الأصحاب عن عدم العفو بعد البرء، التي قد تنهض وحدها دليلاً على التقييد بلحاظ شيوع الابتلاء بالمسألة، حيث يبعد معه خطؤهم في حكمها.

ص: 152

(153) والأقوى اعتبار المشقة النوعية بلزوم الإزالة أو التبديل في كل يوم مرة (1)،

بل يبعد جداً حمل نصوص مانعية الدم الكثيرة على خصوص ما عدا دم الجروح والقروح من المصلي نفسه، خصوصاً صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، فعلمت أثره... ونسيت أن بثوبي شيئاً وصليت... قال: تعيد الصلاة وتغسله...»(1). ومن ثم لا ينبغي التأمل في عدم العفو بعد البرء.

بل المناسبات الارتكازية تقضي بالاكتفاء بمرتبة من البرء تقتضي انقطاع الدم منه، كما نبّه له في المدارك، وهو ظاهر سيدنا المصنف (قدس سره)، ولا يعتبر البرء التام بحيث لا يحتاج إلى علاج، لعدم دخله في موضوع العفو الذي هو الدم، وهو المناسب لمرسل سماعة المتقدم، لقرب كون عطف انقطاع الدم على البرء لبيان المراد من البرء، وتحديده بما يساوق انقطاع الدم. فلاحظ.

(1) قال في الشرايع: «وعفي في الثوب والبدن عما يشق التحرز منه من دم القروح والجروح». وظاهره الاقتصار على خصوص مورد الجرح لو تيسر التخفيف، فضلاً عما لو أمكنت الصلاة مع الطهارة بالتطهير أو التبديل من دون حرج. وقد صرح في المنتهى ونهاية الأحكام بوجوب التبديل مع الإمكان، كما صرح في النهاية بوجوب إزالته مع عدم المشقة، واستشكل في وجوب التخفيف. وقد يراد ذلك ممن اعتبر المشقة في الإزالة، كما في المراسم ومحكي التحرير، وإن أمكن حمل كلامهم على خصوص ما إذا أمكن إزالة الدم بتمامه والصلاة بالطاهر.

هذا وقد أطلق جماعة العفو عن الدم المذكور ولو مع كثرته، بل في المبسوط والخلاف في ذيل أحكام المستحاضة التصريح بعدم وجوب شد الجرح، وأن حمله على المستحاضة قياس. وصرح بعدم اعتبار المشقة في جامع المقاصد والمسالك والروض والمدارك ومحكي غيرها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 153

وهو المناسب لإطلاق النصوص المتقدمة، وخصوص ما تقدم في صحيح إسماعيل الجعفي من أنه رأى الإمام الباقر (عليه السلام) يصلي والدم يسيل من ساقه، وظاهره أنه لم يربط الجرح، مع أن ربطه مانع من انتشار الدم، وهو ميسور له (عليه السلام)

عادة، كما تقدم، وما تقدم في موثق أبي بصير من أنه (عليه السلام) لا يغسله حتى تبرأ الدماميل، ونحوه المرسل عن سماعة مع أن تبديل الثوب أو تطهيره في أثناء تلك المدة ميسور عادة. بل يصعب جداً حمل ما تقدم في صحيح ليث من جواز الصلاة في الثوب والجلد الملوءين دماً على خصوص صورة تعذر تقليل النجاسة، بتبديل الثوب أو تطهيره في أثناء المدة.

هذا وقد يستدل لاعتبار المشقة بعموم مانعية النجاسة، والاقتصار في الخروج عنه على المتيقن. ولاسيما مع ورود نصوص العفو مورد العذر والاضطرار، أو مورد المشقة، بحيث تكون مساوقة لأدلة نفي العسر.

وفيه: أنه لا وجه للاقتصار على المتيقن في الخروج عن مقتضى عموم مانعية النجاسة بعدما سبق من عموم الدليل المخرج عنه. وورود النصوص مورد الاضطرار أو المشقة ممنوع، بل هي واردة مورد التخفيف والتسهيل، كما سبق عند الكلام في اعتبار استمرار خروج الدم.

وقد يستدل أيضاً بموثق سماعة: «سألته عن الرجل به الجرح والقرح، فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه. قال: يصلي، ولا يغسل ثوبه كل يوم إلا مرة، فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة»(1) بدعوى: أنه بعد تعذر حمل قوله: «لا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه» على تعذر الغسل حقيقة، لمنافاته للأمر بغسله في اليوم مرة، لامتناع الأمر بالمتعذر، يتعين حمله على كون الغسل شاقاً.

وفيه: أنه حيث كان ظاهر الحديث تعذر ربط الجرح حقيقة فاللازم بمقتضى السياق حمله على تعذر الغسل حقيقة أيضاً. غايته أن المراد به الغسل المطلوب للصلاة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 154

وهو الغسل الذي يمكن معه إيقاع الصلاة في أوقاتها بالطهارة، بقرينة الأمر بالغسل كل يوم مرة المستلزم لامكان الغسل في الجملة. نعم التقييد بتعذر الغسل لما كان في كلام السائل لم ينهض برفع اليد عن العفو المستفاد من الأدلة المتقدمة.

ودعوى: أن قوله (عليه السلام): «فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة» لما كان وارداً مورد التعليل كان صالحاً لتقييد العفو بصورة التعذر أو المشقة.

مدفوعة: بأن قوله (عليه السلام): «فإنه لا يستطيع...» إنما ينهض بتعليل عدم وجوب الطهارة التامة في جميع الصلوات، ولا ينهض بتعليل الاكتفاء بالغسل مرة واحدة في اليوم، فلابد من حمله على بيان الحكمة لا التعليل الحقيقي، الذي يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً، لينهض بتقييد الحكم بالعفو.

ولاسيما وأن جزمه (عليه السلام) بعدم الاستطاعة بالنحو المذكور مانع من حمله على حقيقته، لوضوح اختلاف الناس في ذلك كثيراً، فلابد من حمله على بيان عدم الاستطاعة بالإضافة للنوع، كما هو الحال في كثير من التعاليل الواردة منهم (صلوات الله عليهم) المحمولة على بيان حكمة الحكم لا علته التي يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً.

على أنه يأتي أن الأمر بالغسل مرة واحدة محمول على الاستحباب، حيث يتعين كون ذلك منه (عليه السلام) مسوقاً لتعليل عدم استحباب الغسل زائداً على المرة، لا لتعليل عدم وجوبه، كي ينهض بتحديد موضوع العفو وتقييده.

ومثله الاستدلال بقوله (عليه السلام) في حديث محمد بن مسلم المروي في مستطرفات السرائر المتقدم: «إن صاحب القرحة التي لا يستطيع ربطها ولا حبس دمها يصلي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة» بدعوى: أن التقييد في كلامه (عليه السلام) بعدم استطاعة ربط القرحة وحبس دمها ظاهر - بعد حمل عدم الاستطاعة على المشقة - في عدم العفو مع تيسر ربطها.

لاندفاعه بعد عدم القرينة على حمل عدم الاستطاعة على المشقة - بأن ذكر عدم

ص: 155

استطاعة ربط الجرح ليس لتقييد العفو به، بل للتمهيد لفرض إصابة الدم للثوب، كما تقدم. مضافاً إلى ما تقدم من أن الغسل مرة واحدة محمول على الاستحباب، فالقيد لو تم مسوق لبيان شرط عدم استحباب الغسل أكثر من مرة، لا لبيان شرط عدم وجوبه، لينفع فيما نحن فيه.

ثم إنه لو سلم تمامية ظهور الحديثين بدواً في لزوم الاقتصار على ما يشق التحرز عنه من مراتب النجاسة تعين رفع اليد عنهما بما تقدم، خصوصاً صحيح إسماعيل الجعفي وموثق أبي بصير والمرسل عن سماعة، لصعوبة حملها على تعذر التخفيف جداً.

نعم لو كان المدعى ظهورهما في اعتبار المشقة في تحصيل الطهارة التامة في الصلاة لم تنهض ما سبق برفع اليد عنهما. لكن لا شاهد فيهما على ذلك ولا ينهضان بإثباته، ليخرج بذلك عن الإطلاقات.

هذا وقد قال السيد الطباطبائي في العروة الوثقى: «نعم يعتبر أن يكون مما فيه مشقة نوعية، فإن كان مما لا مشقة في تطهيره أو تبديله على نوع الناس فالأحوط إزالته أو تبديل الثوب». ولم يتضح الوجه في احتمال ذلك بنحو يلزم بالاحتياط بعدما سبق من إطلاق النصوص. إلا أن يرجع إلى دعوى انصراف الإطلاق عن الصورة المذكورة. لكنه غير ظاهر بنحو ينهض برفع اليد عن الإطلاق.

نعم تقدم في موثق سماعة التعليل بأنه لا يستطيع غسله في كل ساعة، وتقدم حمله على التعليل بلحاظ النوع. إلا أن التعليل بالقضية النوعية ظاهر في بيان الحكمة لا علة الحكم التي يدور مدارها وجوداً وعدماً، بحيث يكون الحكم تابعاً لتحقق العلة نوعاً، بأن يكون وجود الأمر المعلل به نوعاً قيداً في الحكم. ولاسيما مع ما سبق من أن التعليل المذكور إنما يقتضي عدم وجوب الطهارة التامة في جميع الصلوات، لا الاكتفاء بالغسل مرة واحدة في اليوم، فتعليله بذلك لابد أن يكون لبيان الحكمة

لا غير.

مضافاً إلى ما سبق من أن الأمر المعلل به ليس هو العجز عن مطلق الغسل

ص: 156

فيكون مقتضى التعليل عدم العفو مع القدرة عليه نوعاً، بل العجز عن الغسل كل ساعة، والعجز عنه نوعاً لا يستلزم العجز عن مطلق الغسل. وما سبق أيضاً من أن الغسل مرة واحدة في اليوم حيث لم يكن واجباً بل مستحباً - كما اعترف به السيد المذكور - لم ينهض تعليله المذكور لتقييد دليل العفو.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام من عدم العفو إذا لم يكن الغسل في اليوم مرة شاقاً نوعاً، حيث لا منشأ له بعدما سبق من الكلام في الموثق. ولاسيما أن العلة المذكورة في الموثق هي تعذر الطهارة التامة في جميع الصلوات، لا تعذر الغسل مرة في اليوم، كما تقدم.

على أن المشقة النوعية - كغيرها من الأمور النوعية - غير منضبطة خارجاً ولا طريق لتحديدها، فلا مجال لأخذها قيداً في الحكم الشرعي. نعم يمكن كونها علة لثبوت الحكم الشرعي في مورد منضبط محدد تم الدليل عليه. فلاحظ.

ثم إن ما تضمنه موثق سماعة وصحيح محمد بن مسلم المتقدمان محمول عند جماعة على الاستحباب، وادعى سيدنا المصنف (قدس سره) أنه المشهور بين من تعرض للحكم، وأنه لم يحك فيه خلاف.

والوجه فيه: ما تقدم في موثق أبي بصير ومرسل سماعة من عدم الغسل إلا بعد البرء وانقطاع الدم. بل عدم التنبيه في المطلقات للغسل في اليوم مرة لا يناسب وجوبه جداً. مضافاً إلى أن كثرة الابتلاء بالمسألة مانع من خفاء الوجوب على المشهور لو كان. وذلك كاف في حمل الحديثين على الاستحباب. فما في الحدائق من الميل للوجوب عملاً بظاهر الحديثين ضعيف جداً.

وأولى منهما بذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الدمل يسيل منه القيح، كيف يصنع؟ قال: إن كان غليظاً أو فيه خلط من دم فاغسله كل يوم مرتين غدوة وعشية...»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 157

(158)فإذا لم يلزم ذلك فلا عفو. ومنه دم البواسير إذا كانت ظاهرة (1)، أما الباطنة فالأحوط إن لم يكن أقوى عدم العفو عن دمها. وكذا كل جرح أو قرح باطني خرج دمه إلى الظاهر (2).

(مسألة 54): كما يعفى عن الدم المذكور يعفى أيضاً عن القيح المتنجس به (3)

(1) لا ينبغي التأمل في عدم صدق الجرح والقرح على البواسير الظاهرة، بل هي منابع للدم كما اعترف به (قدس سره) وما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أنها من سنخ القروح ممنوع جداً.

وحينئذ يبتني العفو عن دمها إذا كانت ظاهرة على إلحاقه بدم الجروح والقروح، لفهم عدم الخصوصية عرفاً، أو لتنقيح المناط، لصعوبة تجنبه. وكلاهما غير ظاهر بعد كون الحكم تعبدياً مخالفاً للقواعد.

ولاسيما مع كونها طويلة المكث لا تبرأ إلا أن تقطع، وإن كان خروج الدم منها ليس مستمراً، بل في نوبات تطول وتقصر، وانقطاع نوبة الدم ليس شفاء وبرءاً لها عرفاً. وعلى ذلك فالالتزام باستمرار العفو مادامت موجودة صعب جداً، وتحديده بانتهاء النوبة يحتاج إلى دليل بعد ما سبق من عدم صدق البرء به.

(2) كما عن كشف الغطاء. لانصراف القروح والجروح لخصوص الظاهر منها، دون الباطن وما ذكره في الجواهر من شمول إطلاق الجروح والقروح لها غريب، إذ لا إشكال في مقابلة دم الجروح لدم الرعاف ودم الاستحاضة وغيرهما عرفاً. وحينئذ يتوقف عموم العفو على فهم عدم الخصوصية أو تنقيح المناط. وكلاهما في غاية الإشكال، بل المنع. فلا مخرج عما تقتضيه القواعد من عدم العفو إلا في مورد الحرج الشخصي.

(3) كما هو مقتضى حديثي ليث وعبد الرحمن بن أبي عبد الله. وحملهما على عدم

ص: 158

والدواء الموضوع عليه (1)، والعرق المتصل به (2). كما أن الأحوط وجوباً شده إذا كان في موضع يتعارف شده (3).

تنجس القيح مما لا مجال له بعد فرض خروج الدم من الجرح والقرح. مضافاً إلى أن ملازمة القروح للقيح تلزم بحمل ما تضمنها من النصوص على عموم العفو له.

(1) لتعارف وضعه على القرح والجرح واحتياجهما له، فيصعب حمل النصوص المتقدمة على صورة عدمه.

(2) لعين ما تقدم في الدواء. بل لما كان المرتكز عرفاً كون الحكم المذكور ارفاقياً تسهيلياً فهو مناسب للعفو عما تنجس بملاقاة الدم المذكور، كالماء والوسخ الذي يعلق بالثوب ونحوهما مما يكثر الابتلاء به مع طول المدة التي يغلب ابتناء الجروح الدامية عليها. ومن ثم يغفل عن وجوب التحفظ منها بعد العفو عن الدم المنجس لها، فعدم التنبيه للزوم التحفظ منها موجب لاستفادة العفو عنها من الإطلاقات المقامية لأدلة العفو عن الدم في المقام. ولعله لذا قوى العفو عن المائع المتنجس بالدم في المدارك والذكرى. وما عن المنتهى من اختصاص العفو بالدم لأنه المتيقن. ضعيف، بل غريب. وإن كان ما رأيته من عبارة المنتهى لا تخلو عن غموض.

(3) كما جزم به في العروة الوثقى. وقد يستدل عليه تارة: بلزوم الاقتصار على المتيقن من دليل العفو، وهو صورة الشدّ مع الإمكان. ولاسيما وأن ذلك هو المتعارف تجنباً لقذر الدم ونجاسته.

وأخرى: بالتقييد بتعذر ربط الجرح في حديث عبد الرحمن بن أبي عبد الله، وحديث محمد بن مسلم المتقدم عن مستطرفات السرائر، وموثق سماعة.

وثالثة: بالتعليل في الموثق المذكور بأنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة، فإن ارتكازية التعليل تقتضي حمله على إرادة العجز عن تجنب النجاسة ولو بغير الغسل كالشدّ.

ص: 159

(160) (مسألة 55): إذا كانت الجروح والقروح المتعددة متقاربة بحيث تعد جرحاً واحداً عرفاً (1) جرى عليه حكم الواحد. فلو برء بعضها لم يجب غسله بل هو معفو عنه حتى يبرأ الجميع.

ويندفع الأول بأنه لا وجه للاقتصار على المتيقن من دليل العفو مع إطلاق دليله. وتعارف شدّ الجرح إنما هو حيث يمكن تجنب القذارة والنجاسة، أما مع فرض تعديها فتعارف الاهتمام بتقليلها بالشدّ ونحوه لا تخلو عن إشكال. على أن التعارف لا يمنع من الرجوع للإطلاق.

كما يندفع الثاني بأن تعذر ربط الجرح في النصوص المذكورة لم يتضح كونه وارداً مورد تقييد العفو به، بل الظاهر أن ذكره مقدمة لغرض إصابة الدم للثوب الذي هو موضوع العفو. على أنه في حديث عبد الرحمن وموثق سماعة مذكور في كلام السائل لا في كلام الإمام (عليه السلام).

وأما الثالث فيظهر ضعفه مما سبق من أن التعليل في موثق سماعة لا ينهض بتقييد الإطلاق. ولاسيما أن البناء على عموم وجوب تجنب النجاسة يقتضي عدم جواز ملاقاة الثوب للدم لو أمكن بحيث يقتصر في العفو على ما إذا اضطر المكلف لتنجس الثوب بالدم. ولا يظن بهم الالتزام بذلك.

ولعله لذا أطلق العفو جماعة من الأصحاب. بل سبق من المبسوط والخلاف التصريح بعدم وجوب شد الجرح. عملاً بالإطلاق المعتضد بما تقدم في صحيح إسماعيل الجعفي من صلاة الإمام الباقر (عليه السلام) والدم يسيل من ساقه، حيث يقرب جداً عدم شده (عليه السلام) لساقه مع تعارف شده وسهولته، كما سبق.

(1) إنما تعد جرحاً واحداً عرفاً إذا كانت متقاربة جداً بحيث يحتاج تمييز الفواصل بينها إلى فحص وتأمل. على أن صدق الواحدة عرفاً في ذلك مبني على التسامح الذي لا يعول عليه في تطبيق موضوعات الأحكام ومتعلقاتها.

ص: 160

ولا ريب في أن مقتضى القاعدة سقوط العفو عن دم كل جرح وقرح ببرئه اقتصاراً في الخروج عن عموم مانعية النجاسة على المتيقن. وهو المناسب لقوله (عليه السلام) في المرسل المتقدم عن سماعة: «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم»(1) ، حيث جعل غاية العفو عن دم الجرح برؤه.

نعم مع تقارب الجروح أو القروح بحيث تكون في مكان واحد عرفاً لا يبعد بناء المتشرعة على التسامح وعدم التطهير إلا بعد برء الكل، لأن التطهير وإن كان مخففاً للنجاسة، إلا أن ابتناء العفو عن دم الجروح و القروح على عدم مراعاة تخفيف النجاسة، تسهيلاً على المكلفين وإرفاقاً بهم، موجب لغفلتهم عن التخفيف المذكور وتسامحهم فيه.

وقد يناسب ذلك إطلاق صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «سألته عن الرجل يخرج به القروح، فلا تزال تدمي كيف يصلي؟ قال: يصلي وإن كانت الدماء تسيل»(2). وقريب منه ما في مستطرفات السرائر بسنده الموثق عن عبد الله بن عجلان(3).

فإن الظاهر المراد باستمرارها في الإدماء ليس هو استمرارها على نحو المجموعية، بحيث يكون كل منها مستمر الإدماء، بل على التعاقب بحيث لا يخلو بعضها من الإدماء، ولا أقل من شمول الإطلاق لذلك، لشيوعه وتعارفه، بحيث يصعب أو يتعذر حمل الإطلاق على خصوص الأول. وحينئذ يكون مقتضى الإطلاق العفو إذا كان بعضها دامياً حتى لو انقطع بعضها عن الإدماء، لتماثله للشفاء.

وأظهر من ذلك قوله (عليه السلام) في موثق أبي بصير المتقدم: «إن بي دماميل، ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ»، حيث جعل غاية العفو برأها أجمع.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن لا إطلاق في الموثق، لأنه حكاية فعل

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات حديث: 7، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب النجاسات ذيل حديث: 4، والسرائر آخر ص: 495.

ص: 161

(162) (مسألة 56): إذا شك في دم أنه دم جرح أو قرح أولاً لا يعفى عنه (1).

في قضية شخصية، ولعل دماميله (عليه السلام) كانت متقاربة بحيث تعد عرفاً قرحة واحدة ذات شعب. ولو تم إطلاقه كان معارضاً بالمرسل المتقدم عن سماعة، الذي تضمن أن غاية العفو عن دم الجرح برؤه، والذي كان بناء المشهور على حجيته كسائر مراسيل ابن أبي عمير، وبعد تساقطهما يكون المرجع عموم مانعية النجاسة من الصلاة.

فهو كما ترى! لأن الموثق وإن كان وارداً لبيان عمله (عليه السلام) الشخصي، إلا أن التعرض لذلك في مقام دفع توهم عموم مانعية النجاسة من الصلاة للمورد موجب لظهوره في بيان الحكم الشرعي، وقوله (عليه السلام): «إن بي دماميل» ظاهر في تعددها عرفاً، ولا أقل من أن يفهم منه عموم العفو لذلك بعد ظهوره في بيان الحكم الشرعي.

ولا مجال لدعوى معارضته بالمرسل المذكور، لأن المرسل المذكور إن لم يكن ظاهراً في صورة وحدة الجرح فلا أقل من عمومه لها، فيكون الموثق ونحوه مما ورد في صورة تعدد الجرح أو القرح مخصصاً له ومقدماً عليه، ويحمل المرسل على صورة وحدة الجرح جمعاً.

بل مقتضى إطلاق الأحاديث المتقدمة العموم للجروح المتفرقة التي يبعد بعضها عن بعض إذا كان من شأنها تنجيس الثوب. ولا بأس بالبناء على ذلك لو لا احتمال الانصراف. فتأمل.

(1) لاستصحاب عدم كونه دم قرح أو جرح، الذي هو موضوع العفو، فيتعين الرجوع فيه لعموم المانعية، بناء على التحقيق من أن الأصل النافي لعنوان الخاص ينهض بإثبات حكم العام.

والاستصحاب المذكور لا يبتني على استصحاب العدم الأزلي، لأن إضافة الدم للجرح أو القرح أو الرعاف أو غيرها ليس بلحاظ اختلاف الماهية والحقيقة أو لوازمها، ليمتنع استصحاب عدمه حتى بلحاظ العدم الأزلي، ولا بلحاظ اختلاف

ص: 162

(163) (الثاني): الدم (1)

لوازم الوجود - كالقرشية والبياض - ليبتني استصحاب عدمها على استصحاب العدم الأزلي، بل بلحاظ اختلاف موضع خروج الدم، فهي منتزعة من ذلك، ومن الظاهر أن ذلك أمر حادث طارئ على الدم متأخر عن وجوده، والدم قبل ذلك موجود في العروق والأوردة، وليس هو حينئذ دم قرح ولا جرح ولا غيرهما، فيستصحب العدم المذكور من حال ما قبل خروجه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا ويظهر من شيخنا الأستاذ (قدس سرهما) من أن موضوع الحكم بالمانعية والعفو هو الدم المتحقق خارجاً، والدم قبل خروجه ليس موضوعاً للمانعية حتى لو قلنا بنجاسته، وحينئذ لا يمكن استصحاب عدم كونه دم قرح أو جرح إلا بلحاظ العدم الأزلي السابق على وجوده.

فهو غريب جداً بعد وضوح أن الدم الموجود في الباطن عين الدم الخارج من الجرح والقرح وغيرهما، وأن خروجه ليس وجوداً له، بل هو أمر طارئ على الدم الموجود متأخر عن وجوده، فإذا لم يكن حين وجوده في الباطن دم جرح ولا قرح أمكن استصحاب العدم المذكور له بعد خروجه. ومجرد اختصاص الأثر المطلوب

- وهو المانعية أو العفو - بحال خروجه للظاهر لا يمنع من الاستصحاب بلحاظ الحال السابق على ذلك، إذ لا يشترط في الاستصحاب ترتب الأثر على المستصحب في زمان اليقين به، بل يكفي ترتبه عليه حال الشك الذي يستصحب فيه. وكأن ما ذكراه مبني على الخلط بين الوجود في الخارج المقابل للعدم، والوجود في الخارج المقابل للوجود في الباطن. فليلحظ ما ذكره في التنقيح هنا.

(1) العفو عن الدم المذكور في الجملة مما لا إشكال فيه بين الأصحاب، ودعوى الإجماع عليه منهم مستفيضة كالنصوص به، على ما يأتي. ومقتضى النصوص والفتاوى عدم مانعية الدم المذكور واقعاً، فيجوز الصلاة مع العلم به، لا إجزاء

ص: 163

الصلاة مع الجهل به، مع البطلان لو كان قد علم به.

لكن عن ابن أبي عقيل أنه قال: «إذا أصاب ثوبه دم، فلم يره حتى صلى فيه، ثم رآه بعد الصلاة وكان الدم على قدر الدينار، غسل ثوبه ولم يعد الصلاة، وإن كان أكثر من ذلك أعاد الصلاة. ولو رآه قبل صلاته أو علم أن في ثوبه دماً ولم يغسله حتى صلى أعاد وغسل ثوبه قليلاً كان الدم أو كثيراً. وقد روي أنه لا إعادة عليه إلا أن يكون أكثر من مقدار الدينار».

وهو مخالف للإجماع بقسميه وللنصوص، كما في الجواهر، ويتضح مما يأتي إن شاء الله تعالى. وأما الرواية التي أشار إليها فهي صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) وفيه: «وإن أصاب ثوبك قدر دينار من الدم فاغسله، ولا تصل فيه حتى تغسله»(1). وهو مخالف للنصوص الآتية المتضمنة للتقدير بالدرهم. وما في الوسائل من اتفاقهما في المساحة، ممنوع جداً بالنظر لما عثرنا عليه من الدراهم والدنانير الإسلامية، بل الدراهم أكبر، ولو كان المراد بالدرهم غير الإسلامي فالأمر أظهر. فالعمدة أن نصوص الدرهم تترجح على الصحيح المذكور بأنها مشهورة رواية، ومجمع على العمل بها، فيتعين لأجل ذلك طرح الصحيح أو حمله على الاستحباب، كما حمل عليه صدره المتقدم عند الكلام في حكم غسل الثوب من دم الجروح والقروح. فراجع.

هذا والمعروف بين الأصحاب اختصاص العفو المذكور بالدم، تبعاً لاختصاص النصوص به. لكن في المختلف: «قال ابن الجنيد: كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو منفشة [متفرقة] دون سعة الدرهم، الذين يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى، لم ينجس الثوب بذلك. إلا أن تكون النجاسة دم حيض أو منياً، فإن قليلهما وكثيرهما سواء».

وهو تعد عن مورد النصوص من دون وجه ظاهر. وأشكل من ذلك حكمه بعدم تنجس الثوب بملاقاة النجاسة، مع أن النصوص إنما تضمنت جواز الصلاة في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 164

في البدن واللباس (1)

الثوب، من دون أن تنافي تنجسه، الذي هو مقتضى إطلاق أدلة الانفعال، بل الفرق في الانفعال بين قلة النجاسة وكثرتها مما تأباه المرتكزات جداً، ولاسيما أن بعض نصوص المقام قد تضمن الأمر بغسله. ففي صحيح ابن أبي يعفور الآتي: «يغسله ولا يعيد الصلاة»(1).

(1) أما اللباس فهو المتيقن منهم، لأنهم بين من اقتصر عليه ولم يتعرض للبدن - كما في الفقيه والهداية والمقنعة والمراسم والغنية، مدعياً عليه في الأخير الإجماع - ومن صرح بالتعميم أو أطلق، كما يأتي.

وهو مورد النصوص أيضاً، كصحيح إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال في الدم يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته...»(2). ونحوه غيره.

وأما البدن فهو المصرح به في كلام جماعة كثيرة حيث ذكروه مع الثوب. وهو داخل في معقد الإجماع المدعى في الانتصار ومحكي التحرير وكشف الالتباس، وإحدى نسختي التذكرة، وفي الأخرى: «قطعاً». وهو مقتضى إطلاق العفو من جماعة كثيرة مع دعوى الإجماع عليه في الخلاف والمختلف والمدارك وغيرها. وعن الدلائل: «إن الأصحاب صرحوا بعدم التفرقة بين الثوب والبدن، لاشتراكهما في لزوم المشقة». ولا يخفى أن التعليل لا ينهض دليلاً في المقام، بعد عدم الإشارة إليه في النصوص.

وكذا ما قد يدعى من أولوية البدن بالعفو، فإنها لا تتم إلا في دم القروح والجروح مما لا يصل للثوب إلا من البدن، أما في المقام فقد تكون نجاسة البدن أشد لأنها ألصق بالمصلي من نجاسة الثوب وكذا ما قيل من أنه بعد العفو عنه فلا فرق بين

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2.

ص: 165

البدن واللباس، لظهور أنه بعد أن كان نجساً العفو عنه قابل للعموم والخصوص، ويحتاج الأول إلى دليل.

ومثله الاستدلال بخبر المثنى بن عبد السلام عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قلت له: إني حككت جلدي فخرج منه دم، فقال: إن اجتمع قدر حمصة فاغسله، وإلا فلا»(1).

إذ فيه - مع الغض عن سنده -: أنه قاصر دلالة بعد ظهوره في طهارة الدم المذكور وبعد جعل المعيار فيه قدر الحمصة الذي لا مجال للبناء على كونه معياراً في العفو سواءً أريد به التقدير بحجم الحمصة - كما هو ظاهره - أم بسعة محيطها أم بوزنها. وحمله على خصوص وزن حمصة يساوي سعة الدرهم تكلف لا مجال لحمل الحديث عليه في مقام الاستدلال به. وما في الجواهر من أنه لولا ذلك لكان من الشواذ المتروكة. لا يكفي في حمله عليه بنحو يكون حجة فيه.

فالعمدة في المقام الإجماع على العموم المدعى ممن سبق حيث قد يظهر منهم المفروغية عن عدم الفرق ويلزم معه حمل من اقتصر على الثوب على مجاراة النص، أو مجرد التمثيل من دون خلاف في البدن.

لكن الاكتفاء بذلك في الجزم بالحكم إشكال، لقرب ابتناء التعميم في كلامهم على فهم عدم الخصوصية أو تنقيح المناط، أو دعوى الإجماع. والأولان في غاية الإشكال، كما يظهر مما سبق في وجه منع الأولوية، والثالث محل الكلام.

ولاسيما بملاحظة صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «في الرجل يمس أنفه في الصلاة فيرى دماً كيف يصنع؟ أينصرف؟ قال: إن كان يابساً فليرم به ولا بأس»(2). فإن مقتضى مفهومه ثبوت البأس لو لم يكن يابساً، مع ظهور أن مس الأنف يكون بالإصبع والدم الذي يعلق به ليس كثيراً.

ونحوه صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «عن الرجل يكون به الثالول أو

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب النجاسات حديث: 5، 2.

ص: 166

إذا كانت سعته (1) أقل من الدرهم (2)

الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته، أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال: إن لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، وإن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله»(1) فإنه كثيراً ما يكون الدم السائل بسبب ذلك قليلاً لا يبلغ سعة الدرهم. ولعله لذا قال المجلسي في البحار: «وربما يستشكل في البدن، لورود أكثر الروايات في الثوب».

(1) فإن المدار في التقدير على سعة الدرهم لا وزنه. وهو الذي صرح به غير واحد ويظهر من الباقين، لأنه المنصرف من التقدير في الفتاوى والنصوص بعد كون المقدر هو الدم الذي في الثوب فإن الذي يعرف منه عادة هو المساحة دون الوزن.

(2) كما ذكر ذلك جمهور الأصحاب، ومنهم مدعو الإجماع في المقام، بنحو يظهر منهم عدم العفو عن المساوي للدرهم. بل صرح جماعة منهم بذلك، ومنهم الشيخ في معقد إجماع الخلاف.

ويقتضيه صحيح ابن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى أن يغسله، فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى، أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته. إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً، فيغسله ويعيد الصلاة»(2). وقريب منه مرسل جميل(3).

وقد يظهر من صحيح إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال في الدم يكون في الثوب: إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، وإن كان أكثر من قدر الدرهم، وكان رآه فلم يغسله حتى صلى، فليعد صلاته...»(4).

فإن مقتضى مفهوم صدره مانعية ما كان بقدر الدرهم ومقتضى مفهوم ذيله عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 63 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1، 4، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1، 4، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1، 4، 2.

ص: 167

مانعيته، فيدور الأمر بين عدم سوق القضيتين للمفهوم المستلزم لإهمال حكم ما كان بسعة الدرهم، وكون إحدى القضيتين قرينة على الأخرى. وحيث كان الأول بعيداً عن مقتضى وظيفة الإمام (عليه السلام) في مقام الجواب تعين الثاني، وحينئذ لا يبعد تحكيم الأولى على الثانية، لسبق أنس الذهن بها، فتحمل الثانية على عدم سوقها للمفهوم.

لكن الإنصاف أن ذلك لا يخلو عن خفاء، خصوصاً مع احتمال كون إهمال حكم ما كان بسعة الدرهم لعدم تيسر تحديده غالباً، أو كون تدافع القضيتين بسبب النقل بالمعنى. والأمر سهل بعد الاستغناء عن ذلك بالحديثين الأولين.

هذا وفي المراسم العفو عما كان بمقدار الدرهم فما دون. ويشهد له صحيح

محمد بن مسلم: «قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة. قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء، رأيته قبل أو لم تره. وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه»(1). قال سيدنا المصنف (قدس سره): «فإنه يدل عليه بالمفهوم أو المنطوق في الفقرات الثلاث».

لكن ادعى بعض مشايخنا (قدس سره) إجماله وتدافع الفقرات فيه. وكأنه لدعوى أن المراد باسم الإشارة في قوله (عليه السلام): «وما كان أقل من ذلك فليس بشيء» هو الدرهم - كما

استظهره في الجواهر - لا ما زاد عليه.

وفيه: أن حمل اسم الإشارة على ما زاد على الدرهم إن لم يكن ظاهر الكلام في نفسه فلا أقل من كونه مقتضى الجمع بين الفقرات الثلاث. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في تمامية دلالة الصحيح.

ودعوى: أن مقتضى الجمع بينه وبين ما سبق هو حمله على إرادة درهم فما زاد. مدفوعة بعدم الشاهد على الجمع المذكور. نعم ادعى في الحدائق شيوع هذا النحو من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 168

(169)الاستعمال في الأخبار. لكنه اعترف بعدم العثور إلا على رواية واحدة، ولسانها يشبه لسان صحيح إسماعيل المتقدم.

ومثله ما في الجواهر من تقريب حمل النصوص الأول المانعة عن مقدار الدرهم على ما زاد على الدرهم، لغلبة عدم معرفة مقدار الدرهم إلا بالزيادة عليه. فإنه تكلف خال عن الشاهد أيضاً.

نعم روى الفقرة المذكورة في الفقيه هكذا: «فإن كان أقل من درهم فليس بشيء»(1). وحينئذ يضعف ظهور الحديث في العفو عما كان بقدر الدرهم، أو يكون مجملاً، نظير ما تقدم في صحيح إسماعيل الجعفي. وحيث لا يتضح ترجيح أحد الوجهين يتعين سقوط الحديث.

على أنه لو فرض استحكام التعارض بين النصوص فيما كان بقدر الدرهم يتجه البناء على مانعيته، كما هو المشهور، إما لترجيح النصوص الأول بأنها أظهر دلالة وأكثر عدداً، أو لتساقطها والرجوع لعموم مانعية النجاسة من الصلاة. فلاحظ.

بقي في المقام أمران:

الأول: أنه لا إشكال في مانعية ما كان من الدم بقدر الدرهم أو زائداً عليه إذا كان دماً واحداً. أما إذا كان متعدداً متفرقاً بحيث يكون كل دم منها دون الدرهم إلا أنها تبلغ بمجموعها الدرهم أو تزيد عليه، فقد وقع الكلام في مانعيته، فذهب إلى العفو عنه وعدم مانعيته في المبسوط والسرائر والشرايع والنافع والروضة والمدارك والحدائق وعن غيرها، بل في الذكرى أنه المشهور.

واستدل له بصحيح عبد الله بن أبي يعفور المتقدم، وفيه: «قلت له: فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعدما صلى أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته، إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً»(2).

********

(1) من لا يحضره الفقيه ج: 1 ص: 161 باب: 39 حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 169

بدعوى: أن قوله (عليه السلام): «مجتمعاً» إما أن يكون خبراً ثانياً أو حالاً، وعلى كلا التقديرين يدل على أنه لابد في مانعية الدم من أمرين كونه بقدر الدرهم وكونه مجتمعاً، فمع فقد أحدهما بأن كان مجتمعاً دون الدرهم، أو متفرقاً بقدر الدرهم فلا يكون مانعاً. ومثله في ذلك قوله (عليه السلام) في مرسل جميل: «لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب فيه الدم متفرقاً شبه النضح. وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعاً قدر الدرهم»(1).

وفيه: أن الدم تارة: يطلق بلحاظ وحدة الوجود المتمثل في البقعة الواحدة، فيقبل التكثر والتعدد بتعدد البقع، فتكون البقع المتعددة دماء متعددة، لا دماً متفرقاً. وأخرى: يطلق بلحاظ الطبيعة القابلة للإتحاد والتكثر، فيراد بالدم الذي يصيب الثوب الأعم من البقعة الواحدة والبقع المتعددة.

ومن الظاهر أنه لا يصح باللحاظ الأول وصف الدم الذي يصيب الثوب مثلاً بالاجتماع والتفرق، بل بالإتحاد والتعدد لا غير، لأن تفرق الدم ملازم لتعدده بهذا اللحاظ. أما باللحاظ الثاني فيصح وصفه بالاجتماع والتفرق، لأن التفرق لا يخل بوحدته.

وبذلك يتضح أن الدم الموضوع في الحديثين الشريفين، والذي هو مورد التفصيل بين بلوغ مقدار الدرهم وعدمه هو الدم باللحاظ الثاني، كما يناسبه السؤال في الصحيح وموضوع الحكم في المرسل وفرض الاجتماع فيهما معاً.

وحينئذ من الظاهر أنه لا مجال لحملهما على التقييد بالاجتماع الفعلي بعد كون الموضوع في المرسل هو الدم متفرقاً شبه النضح، والمستثنى منه في الصحيح هو نقط الدم الظاهرة في البقع الصغيرة التي هي دون الدرهم، لاستلزامه كون القيد في المرسل مبايناً مورداً للمقيد، والاستثناء في الصحيح منقطعاً، وكلاهما خلاف الظاهر، كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 170

مضافاً إلى أن لازمه عدم مانعية المتفرق وإن كان كل جزء منه أكثر من الدرهم، لأنه إذا كانت مانعية الدم الذي يصيب الثوب مشروطة بأمرين كونه بقدر الدرهم، وكونه مجتمعاً، لزم عدم مانعيته مع تخلف أحدهما من دون فرق في ذلك بين أن يكون قوله (عليه السلام): «مجتمعاً» خبراً، وأن يكون حالاً ولا يكفي في المانعية حينئذ بلوغ بعضه قدر الدرهم نعم لو قيل: إلا أن يكون فيه مجتمع بقدر الدرهم، أو: إلا يكون منه مجتمع بقدر الدرهم. كان دالاً على مانعيته حينئذ.

وكذا لو كان موضوع الحديثين هو الدم باللحاظ الأول، كما لو قيل: «يجوز الصلاة في بقعة الدم ما لم تكن بقدر الدرهم». لكن سبق أن ذلك لا يناسب الحديثين.

ومن ثم يتعين حمل الاجتماع المأخوذ قيداً على الاجتماع التقديري، فيرجع إلى أن الدم المتفرق إنما يمنع من الصلاة إذا كان بقدر الدرهم لو كان مجتمعاً، لأن ذلك هو المناسب لأخذ الاجتماع قيداً في فرض تفرق الدم، كما أشار إليه في الحدائق.

ودعوى: أنه لابد في الحال المقدرة من اختلاف زمانها مع زمان العامل، كما في قولهم: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، ولا مجال لذلك هنا، ضرورة اتحاد زمان كون الدم مقدار الدرهم وزمان الاجتماع المقدر.

مدفوعة بأن ذلك وإن ذكره النحاة شرطاً في الحال المقدرة، ومثلوا له بالمثال المتقدم، إلا أنها في الحقيقة ليست حالاً مقدرة، بل فعلية بلحاظ لاحق، والحال في الحقيقة الأمر الحالي الفعلي المنتزع من الوجود الاستقبالي. أما ما نحن فيه فالحال فيه مقدرة، ولا تكون فعلية بلحاظ زمان ما، ولا مشاحة في الاصطلاح.

ومثلها دعوى: أنه لو كانت الحال هنا مقدرة لكان الحديث مختصاً بالاجتماع التقديري، دون الفعلي التحقيقي، كما في المدارك.

لاندفاعها بأن المستفاد عرفاً من الكلام أخذ الاجتماع التقديري من أجل تحديد مقدار الدم، لا لخصوصية التقدير بحيث يكون التقدير قيداً زائداً على الاجتماع. على

ص: 171

أن التقييد بالاجتماع التقديري إنما كان في فرض تفرق الدم كما هو مورد الحديثين، فلا ينهض بعموم التقييد بالتقديري لما إذا لم يكن الدم متفرقاً، بل يتعين الرجوع فيه لإطلاق بقية نصوص المقام المتضمنة عدم العفو عما كان بقدر الدرهم، المعتضد بعموم مانعية النجاسة.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الحديثين فيما ذكرنا، فيطابقان إطلاق بقية النصوص الظاهرة في أن المعيار على كون الدم بمقدار درهم مجتمعاً كان أو متفرقاً.

ثم إنه قد يستدل على العفو عن الدم المتفرق إذا لم يبلغ شيء منه مقدار الدرهم بصحيح الحلبي - بناء على ما هو الظاهر من وثاقة محمد بن سنان -: «سالت أبا

عبد الله (عليه السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا وإن كثر، فلا بأس بشبهه من الرعاف. ينضحه ولا يغسله»(1). بتقريب: أن مقتضى إطلاق التشبيه بدم البراغيث العفو عن نقط دم الرعاف وإن كثر وبلغ مجموعه الدرهم.

وفيه: أن الغالب عدم بلوغ دم البراغيث مقدار الدرهم وإن كثر، فلا يتضح شموله لنقط دم الرعاف الذي يبلغ بمجموعه الدرهم. ولو سلم عمومه له كفى في الخروج عنه صحيح ابن أبي يعفور ومرسل جميل المتقدمان الواردان في الدم المتفرق الذي يشبه دم البراغيث، بناء على ما سبق من أن مفادهما مانعية المتفرق إذا كان مجموعه بقدر الدرهم.

ولو غض النظر عنهما كفى إطلاق مثل صحيح محمد بن مسلم المتضمن مانعية ما كان بقدر الدرهم الشامل للمتفرق، غاية الأمر أن يكون بينه وبين الصحيح المذكور عموم من وجه، فيرجع في مورد الاجتماع - وهو المتفرق الذي لا يبلغ الدرهم -

لعموم مانعية النجاسة.

هذا وأما الإشكال فيه بظهوره في طهارة الدم المذكور، كما يناسبه قياسه بدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 7.

ص: 172

(173)البراغيث، والاكتفاء بنضحه من دون غسل. فيندفع بأن قياسه بدم البراغيث إنما هو في عدم مانعيته من الصلاة، لأن ذلك هو المسؤول عنه. وأما الأمر بالنضح فهو حكم آخر قد يكون مختصاً بدم البراغيث. ولا أقل من لزوم حمله على ذلك، لما هو المعلوم من نجاسة دم الرعاف مطلقاً. على أن لسان الصحيح لا يخلو عن اضطراب. وقد يكون فيه شيء من التصحيف. فلاحظ.

والحاصل: أنه لا مجال للبناء على عدم مانعية الدم المتفرق إذا كان مجموعه بقدر الدرهم.

ولعله لذا أطلق في الفقيه والهداية والمقنعة والانتصار والدروس مانعية الدم إذا كان بقدر الدرهم. بل صرح بالتعميم للمتفرق في المراسم والوسيلة والتنقيح والتذكرة والمختلف والقواعد والمنتهى والذكرى وجامع المقاصد والروض وعن ابن البراج والبيان وغيرهما. وعن كشف الالتباس أنه المشهور ونسب لأكثر المتأخرين في كلام غير واحد.

هذا وقد نسب للنهاية والمعتبر استثناء صورة التفاحش من العفو المتفرق. وكلامهما لا يخلو عن غموض، كدليل الاستثناء المذكور. إذ لم نعثر على ما يناسب ذلك إلا على مرسل دعائم الإسلام عن الصادقين (عليهم السلام) في الدم: «ورخصا في النضح اليسير منه ومن سائر النجاسات مثل دم البراغيث وأشباهه. قالا: فإذا تفاحش غسل»(1). وضعفه مانع من الاعتماد عليه. ولاسيما مع اشتماله على ما لا نقول به من عموم العفو لسائر النجاسات. بل من البعيد جداً تعويلهما عليه.

الثاني: لو كان الدم متفرقاً في ثياب متعددة. ولم يبلغ ما في كل منها قدر الدرهم إلا إن المجموع يبلغ الدرهم فهل يحكم بالمانعية أو بالعفو؟ صرح بالأول في جامع المقاصد والمسالك والجواهر ومحكي الموجز والدلائل، وجعله الأوجه في الروض.

وصرح بعض مشايخنا (قدس سره) بالثاني، مستدلاً بإطلاق نصوص المقام المتضمنة

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 15 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 173

العفو عما دون الدرهم من الدم في الثوب، فإن مقتضاه أن لكل ثوب حكمه، فيعفى عما فيه الدم إذا كان دون الدرهم.

وما ذكره قد يكون مقتضى الجمود على عبارة النصوص، إلا أن المناسبات الارتكازية تقضي بعدم العفو، لإلغاء خصوصية وحدة الثوب، وأن العفو إنما هو بلحاظ قلة الدم، فالدم القليل معفو عنه في مقابل بقية النجاسات التي لا يعفى عن قليلها، كما صرح به في بعض النصوص.

ولعل هذا هو المنشأ لإلحاق المشهور البدن بالثوب، كما جرى عليه هو أيضاً، وإن سبق منا التوقف فيه، إذ لو كانت لوحدة الثوب خصوصية في موضوع العفو فالتعدي للبدن يكون أشكل.

وبعبارة أخرى: المستفاد من النصوص العفو - ولو بمعونة المناسبات الارتكازية - هو العفو عن الدم الذي يصيب الثوب، وذلك يقتضي إلغاء خصوصية وحدة الثوب، وليس مفادها العفو عن الثوب الذي يصيبه الدم القليل، ليكون لكل ثوب عفو خاص به.

على أنه لا إطلاق في النصوص يقتضي جواز الصلاة في الثياب المتعددة التي أصابها الدم، بل ظاهرها أو المتيقن منها فرض وحدة الثوب الذي أصابه بالدم، والتفصيل فيه بين قلة الدم وكثرته.

وحينئذ لو بني على الجمود على مفادها لزم عدم جواز الصلاة في الثياب المتعددة التي يصيبها الدم وإن كان مجموع الدم دون الدرهم. ولو بني على التعدي عن موردها فالمتيقن منه ما إذا لم يبلغ مجموع الدرهم، بلحاظ أنه بعد فرض العفو عنه فلا خصوصية عرفاً لكونه في ثوب واحد، أما إذا بلغ مجموع الدم الدرهم فلا مجال لجوازه.

نعم لو كان لسان النصوص هكذا: «لا يجوز الصلاة في الثوب الذي فيه دم دون الدرهم» كان لما ذكره وجه. إلا أن النصوص لا تنهض بذلك. كما يظهر

ص: 174

(175) البغلي (1)

بملاحظتها والتأمل فيها.

ولعله لما ذكرنا كان ظاهر من لم ينبه على ذلك من الأصحاب المفروغية عن عدم العفو، للغفلة عنه بعد ظهور كلمات جماعة من القدماء في عدم العفو، حيث قسموا الدم إلى ما يجب إزالة قليله وكثيره كدم الحيض، وما لا يجب إزالة قليله ولا كثيره كدم الجروح والقروح، وإلى ما يجب إزالة كثيره دون قليله، وحددوا القليل فيه بما دون الدرهم، حيث يظهر منهم أن المعيار في العفو على قلة الدم بالمقدار المذكور من دون نظر لوحدة الثوب وتعدده. وما ذلك منهم إلا لوضوح ما ذكرنا، ولو بمعونة المناسبات الارتكازية.

(1) بسكون الغين وتخفيف اللام - كما عن جماعة - أو بسكون الغين وتشديد اللام، كما عن آخرين. وكيف كان فالبغلي هو المذكور في الشرايع والتنقيح والمنتهى والقواعد وعن جماعة. والمذكور في الفقيه والهداية والمقنعة والانتصار والغنية وعن غيرها هو الوافي المضروب من درهم وثلث. وإليه يرجع ما في المبسوط والخلاف من أن المعفو عنه هو مقدار الدرهم المضروب من درهم وثلث.

وفي التذكرة أن الدرهم المضروب من درهم وثلث هو البغلي، وهو ظاهر الخلاف. بل صريح الذكرى أن الوافي هو البغلي، وصريح المعتبر أن الوافي المضروب من درهم وثلث هو المسمى بالبغلي، وهو المحكي عن أكثر كتب المتأخرين.

وعليه لا خلاف بين القولين كما قد يناسبه ما عن الدلائل من نسبة العفو عن البغلي إلى مذهب الإمامية، وإن كان قد يظهر الخلاف بين القولين من السرائر.

ودعوى: أن تقديرهم لوزنه لا يناسب ما تقدم من أن المدار في العفو على المساحة دون الوزن. مدفوعة بأن التقدير المذكور إنما هو للإشارة إلى الدرهم الوافي المعروف ذو المساحة المعروفة عند القدماء فيما يظهر، وإن خفيت بعد ذلك حتى

ص: 175

احتاجت للتقدير، كما يأتي.

بل ظاهرهم أنه أوسع من الدرهم الإسلامي المشهور، إذ لو كان مساوياً له مساحة لم يكن للتنبيه للدرهم الوافي في كلماتهم وجه. كما أن كونه أقل مساحة منه بعد كونه أكثر وزناً من أبعد البعيد، بل لا يناسب ما يأتي من التقدير في كلامهم، ولا ما أشرنا إليه في أول المسألة في سعة الدرهم غير الإسلامي الذي عثرنا عليه.

وكيف كان فلا ريب في أن الدرهم الشايع في عصور الصادقين (عليهم السلام) الذين صدرت عنهم نصوص العفو هو الدرهم الإسلامي الذي هو ثلاثة أرباع الدرهم المذكور في كلام من تقدم، ومقتضى ذلك حمل إطلاق الدرهم في النصوص المذكورة عليه. ولذا احتاج الأصحاب (رضوان الله عليهم) للتنبيه على الخروج عنه وعدم الاكتفاء بالإطلاق.

ولا مخرج عن الإطلاق المذكور في النصوص إلا الرضوي: «إن أصاب ثوبك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف والوافي ما يكون وزنه درهماً وثلثاً»(1). وهو - كما ترى - لا ينهض بالحجية بعد عدم وضوح سنده، بل عدم وضوح كونه رواية عن معصوم، وعدم انجباره بالعمل لو كان رواية. ومن ثم استشكل في المدارك في حمل الدرهم على البغلي.

لكن في الحبل المتين: «وظني أنه لا إشكال في ذلك، لأن أحكامهم (عليهم السلام) متلقاة من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد وردت روايات صحيحة بأنها مثبتة عندهم في صحيفة بإملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخط أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكون الدرهم البغلي متروكاً في عصر الصادق (عليه السلام) لا يقدح في حمل الرواية الواردة عنه (عليه السلام) عليه». ونحوه عن اللوامع.

وهو كما ترى! إذ أخذهم (عليهم السلام) الحكم منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا ينافي حمل كلامهم مع الإطلاق على ما هو المشهور في زمانهم، لأن وظيفتهم (عليهم السلام) في مقام البيان ملاحظة القرينة المذكورة عند الإطلاق. ولذا احتاج الأصحاب للتقييد مع وضوح أخذهم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 176

الحكم عنهم (عليهم السلام). والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل في ظهور النصوص في الدرهم الإسلامي المذكور.

بل لو فرض إجمالها تعين الاقتصار في العفو على الأقل، والرجوع في الزائد لعموم مانعية النجاسة، كما هو مقتضى القاعدة في كل مورد يدور الأمر بين الأقل والأكثر لإجمال المخصص.

وأما ما في الجواهر من تقريب الرجوع للأصل المقتضى للبراءة من المانعية، لأنه المرجع عند اشتباه أفراد الخاص. فهو ممنوع جداً. لأن ما ذكره إنما يتم في اشتباه الأفراد للشبهة المصداقية، أما إذا كان للشبهة المفهومية في الخاص - كما في المقام - فالشك يرجع حينئذ للشك في زيادة التخصيص التي يدفعها العموم الحجة. وتمام الكلام في محله من الأصول.

ولعله لذا أطلق الدرهم في النهاية والوسيلة، بنحو يظهر منه إرادة الدرهم الإسلامي المشهور. وإن كان من البعيد جداً خروجهما عما عليه الأصحاب، وصرح به الشيخ نفسه في الخلاف والمبسوط، مكتفيين بالإطلاق من دون تنبيه منهما للخلاف، وتنصيص على إرادة الدرهم الإسلامي. ومن ثم لا يبعد إرادتهما البغلي واعتمادهما في الإطلاق على معروفية إرادة البغلي من الدرهم بين الأصحاب. ويصعب مع ذلك عدهما مخالفين في المقام.

لكن في كفاية ذلك في الإجماع التعبدي الذي يصلح قرينة على تفسير النصوص، والخروج عن ظاهر إطلاقها إشكال. وإن كان ذهاب الأصحاب لذلك وخروجهم عن ظاهر النصوص من دون مستند بعيداً جداً.

نعم لو تم ما ذهب إليه بعضهم من أن الرضوي هو رسالة علي بن بابويه والد الصدوق، فلا يبعد أن يكون من بعده قد اعتمد عليه. قال في الذكرى: «وقد كان الأصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرايع الشيخ أبي الحسن بن بابويه - رحمة الله

ص: 177

(178) ولم يكن من دم الحيض (1)

عليهم - عند إعواز النصوص، لحسن ظنهم به، وإن فتواه كروايته...»(1). ونحوه عن المفيد الثاني ابن شيخ الطائفة الطوسي.

لكن لا مجال للوثوق - فضلاً عن العلم - بأن تفسير ابن بابويه للدرهم بالبغلي ناش من اطلاعه على نص معتبر بذلك، بل قد يكون اجتهاداً منه لبعض الوجوه المتقدمة أو غيرها. ومع ذلك لا مجال للخروج به عما سبق من ظهور نصوص المقام. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) فإنه المتيقن من الدماء الثلاثة في عدم العفو عند الأصحاب، حيث اقتصر عليه بعضهم، كما في الفقيه والهداية والمقنعة، ونسبه للأصحاب في المعتبر وجامع المقاصد، وفي المدارك ومحكي الدلائل أن الأصحاب قاطعون به. وفي كشف اللثام وعن التنقيح الإجماع عليه، وعن الذخيرة وشرح القواعد لكاشف الغطاء أنه مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفاً. نعم نسبه للمشهور في الذكرى من دون أن يشير لمن خالف المشهور.

وكيف كان فقد استدل عليه في الجواهر بما دل على وجوب غسل دم الحيض(2) ، بضميمة ما قيل من قصور أدلة العفو عن شمول دم الحيض لندرته، خصوصاً مع اختصاص الخطاب فيها بالذكور، واحتمال إصابة ثيابهم من دم الحائض نادر بالضرورة.

هذا ولا يخفى أنه لو تم قصور أدلة العفو عن دم الحيض لم يحتج لنصوص وجوب غسل دم الحيض، لكفاية عموم مانعية الدم والنجاسة في الصلاة، وإن لم يتم لم تنفع نصوص وجوب غسل دم الحيض، لأن النصوص المذكورة - كنصوص وجوب

********

(1) الذكرى ج: 1 ص: 51.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب النجاسات.

ص: 178

(179) والنفاس والاستحاضة (1)

غسل دم الرعاف ودم الجروح وغيرها من أقسام الدم - محكومة عرفاً لنصوص العفو بعد فرض عمومها، كما لعله ظاهر. مع أن الظاهر تمامية إطلاق نصوص العفو، والندرة المذكورة لا تكفي في قصور الإطلاق.

فالعمدة في المقام حديث أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام): «قال: لا تعاد الصلاة من دم لا [لم خ. ل] تبصره غير دم الحيض، فإن قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء»(1).

والظاهر أن اعتماد الأصحاب عليه، كما هو صريح المعتبر وظاهر غيره. ويناسبه انحصار دليل الحكم به. وقد تقدم في المسألة الثانية والثلاثين عند الكلام في من صلى بالنجاسة جاهلاً تقريب اعتبار سنده وحجيته. فراجع.

كما أن دلالته وافية، لصراحته في عموم مانعية دم الحيض للقليل منه. وحمله على ما كان بقدر الدرهم فما زاد، دون ما نقص عنه، بعيد جداً، بل لا يناسب صراحته في خصوصية دم الحيض.

ولو غض النظر عن ذلك كان بينه وبين أدلة العفو عما دون الدرهم من الدم عموم من وجه، وظهوره في عموم مانعية دم الحيض أقوى من ظهور أدلة العفو في العموم لدم الحيض، فيقدم عليها. ومع فرض التساوي بينهما وتساقطهما، فالمرجع عموم مانعية النجاسة، وعموم مانعية دم الحيض الذي تضمنته النصوص المشار إليها آنفاً.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة وفي جامع المقاصد بعد أن نسب الحكم في دم الحيض للأصحاب قال: «وألحقوا به دم الاستحاضة والنفاس»، وفي السرائر أنه لا خلاف فيه، بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه، وعن ظاهر كشف الحق أنه من دين

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 179

الإمامية. ولعله لذا قال سيدنا المصنف (قدس سره): «العمدة فيه ظاهر الإجماع المحكي عن جماعة».

لكن لا مجال لذلك بعد نسبة إلحاقهما للشيخ في المنافع والمعتبر والمدارك ومحكي كشف الالتباس والدلائل، وإلى الشيخ ومن تبعه في كشف اللثام، كما يناسبه ما تقدم من الاقتصار على دم الحيض في الفقيه وفي الهداية والمقنعة. بل والرضوي الذي لا يبعد كونه كتاباً لأحد الأصحاب، وما في الانتصار من الاقتصار عليه في صدر كلامه، ثم ظهور بقية كلامه في احتمال عدم الفرق بينه وبين النفاس من دون إشارة لدم الاستحاضة. بل يظهر من الاقتصار في النافع والمعتبر على نسبة إلحاقهما بدم الحيض للشيخ التردد فيه، بنحو لا يناسب ثبوت الإجماع على الإلحاق جداً. ولا أقل من عدم ثبوت الإجماع أو عدم نهوضه بالاستدلال في المقام.

ومثله الاستدلال بأن النفاس حيض، أو حيض محتبس، وبما دل على لزوم تبديل القطنة على المستحاضة. لاندفاع الأول بعدم وضوح الدليل على ذلك، وإنما الذي ورد أن الحيض يحبس حال الحمل ليكون غذاء للجنين(1). مع أنه لو ورد فلم يتضح وروده للتنزيل بلحاظ الأحكام الشرعية، بل لعله لبيان قضية واقعية.

والثاني بعدم وضوح وجوب تبديل القطنة على المستحاضة، كما يظهر مما سبق في أحكامها. مع أنه لو تم فقد يكون منشؤه الخوف من زيادة الدم على المقدار المعفو عنه.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): «وأضعف من ذلك الاستدلال عليه في الذكرى بأن أصل النفاس حيض، والاستحاضة مشتقة منه، وبتساويهما في إيجاب الغسل، وهو يشعر بالتغليظ». ومن ثم لا مجال للبناء على إلحاق دم الاستحاضة.

نعم قد يتجه إلحاق دم النفاس، لظهور مفروغيتهم عن مساواة النفاس للحيض في الأحكام. وإن كان في بلوغ ذلك حداً ينهض بالاستدلال إشكال.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الحيض.

ص: 180

(181) ولا من نجس العين (1)

(1) كما ذكره العلامة والشهيد وجماعة ممن تأخر عنهما. والعمدة فيه ما ذكره غير واحد من أن أدلة العفو إنما تقتضي العفو عن حيثية نجاسة الدم، لا من حيثية نجاسة أخرى، وهي نجاسة نجس العين، بل مقتضى إطلاق أدلة مانعية النجاسة عدم العفو من الحيثية المذكورة.

إلا أن يقال: هذا إنما يتجه لو كانت الأدلة قد تضمنت العفو بعد التنبيه لنجاسة الدم، كما لو قيل مثلاً: الدم نجس لا تصح الصلاة معه إلا أن يكون بقدر الدرهم، أما حيث ورد العفو ابتداء، فالمنصرف منه الاستثناء، من عموم مانعية النجاسة.

نعم لا يبعد انصراف الدم المعفو عنه للدم النجس بالذات، دون الطاهر بالذات - كالدم المتخلف في الذبيحة - المتنجس بالعرض، لارتكاز خصوصية الدم في الاستثناء، ولا خصوصية له ارتكازاً لو كان طاهراً بالذات متنجساً.

على أنه لو تم ما ذكروه فمن الظاهر أن خصوصية دم نجس العين ليست بلحاظ كونه من أجزائه، بل بلحاظ كونه متنجساً به، بناء على ما هو الظاهر من قابلية النجس للتنجس، وحيث كانت النجاسة بالعرض ارتكازاً دون النجاسة بالذات الثابتة لأعيان النجاسات - ومنها الدم - فالعفو عن نجاسة الدم الذاتية موجب لغفلة العرف عن مانعية النجاسة العرضية الذي قد تثبت له، وبنائهم على العفو عنها تبعاً، وإلا لزم عموم الاستثناء للدم المتنجس وإن لم يكن من عين النجس، ولا يظن منهم الالتزام بذلك.

وقد استدل لاستثناء دم نجس العين في الحدائق بانصراف الدم في نصوص العفو لما هو الشايع المعتاد، كدم الإنسان والحيوانات التي يتعارف ذبحها ونحو ذلك.

لكن الانصراف المذكور بدوي لا يعول عليه في الخروج عن الإطلاق. ولو تم كان الاستثناء أوسع كثيراً من المدعى، كما لا يخفى.

ص: 181

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الاستدلال لاستثناء أجزاء نجس العين، ومنه الكافر، بأن مقتضى إطلاق ما تضمن النهي عن الصلاة في ثوب اليهودي والنصراني(1) بطلان الصلاة فيما تنجس من ثيابهما بدمهما، وحيث كان بينه وبين إطلاق العفو عن الدم دون الدرهم عموم من وجه يتعين تساقطهما في الثوب المتنجس بما دون الدرهم من دمهما، والرجوع لإطلاق ما تضمن بطلان الصلاة في دم نجس العين وإن كان دون الدرهم.

لاندفاعه بأن الإطلاقات المذكورة حيث كانت منزلة على ما إذا كان ثوبه نجساً من دون خصوصية لتنجسه بدمه فهي مساوقة لإطلاقات مانعية النجاسة التي لا إشكال في تقديم إطلاقات العفو عن الدم دون الدرهم عليها، لأنها أخص منها، وإلا فالإطلاقات المذكورة كما تشمل الثوب الذي ينجس بدمه، تشمل الثوب الذي ينجس بدم طاهر العين، فلو بني على ما ذكره لزم عدم العفو عنه أيضاً.

هذا وأما الاستدلال لذلك بأن دم نجس العين من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، بناء على ما يأتي من قصور العفو عن دم ما لا يؤكل لحمه. فهو إنما يتم في الكلب والخنزير، دون الكافر بناء على نجاسته، لأن مانعية إجزاء ما لا يؤكل لحمه من الصلاة تقصر عن أجزاء الإنسان.

نعم يبعد جداً مانعية بقية فضلات نجس العين، كلعابه وإن قلّ، وعدم مانعية القليل من دمه وذلك مناسب جداً لقصور دليل العفو عن قليل الدم من دمه. لكنه ليس بأبعد مما التزموا به من عدم التعدي في العفو من الدم للمتنجس به، فضلاً عن المتنجس بغيره. فلاحظ.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما في الوسيلة وعن القطب الراوندي من الاقتصار في الاستثناء على الكلب والخنزير، ونسبه في المعتبر لبعض القميين. فإنه إن ابتنى على مانعية نجاسة ملاقاتهما زائداً على نجاستهما ذاتاً لزم العموم لدم كل نجس العين - كما

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 74 من أبواب النجاسات.

ص: 182

(183)ولا من الميتة (1) ولا من غير مأكول اللحم (2) وإلا فلا يعفى عنه على الأظهر.

نسبه في المختلف لهما - بل لكل دم متنجس زائداً على نجاسته. وإن ابتنى على مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه لزم التعدي لدم جميع ما لا يؤكل لحمه.

هذا وقد استنكر في السرائر استثناء دم الكلب والخنزير. قال: «وهذا خطأ عظيم وزلل فاحش لأن هذا هدم وخرق لإجماع أصحابنا».

لكن ذلك وحده لا يكفي في بطلان القول المذكور، لأن عدم تنبيه الأصحاب لذلك قد يكون بلحاظ أن موضوع العفو عندهم نجاسة الدم من حيث هو دم لا بلحاظ أمر خارج عنه، ككونه من نجس العين، كما قد يكون لغفلتهم عن هذه الجهة مع ندرة الابتلاء بالدماء المذكورة، فلا يمتنع عليهم عادة الخطأ في حكمها. ومن ثم لا مجال للتعويل على الإجماع لو فرض قصور الأدلة عن عموم العفو.

(1) الكلام فيه هو الكلام في نجس العين.

(2) كما عن كشف الغطاء. لعموم أو إطلاق ما تضمن مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه من الصلاة. ولا يعارضه إطلاق أدلة العفو في المقام. لما سبق من أن المنصرف منه العفو استثناءً من عموم مانعية النجاسة، ولا إطلاق له يقتضي العفو من جميع الحيثيات حتى حيثية ما لا يؤكل لحمه. وإلا كان مقتضى إطلاق تلك الأدلة عدم العفو عن الدم الطاهر إذا كان أكثر من الدرهم، ولا يظن من أحد البناء على ذلك.

على أنه لو تم إطلاق أدلة العفو من جميع الحيثيات كان معارضاً لإطلاق أدلة مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه وإن لم يكن الثاني أقوى فلا أقل من تساقطهما والرجوع لعموم مانعية النجاسة. بل من البعيد جداً مانعية فضلاته الطاهرة وإن كانت دون الدرهم وعدم مانعية دمه إذا كان دونه.

وأما ما في الجواهر من أن ملاحظة كلام الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم واقتصارهم في الاستثناء على الدماء الثلاثة أو مع نجس العين على كلام منهم قد

ص: 183

تقدم يشهد لإطلاق أدلة العفو ويوهن عموم أدلة مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه للدم المذكور.

فهو كما ترى! إذ لو كان مراده حجية الإجماع بنفسه ودليليته على العفو عن الدم المذكور. فالظاهر عدم حصول إجماع صالح للاستدلال بعد احتمال كون نظرهم للعفو من حيثية مانعية النجاسة، أو غفلتهم عن الخصوصية المذكورة، مع عدم شيوع الابتلاء بذلك، ليمتنع عادة خطؤهم في حكمه، نظير ما تقدم.

ولو كان مراده صلوح الإجماع المذكور لترجيح عموم أدلة العفو على عموم أدلة مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه وإن لم يكن حجة بنفسه، نظير جبر الشهرة للخبر الضعيف. أشكل بعدم نهوض الإجماع أو الشهرة بجبر الدلالة، وترجيح أحد الإطلاقين على الآخر، وإنما ينهضان بجبر السند، لكشفهما عن إطلاع المشهور على ما يوجب الوثوق بصدور الخبر وإن خفي علينا.

وأضعف منه ما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من قصور أدلة مانعية ما لا يؤكل لحمه عن الدم ونحوه من النجاسات التي هي مانعة حتى لو كانت من مأكول اللحم، لأن الأدلة المذكورة بصدد بيان المانعية من حيثية حرمة الأكل بحيث لو كان الشيء من محلل الأكل لم يكن مانعاً.

إذ فيه: أنه بعد امكان تعدد جهة المنع فلا مانع من شمول الأدلة المذكورة لما هو مانع من حيثية النجاسة. ولاسيما مع اشتمال بعض النصوص المذكورة على البول والروث الذين هما مانعان من حيثية النجاسة(1). على أن ذلك إنما يقتضي قصورها عن الدم إذا كان بقدر الدرهم فما زاد، ولا يقتضي قصورها عما هو أقل من ذلك، لعدم مانعيته إلا من حيثية حرمة أكل اللحم، كما لعله ظاهر. وحينئذ يجري فيه ما سبق من قصور عموم العفو، لتعدد الحيثية، أو معارضته بعموم ما لا يؤكل لحمه، وبعد تساقطهما فالمرجع عموم مانعية النجاسة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من لباس المصلي حديث: 1.

ص: 184

(185) (مسألة 57): لا يلحق بالدم المتنجس به (1).

هذا وقد ذهب في الحدائق إلى عموم مانعية دم الغير إن كان قليلاً، وحكاه عن الاسترابادي معترفاً بانفرادهما بذلك. لمرفوع البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: دمك أنظف من دم غيرك إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس، وإن كان دم غيرك قليلاً أو كثيراً فاغسله»(1) ، مؤيداً بقوله في الفقه الرضوي: «وأروي: ليس دمك مثل دم غيرك»(2).

وهو لو تم يغنيه عما سبق منه من الاستدلال لاستثناء دم نجس العين بانصراف أدلة العفو لأفراد الدم المتعارفة، لأن دم نجس العين من دم الغير. إلا أن يريد من الغير خصوص الإنسان. لكنه مخالف لظاهر المرفوع.

وكيف كان فالحديث ظاهر في طهارة دم الإنسان في حق نفسه إذا كان قليلاً، لا في انحصار العفو به مع نجاسته كما هو المدعى. على أن ضعفه مانع من التعويل عليه بعد عدم انجباره بالعمل، بل ظهور الإعراض عنه، بل الإجماع على خلافه بنحو يبعد جداً خطؤه في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء.

مع أنه لا يناسب ما تقدم في حديث أبي بصير من استثناء دم الحيض في الخطاب الموجه للراوي، لأنه من دم الغير بالإضافة له، فلولا عموم العفو لدم الغير لم يحسن الاستثناء المذكور. ومن ثم يتعين طرح المرفوع، أو حمله على الاستحباب.

(1) كما في المنتهى، وعليه جرى في العروة الوثقى وجملة من حواشيها. وهو المناسب لما يأتي في المسألة التاسعة والخمسين من الحدائق والبيان. اقتصاراً في الخروج عن عموم مانعية النجاسة على مورد النصوص، وهو الدم.

خلافاً للجواهر ويناسبه ما يأتي في المسألة المذكورة من المدارك وعن الذكرى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) الرضوي ص: 6.

ص: 185

(186) (مسألة 58): إذا تفشى الدم من أحد الجانبين إلى الآخر فهو دم واحد (1). نعم إذا كان قد تفشى من مثل الظهارة إلى البطانة فهو دم

والمعالم. وقد يستدل عليه تارة: بالأولوية المستفادة من عدم زيادة الفرع على الأصل. وأخرى: بأن معنى نجاسة المتنجس بالملاقاة انتقال أحكام النجس إليه، لا غيرها. وثالثة: بمناسبته للتخفيف الذي هو المنشأ للعفو في المقام. ورابعة: بالشك في تناول أدلة المانعية لمثله.

ويندفع الأول بأن الأولوية لما كانت مبنية على عدم زيادة الفرع على أصله فهي ليست قطعية، لعدم القطع بمبناها، والأولوية الظنية ليست بحجة.

والثاني بأن معنى نجاسة المتنجس انتقال النجاسة له مما لاقاه، لا كونه بأحكامه، ولذا لا نلتزم بوجوب التعدد في التطهير من المتنجس بالبول مثلاً.

والثالث بأن مناسبة التخفيف لا تنهض بالاستدلال ما لم تكن يقينية، ولا مجال لذلك بعد قصور دليل التخفيف والعفو عن غير الدم.

والرابع بأنه لا يشك في تناول عموم أدلة المانعية لمثله، ولذا لا إشكال في مانعيته لو لم يرد العفو عن الدم في المقام، وإنما المنشأ لاحتمال العفو فيه هو دليل العفو عن الدم بضميمة بعض الوجوه المتقدمة أو نحوها، فمع عدم تماميتها يتعين الرجوع لعموم أدلة المانعية.

(1) كما في المدارك، بل قيل: إنه الأشهر. وقد يرجع إليه ما في جامع المقاصد والمسالك والروض وظاهر المنتهى ونهاية الأحكام من أنه إذا أصاب الدم وجهي الثوب معاً فإن تفشى من أحدهما للآخر فهو دم واحد. وفي الذكرى وعن البيان التفصيل بين الرقيق والصفيق، وأنه واحد في الرقيق متعدد في الصفيق.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في اتحاد الدم مع اتصال ما في أحد وجهي الثوب بالآخر، وعدم فصل العدم بينهما، فإن ذلك هو المعيار في وحدة الوجود عرفاً

ص: 186

متعدد (1)، فيلحظ التقدير المذكور على فرض اجتماعه، فإن لم يبلغ المجموع سعة الدرهم عفي عنه، وإلا فلا.

وعقلاً.

ودعوى: أن المعيار في التقدير ليس على وحدة الدم، بل على وحدة السطح الظاهر، ومع التفشي يكون للدم سطحان ظاهران، فتلحظ سعة كل منهما وتضم للأخرى.

مدفوعة بأن معيار التقدير وإن كان هو السعة إلا أن موضوعه هو الدم لا السطح، فمع وحدة الدم يتعين ملاحظة سعة واحدة وإن تعدد سطحه. على أنه لا منشأ لملاحظة ظهور السطح، بل إن كان المعيار على الدم تعين وحدته كما ذكرنا. وإن كان المعيار على السطح تعين البناء على تعدد السعة لتعدد السطح مع عدم ظهور أحد السطحين، لعدم تفشي الدم. وحيث لا يمكن البناء على ذلك تعين الأول. من دون فرق في ذلك بين الثوب الصفيق والرقيق.

ومن ذلك يظهر أنه لو فرض إصابة الدم لوجهي الثوب المتحاذيين معاً تعين التفصيل بين اتصال الدميين من الداخل وعدمه، فيحكم بتعدد الدم مع الانفصال ووحدته مع الاتصال، كما لو وضع على الدم دم آخر من دون أن تتسع المساحة. ولعله إليه يرجع ما تقدم من جامع المقاصد والروض والمسالك وظاهر المنتهى.

نعم إذا لم يكن الاتصال بين تمام السطحين، بل بين بعضهما، فالدم وإن كان واحداً، إلا أن مساحته تتسع بلحاظ موضع الانفصال.

(1) مما تقدم يظهر التفصيل في ذلك أيضاً بين ما إذا اتصل الدم بعضه ببعض في طبقات الثوب لتلاصقها ولو بسبب الدم، وما إذا لم يتصل، لانفصال الطبقات بعضها عن بعض، فيحكم بالإتحاد في الأول والتعدد في الثاني.

ص: 187

(188) (مسألة 59): إذا اختلط الدم بغيره من قيح أو ماء أو غيرهما لم

يعف عنه (1).

(1) كما في الحدائق وعن البيان، ويناسبه ما سبق في المسألة السابعة والخمسين من المنتهى. اقتصاراً في الخروج عن عموم مانعية النجاسة على مورد النصوص، وهو الدم. خلافاً لما في المدارك وعن الذكرى والمعالم وقواه في الجواهر لما تقدم في المسألة السابعة والخمسين من دعوى الأولوية وغيرها مما قد سبق ضعفه. بل قد يظهر من الذكرى العفو عما يختلط بالدم وإن زاد على الدرهم. وهو أشد ضعفاً.

نعم قد يستفاد من صحيح الحلبي - المتقدم في آخر الكلام في الدم المتفرق - المتضمن للنضح بالماء، عدم ارتفاع العفو بإصابة الماء الطاهر للثوب بعد إصابة الدم له وإن زاد المجموع منه ومن الدم عن مقدار الدرهم، فضلاً عما إذا لم يزد عليه، بناء على ما سبق من أن الصحيح المذكور لا يدل على طهارة الدم القليل، ليتعين طرحه بعد مخالفته للنص والفتوى بنجاسة الدم مطلقاً.

لكنه لو تم يتعين الاقتصار فيه على مورده، وهو الماء الطاهر الذي يصيب الثوب بعد إصابة الدم له دون غيره. على أنه تقدم الإشكال في عموم النضح في الصحيح للدم، بل قد يختص بدم البراغيث. فراجع.

هذا وقد تردد في العروة الوثقى في المسألة. لكنه استثنى صورة ما إذا لم تتعد الرطوبة عن موضع الدم فحكم بالعفو. ويظهر منه أن الوجه في ذلك عدم كون الرطوبة منجسة للموضع الذي أصابته، لتنجسه بالدم قبل ذلك. وقد أقره على ذلك غير واحد منهم سيدنا المصنف (قدس سره)، إلا أنه استشكل في العفو بأن الثوب وإن لم يتنجس بالرطوبة المذكورة، إلا أن الصلاة بها صلاة في النجس.

وفيه - مع عدم صدقه في فرض جفاف الرطوبة حين الصلاة، وعدم بقاء شيء مما كان متنجساً بالدم في الثوب -: أن المراد بالنجس إن كان هو الثوب فالمفروض

ص: 188

العفو عنه بعد كون تنجسه بالدم الأقل من الدرهم لا بغيره. وإن كان هو الرطوبة فالمراد بالصلاة فيها كونها محمولة في الصلاة، ولا إشكال في عدم مانعية المحمول المتنجس إذا لم تتم به الصلاة.

نعم لم يتضح الوجه في مبنى الحكم، وهو عدم تنجس الموضع بالرطوبة المذكورة. فإنه إن ابتنى على عدم تنجس المتنجس ثانياً. فهو ممنوع جداً بعد إطلاق أدلة الانفعال وعمومه ارتكازاً، بل لا يناسب اقتصارهم في محل الكلام على الرطوبة المتنجسة بالدم الموجود، دون المتنجسة بغيره، فضلاً عن النجسة، كالبول.

وإن ابتنى على ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم تنجس المتنجس بما تنجس بمنجسه، فالرطوبة بعد أن كانت متنجسة بالدم الذي نجس الثرب لم تكن منجسة للثوب ثانياً. فهو غير ظاهر المأخذ بعد إطلاقات أدلة الانفعال، أو إلغاء خصوصية مواردها عرفاً.

نعم قد يغفل عرفاً عن تنجس المتنجس، لغلبة عدم الأثر للنجاسة الثانية، وخصوصاً بما تنجس به، لارتكاز كون نجاسته أخف من نجاسة ما نجسه.

لكن لا مجال لذلك في فرض اختصاص النجاسة الثانية ببعض الأحكام، كما في المقام، حيث يعفى عن نجاسة الدم ولا يعفى عن نجاسة المتنجس به. ومن ثم كان الاستثناء في غير محله.

نعم لا يبعد العفو عن مثل العرق مما يكثر الابتلاء به ويغفل عنه، حيث لا يبعد أن يستفاد العفو عنه حينئذ من النصوص بإطلاقها المقامي. فلاحظ.

بقي في المقام فرع أهمله هنا سيدنا المصنف (قدس سره) وهو أنه إذا زال الدم بعينه عن الثوب أو البدن - لو قلنا بعموم العفو له - بحكّ أو نحوه فهل يبقى العفو أولاً؟ حكم بالأول في نهاية الأحكام والمدارك والعروة الوثقى وبعض حواشيها وشروحها ومحكي شرح الموجز. وقد يستدل له تارة: بالاستصحاب. وأخرى: بالأولوية، لخفة النجاسة بزوال العين.

ص: 189

لكن المراد بالاستصحاب إن كان هو استصحاب صحة الصلاة به، فهو - مع كونه تعليقاً - لا يجري في نفسه، لعدم كون الصحة حكماً مجعولاً، بل هي منتزعة من الأمر بالصلاة المقيدة بعدم النجاسة بما عدا ما دون الدرهم من الدم. ومثله استصحاب جواز الصلاة، إذ لا يراد به الجواز التكليفي، بل الوضعي الراجع لصحة الصلاة بالثوب.

وأما استصحاب عدم مانعية النجاسة الموجودة في الثوب فإنه وإن كان منجزاً إلا أن عدم المانعية ليس حكماً مجعولاً، بل منتزعاً، كالصحة، على ما تقدم.

وأما الأولوية بلحاظ خفة النجاسة، فهي لا تخلو عن إشكال، لأن المانع حيث كان هو نجاسة الثوب، فهي لا تخف بزوال عين النجاسة. غاية الأمر أن يتخلص به من حمل عين النجاسة، وهو ليس محذوراً في الصلاة، ليكون ارتفاعه موجباً للأولوية. وحيث كان الحكم تعبدياً مخالفاً للقاعدة، فقد يكون التخفيف امتنانياً مختصاً بمورده بلحاظ شيوع الابتلاء به، ويقصر محل الكلام، لندرة الابتلاء به.

هذا وقد استدل بعض مشايخنا (قدس سره) بصحيح ابن أبي يعفور المتقدم: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى فيصلي... قال (عليه السلام): يغسله، ولا يعيد صلاته»(1). بدعوى: أن المفروض فيه حيث كان هو وجود الدم قبل الصلاة بمدة، فمقتضى ترك الاستفصال فيه عدم الفرق في العفو بين وجود الدم حين الصلاة وزواله حينها. وبذلك يمتاز الصحيح المذكور عن غيره من نصوص المسألة.

وفيه: أن موضوع السؤال في الصحيح حيث كان هو الثوب الذي فيه نقط دم فالظاهر من فرض الصلاة فيه هو الصلاة فيه حال وجود الدم فيه، ولا يعم الصلاة فيه حال زوال الدم عنه. نعم لو كان لسان السؤال فيه هكذا: «الثوب يصيبه الدم لا يعلم به...» كان لدعوى عمومه وجه. على أنه بعيد جداً بلحاظ احتياج زوال الدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 190

(191) (مسألة 60): إذا تردد قدر الدم بين المعفو عنه والأكثر بنى على العفو (1)

عن الثوب إلى عناية فينصرف عنه الإطلاق.

ومثله دعوى: أن العفو لما كان عن نجاسة الدم استثناء من عموم مانعية النجاسة فلا أثر لزوال عين الدم مع بقاء نجاسته في العفو. لاندفاعها بأن عموم العفو عن النجاسة وخصوصه تابع لعموم دليله وخصوصه، فإذا كان الدليل مختصاً بحال وجود الدم تعين الاقتصار عليه.

نعم قد يكون الوجه المذكور سبباً في فهم العرف عدم الخصوصية لحال وجود الدم، بل لا إشكال في غفلتهم عن شرطية وجود عين الدم في العفو، لكون العفو حال عدمه أولى عرفاً، بحيث يفهم من الأدلة تبعاً، وإن لم يكن أولى حقيقة، لما سبق. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في عموم العفو. فلاحظ.

(1) كما قواه بعض الأعاظم (قدس سره) في حاشيته على العروة الوثقى. وقد استدل له سيدنا المصنف (قدس سره) - بعد امتناع الرجوع لعموم مانعية النجاسة أو الدم، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص، والتحقيق امتناعه - بأصالة البراءة من مانعية المشكوك، كما جرى على ذلك هو وبعض الأعاظم (قدس سره) في نظائر المقام - كالشك في كون اللباس مما يؤكل لحمه - لأنه حيث كانت المانعية انحلالية، فكل فرد مانع مستقل، ومع الشك في فردية فرد للمانع يشك في مانعيته، والأصل

البراءة منها.

وفيه: أنه حيث لم تكن المانعية مجعولة، بل منتزعة التكليف بالمقيد بعدم المانع - كالصلاة المقيدة بعدم نجاسة ماعدا ما نقص عن مقدار الدرهم من الدم - فلابد من إحراز امتثال التكليف المذكور بالإتيان بالمقيد المذكور، خروجاً عن مقتضى التكليف اليقيني، ودليل البراءة لا ينهض بإحرازه، وليس الشك في سعة التكليف، لعدم الإجمال في حدوده. وتمام الكلام في الأصول، حيث أفضنا الكلام في ذلك في التنبيه

ص: 191

الثاني من تنبيهات المقام الأول من مبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين من كتاب (المحكم في الأصول).

ومثله ما يظهر من الجواهر من التمسك في أمثال المقام باستصحاب بقاء الثوب على صحة الصلاة به. حيث يظهر مما تقدم أن صحة الصلاة بالثوب ليست مجعولة بنفسها، لتستصحب، بل منتزعة من تقييد الصلاة بعدم نجاسة الثوب بالوجه الخاص، فلابد من إحراز الامتثال بالإتيان بالصلاة المقيدة بذلك، والاستصحاب المذكور لا يحرز ذلك، إلا بناء على الأصل المثبت.

هذا وأما استصحاب عدم كون الدم بقدر الدرهم، فهو مبني على أن موضوع التقدير هو الدم بذاته، وكونه بقدر الدرهم عبارة عن حالة طارئة عليه بعد إصابته للثوب، أو أن موضوع التقدير هو سطح الدم الحاصل على الثوب، الذي لا وجود له قبل إصابة الثوب.

فعلى الأول يتعين جريان الاستصحاب المذكور من دون أن يبتني على استصحاب العدم الأزلي، لوضوح أن صيرورة الدم في الثوب بقدر الدرهم ليس لازماً لذات الدم ولا لوجوده، بل هو لو حصل له متأخر عن وجوده مسبوق بالعدم بلحاظ حال ما قبل إصابة الدم للثوب، فإن الدم حينئذ لم يكن في الثوب بقدر الدرهم، فيمكن استصحاب ذلك له بعد إصابته للثوب. بل قد يقطع بعدم كونه بقدر الدرهم حتى في أول زمان إصابته للثوب، كما إذا كان الدم قليلاً يعلم بأنه في أول زمان إصابته للثوب كان دون الدرهم، وإنما يحتمل بلوغه قدر الدرهم بعد ذلك بسبب تفشيه فيه وانبساطه، فيمكن بلحاظ الزمان المذكور استصحاب عدم بلوغه الدرهم. بل يمكن حتى استصحاب كونه دون الدرهم، كما لعله ظاهر.

أما على الثاني فلا مجال لجريان الاستصحاب المذكور حتى بناء على جريان استصحاب العدم الأزلي، لأن سعة السطح الخاص مقومة لذاته غير منفكة عنه بلحاظ حال ما قبل وجوده، كما هو الحال في جميع المقادير والكميات، فإنها وإن لم

ص: 192

تكن مقومة لماهية ذي الكم الخاص إلا أنها مقومة لذاته بخصوصيته، لانتزاعها من الأجزاء بذواتها، فكما لا ينفك ذو الكم عن ذاته حتى قبل وجوده، ولا تنفك أجزاؤه عن ذواتها حتى قبل وجودها، كذلك لا ينفك ذو الكم عن الكم الثابت له حتى قبل وجوده، لأنه منتزع منه ومن أجزائه بذواتها، فالرجال العشرة لا ينفكون عن كونهم عشرة حتى قبل وجودهم، والمتر من القماش لا ينفك عن كونه بقدر المتر حتى قبل وجوده، وهكذا جميع الكميات. والى هذا يرجع ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام. وقد تقدم في مسألة الشك في كرية الماء ما ينفع هنا، لأن المقامين من باب واحد.

هذا ولا يبعد ظهور النصوص في الثاني، لأن التقدير وإن نسب للدم فيها لفظاً، إلا أنه حيث لا يتقدر الدم بالسعة، بل بالحجم ذي الأبعاد الثلاثة، فالظاهر رجوع التقدير للسطح الخاص المنبسط على الثوب لا غير، لأنه القابل للتقدير المذكور.

نعم لو كان التعبير هكذا: «ما لم يصر بسعة الدرهم» لكان ظاهراً في الأول. ومن ثم يشكل جريان استصحاب عدم كون الدم بقدر الدرهم. وإن كان لابد من التأمل التام في المقام.

نعم الظاهر جريان أصل الطهارة في المقام، لأن المناسبات الارتكازية قاضية بأن التقدير بسعة الدرهم لا يراد منه إلا بيان مقدار النجاسة الحاصلة بالدم التي يعفى عنها في الثوب استثناء من عموم مانعية النجاسة، ومن الظاهر أن مقتضى أصل الطهارة الاقتصار في البناء على النجاسة على المتيقن، وهو الموضع القليل من الثوب الذي لا يبلغ الدرهم.

فكما ينهض الأصل المذكور بإحراز جواز الصلاة في الثوب عند الشك في إصابته بالدم أو غيره من النجاسات رأساً، ينهض بإحراز جوازها عند الشك في كمية نجاسته بعد العلم بأصلها إذا احتمل كونها أكثر من المعفو عنه، سواء كان ذلك الشك في سعة الإصابة الواحدة، أم للعلم بإصابة قليلة، والشك في إصابة أخرى إذا ضمت إليها يكون المجموع أكثر من درهم. لأن مقتضى الأصل المذكور في المقدار

ص: 193

الزائد من الثوب.

بل حيث سبق أن الظاهر مانعية النجاسة، لا شرطية الطهارة، فالظاهر جريان استصحاب عدم وقوع الصلاة المأتي بها بالنجاسة بالمقدار الزائد على المعفو عنه، وهو ما يبلغ الدرهم من الدم، بناء على ما هو التحقيق من جريان استصحاب العدم الأزلي. فلاحظ.

هذا ولو تردد الدم مع كونه دون الدرهم بين المعفو عنه وغيره، كدم الحيض ودم ما لا يؤكل لحمه فالأقرب العفو، كما في الدروس والعروة الوثقى وجملة من شرحها وحواشيها وعن الموجز وشرحه وغيرها. قال سيدنا المصنف (قدس سره): «بل قيل: إن عليه بناء الفقهاء».

لا لعموم العفو عن الدم دون الدرهم، لعدم حجية العام في الشبهة المصداقية، كما هو المشهور المنصور في الشبهة المصداقية، ولا لأصالة البراة من المانعية، لما سبق من عدم كون المانعية محصولة، ولا لاستصحاب جواز الصلاة في الثوب، إذ لا يراد به الجواز التكليفي، بل الوضعي الراجع لصحة الصلاة به وهي غير مجعولة كما سبق في تعقيب ما ذكره في الجواهر.

بل المرجع مع احتمال كونه دم الحيض أو نحوه استصحاب عدم كون الدم من الدم الخاص. وهو لا يبتني على استصحاب العدم الأزلي. لأن خصوصية دم الحيض تابعة لمنبع الدم، لا من لوازم ذاته، فالدم في البدن ليس دم حيض ولا دم رعاف ولا دم جرح ولا غير ذلك، فإذا خرج منه ثبتت له إحدى الخصوصيات باختلاف منبعه. ولو فرض ابتناؤه على استصحاب العدم الأزلي فالتحقيق جريانه، على ما أوضحناه في الأصول.

وأما مع احتمال كونه دم ما لا يؤكل لحمه، فالمرجع هو استصحاب عدم حمل اجزاء ما لا يؤكل لحمه إلى حال الصلاة، حيث يحرز به فقد الصلاة للمانع المذكور. فلاحظ.

ص: 194

(195) (195) ولم يجب الاختبار (1) وإذا انكشف بعد الصلاة أنه أكثر لم تجب الإعادة (2).

(مسألة 61): الأحوط استحباباً الاقتصار في مقدار الدرهم على ما يساوي عقد السبابة. وإن كان الأقوى كون مقداره ما يقرب من أخمص الراحة (3)، وهو ما انخفض منها الذي لا يمس الأرض عند وضعها عليها.

(1) لعدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية. هذا وقد احتاط بعض الأعاظم (قدس سره) هنا بالاختبار مع تيسره. وقد تقدم في المسألة الخامسة عشرة من الفصل الأول في عدد النجاسات ما ينفع في المقام.

(2) يقتضيه - مضافاً إلى عموم: «لا تعاد الصلاة...» - أن نصوص عدم الإعادة مع الجهل بالنجاسة وإن اختصت لفظاً بصورة الجهل بأصل النجاسة، لا بكونها معفواً عنها، إلا أن مناسبة الحكم والموضوع قاضية بأن منشأ العفو معذرية الجهل بالنجاسة من حيثية مانعيتها لا بذاتها، وذلك يقتضي عموم العفو للمقام، لفرض الجهل فيه بالنجاسة المانعة.

بل حيث تضمنت بعض نصوص المقام اشتراط الإعادة في الكثير برؤيته، فالظاهر منها أن الشرط الرؤية الموجبة للعلم بكونه دماً كثيراً الذي هو موضوع المانعية. وبذلك يخرج عن إطلاق ما دل على وجوب الإعادة مع سبق العلم بالنجاسة.

بل الإنصاف قصور الإطلاق المذكور بدواً عن محل الكلام، وانصرافه لما إذا كانت النجاسة المعلومة مانعة من الصلاة، بحيث يكون سبب الصلاة معها نسيانها، دون ما إذا لم تكن مانعة، بحيث يصلي المكلف معها حتى مع تذكرها وعدم نسيانها.

(3) حيث تقدم منه (قدس سره) ومن الأصحاب أن المراد بالدرهم هو البغلي فقد ادعى ابن إدريس أنه شاهد واحداً منه فكانت سعته تقرب من سعة أخمص الراحة، وقد جرى على التحديد بذلك غير واحد. بل ذكروا أنه بقدر أخمص الراحة، كما نسب إلى أكثر الأصحاب.

ص: 195

لكن الاكتفاء بشهادة ابن إدريس لإثبات ذلك غير خالية عن الإشكال، لابتنائها على تشخيص الدرهم البغلي بما رآه أولاً، وعلى تقديره بما ذكره ثانياً. والأول مبني على الاجتهاد منه، حيث إنه بعد أن ذكر التحديد بالدرهم الوافي، وأنه قد يسمى بالبغلي قال: «وهو منسوب إلى مدينة قديمة يقال لها: بغل، قريبة من بابل، بينها وبينها قريب من فرسخ، متصلة ببلدة الجامعين، تجد فيها الحفرة والنباشون دراهم واسعة، شاهدت درهماً من تلك الدراهم. وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام المعتاد، يقرب سعته عن سعة أخمص الراحة». وما ذكره في أصل التسمية قد خالفه فيه غيره.

وأما الثاني فهو مبني على التقريب والتسامح، فإن ضبط سعة أخمص الراحة من أشكل الأمور، إذ لو أريد به ما لا يمس الأرض عند مجرد مس الكف لها كان كبيراً جداً، وإن أريد به ما لا يمسها عند اعتماد الكف على الأرض كان صغيراً جداً، وبينهما مراتب. كما أن سعة أخمص الراحة تختلف باختلاف الأشخاص اختلافاً فاحشاً.

بل قد تختلف الدراهم المضروبة أيضاً، لعدم دقة تحديد آلات صب الدراهم. ومجرد مقاربة الدرهم الذي رآه لأخمص راحته، حسب نظره، وكيفية اختباره، لا يكفي في إطلاق التحديد.

على أنه سبق منا الإشكال في التحديد بالدرهم البغلي، وأن مقتضى إطلاق النصوص المقامي التحديد بالدرهم الإسلامي.

نعم لا إشكال في اختلاف الدراهم الإسلامية في السعة حسبما عثرنا عليه منها، ويناسبه تعدد مراكز ضربها. وحينئذ ينبغي الاقتصار على الأقل، إذ بعد الإرجاع إليها على اختلافها، وعدم وضوح وجود فرد شايع ينصرف الإطلاق إليه، لا يصدق على ما يساوي الأقل أنه دون الدرهم. ولا أقل من كون ذلك مقتضى الاقتصار في الخروج عن عموم مانعية النجاسة على المتيقن.

وقد عثرنا على مجموعة من الدراهم يتراوح قطرها بين السنتمترين وثمانية

ص: 196

(197) (الثالث): الملبوس الذي لا تتم به الصلاة وحده (1)، كالخف والجورب والتكة والقلنسوة والخاتم والخلخال والسوار (2) ونحوها،

ملمترات ونصف، والسنتمترين وخمسة ملمترات ونصف وربما كان هناك ما ينقص عنها قليلاً، فاللازم الاحتياط بمراعاته.

(1) بلا خلاف محقق أجده فيه، كما اعترف به غير واحد. كذا في الجواهر. وأدعي الإجماع عليه في الانتصار والخلاف والسرائر وظاهر التذكرة وعن غيرها.

ويشهد له موثق زرارة أو صحيحه عن أحدهما (عليه السلام): «قال: كل ما كان لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشيء، مثل القلنسوة والتكة والجورب»(1). ونحوه مرسل إبراهيم بن أبي البلاد عنه(2) (عليه السلام) وفي مرسل عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام):

«كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلي فيه وإن كان فيه قذر مثل القلنسوة والتكة والكمرة والنعل والخفين وما أشبه ذلك»(3). وقريب منه مرسل حماد بن عثمان عنه(4) (عليه السلام).

واقتصر في المراسم على القلنسوة والجورب والتكة والخف والنعل. وحكي ذلك عن القطب الراوندي وأبي الصلاح. فإن كان مرادهم التمثيل بها فلا خلاف، وإن كان مرادهم الحصر بها كان ما سبق حجة عليهم.

(2) فإنهما وإن لم يكونا من سنخ الساتر إلا أن مقتضى عموم الكبرى المتقدمة عموم العفو لهما. والتمثيل بالثلاثة المتقدمة لا ينهض بتقييدها. على أن المراد بكون الشيء من سنخ الساتر إن كان هو كونه مسنوجاً - بناء على اشتراط ذلك في الساتر في الصلاة - فالخفّ والنعل المصرح بهما في بعض النصوص ليسا منه. اللهم إلا أن يستشكل في النصوص المشتملة عليهما بضعف السند. فالعمدة ما ذكرناه أولاً.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 1، 4.

(3و4) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 5، 2.

ص: 197

فإنه معفو عنه في الصلاة إذا كان متنجساً ولو بنجاسة من غير المأكول (1).

هذا وقد يخصص العفو بالملبوس، بل بخصوص ما كان منه في محله المعد له، فلا يعفى عن الجوراب مثلاً لو لبس في الكف. والتخصيص بالملبوس يبتني على ما يأتي في المحمول. وأما التخصيص بخصوص ما كان منه في محله فهو خال عن الشاهد. ودعوى الانصراف لذلك غير مسموعة.

(1) لإطلاق النصوص المتقدمة. اللهم إلا أن يقال: النصوص المتقدمة إما مختصة بحيثية النجاسة - كمرسل عبد الله بن سنان المتقدم وغيره - أو منصرفة إليها، كحديث زرارة المتقدم، حيث تضمن جواز الصلاة في ما لا يتم به الصلاة إذا كان عليه الشيء، وظاهره استثناء ذلك مما تضمن النهي عن الصلاة فيما تصيبه النجاسة، لا مما تضمن النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه، لأن موضوع النهي هناك نفس أجزاء ما لا يؤكل لحمه، لا ما تصيبه من الثياب وغيرها.

وبعبارة أخرى: الصلاة في المقام واجدة لحيثيتين الأولى: قائمة بما لا تتم به الصلاة كالقلنسوة والجورب. الثانية: قائمة بنفس الشيء الذي يحمله الأمر الذي لا تتم به الصلاة وهو جزء ما لا يؤكل لحمه. ونصوص المقام إنما تضمنت العفو عن الجهة الأولى دون الثانية.

بل يبعد جداً العفو عن النجاسة من غير المأكول فيما لا تتم به الصلاة مع عدم العفو عن غير النجس من أجزائه، بل حتى عن غير المنجس وإن كان نجساً، كالدم اليابس العالق بالقلنسوة من دون أن ينجسها، فإن مقتضى عموم أدلة مانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه مانعيته وإن كان فيما لا تتم به الصلاة.

لكن في الجواهر قرب أن مقتضى إطلاق النصوص والفتاوى عدم الفرق. وأنه حينئذ يتعين البناء على العفو عن الأجزاء غير النجسة إذا كانت فيما لا تتم به الصلاة بمفهوم الموافقة.

ص: 198

(199) نعم لا يعفى عنه إذا كان متخذاً من نجس العين (1).

ولعل مراده بمفهوم الموافقة الأولوية القطعية. وإلا فمفهوم الموافقة مبني على ظهور الكلام في ثبوت الحكم في مورد المفهوم بسبب وضوح أولويته عند العرف، ولذا عدّ من الظهورات، ولا يظن به (قدس سره) الالتزام بذلك في المقام.

وكيف كان فلا مجال للتعويل على إطلاق النصوص بعد ما سبق، ولا على إطلاق الفتاوى بعد استثنائهم ما نحن فيه من عموم مانعية النجاسة، حيث يصعب معه البناء على عموم فتاواهم للعفو من جهة أخرى. ولعل عدم استثنائهم نجاسة ما لا يوكل لحمله لغفلتهم عن ذلك، لا لبنائهم على العموم.

كما أن جعل إطلاق نصوص المقام - لو تم - منشأ للبناء على العفو عن الأجزاء غير النجسة، بضميمة الأولوية أو مفهوم الموافقة، ليس بأولى من جعل عموم مانعية ما لا يؤكل لحمه للأجزاء الطاهرة منشأ للبناء على عدم العفو في المقام، حملاً لإطلاق دليل العفو على غير نجاسة ما لا يؤكل لحمه، بضميمة الأولوية أو مفهوم الموافقة المذكورين. فلاحظ.

(1) لاختصاص نصوص المقام بالمتنجس، كما يظهر بملاحظتها. فلا مخرج عن عموم مانعية النجاسة. ولخصوص ما تضمن النهي عن الصلاة في الميتة، كصحيح ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الميتة: «قال: لا تصل في شيء منه ولا شسع»(1) ، وما تضمن النهي عن الصلاة في الخفّ إذا كان ميتة وفي السيف إذا كان فيه الميتة(2).

نعم في موثق الحلبي - بناء على ما سبق في مبحث الماء المستعمل من وثاقة أحمد بن هلال - عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 1 من أبواب لباس المصلي حديث: 2.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات.

ص: 199

بالصلاة فيه، مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخفّ والزنار(1) يكون في السراويل ويصلى فيه»(2). ومقتضاه إطلاق جواز الصلاة فيما لا تتم الصلاة به وإن كان من الميتة - كالخفّ - أو من الإبريسم أو غيرهما من موانع الصلاة.

وفي صحيح إسماعيل ابن الفضل: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلين. فقال: أما النعال والخفاف فلا بأس بهما»(3). وهو ظاهر في أن السؤال من حيثية عدم التذكية، لعدم إحرازها، أو للعلم بعدمها فيما لم يكن من بلاد الإسلام، لا من حيثية النجاسة العرضية، لعدم اختصاص النجاسة العرضية بالأمور المذكورة في السؤال، وعدم إطلاق المانعية بسببها، بل تختص بحال عدم التطهير. وحيث لا يحتمل الفرق بين الخفاف والنعال وبقية الجلود الملبوسة في السؤال في إحراز التذكية تعين ابتناء الفرق بينهما وبينها على جواز الصلاة في الميتة إذا كانت مما لا تتم به الصلاة.

لكن الأول لا يخلو عن إجمال، لأنه وإن كان ظاهراً في خصوصية ما لا تتم الصلاة فيه في ارتفاع المانعية من الصلاة إلا أن جهة المانعية غير مبينة فيه، وعدم التعرض لها قد يكون ظاهراً في العموم لو لم تقيد التكة فيها بالابريسم. أما مع تقييدها بذلك فقد يكون ظاهراً في إرادة المانعية من جهته لا غير في جميع الأمثلة حتى الخف الذي قد يتخذه بعض المترفين من الابريسم، ولو بأن يكون وجهه الظاهر منه. ولا أقل من كون المتيقن منه ذلك بنحو يمنع من ظهوره في العموم. على أنه لو فرض ظهوره في العموم فهو من سنخ المطلق القابل للتقييد بغير الميتة، بقرينة النصوص السابقة.

وأما الثاني فقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن جواز الصلاة فيه قد يكون للشك

********

(1) الزنار: ما يشد به الوسط.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 14 من أبواب لباس المصلي حديث: 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 200

في تذكيته، حيث إن استصحاب عدم التذكية وإن أحرز عدم التذكية، إلا أنه لا يحرز أنه ميتة، وما دل على اعتبار التذكية إنما دل عليه فيما تتم به الصلاة، أما فيما لا تتم به الصلاة فإنما دل الدليل مانعية الميتة لا غير.

وهو مبني على ما سبق منه في المسألة السابعة من الفصل السابق من أن الميتة عنوان وجودي لا يكفي في إحرازه استصحاب عدم التذكية. وقد سبق منا المنع من ذلك.

على أنه يمكن استفادة اعتبار التذكية في ما لا تتم به الصلاة من بعض النصوص كصحيح البزنطي عن الرضا (عليه السلام): «سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهولا يدري، أيصلي فيه؟ قال: نعم»(1) ونحوه خبر الحسن بن الجهم(2). لظهورهما في مفروغية السائل عن اعتبار التذكية في جواز الصلاة في الخف.

مضافاً إلى أن أدلة العفو فيما لا يؤكل لحمه ظاهرة في الاستثناء من عموم المانعية أو الشرطية الذي هو المرجع في غيره، فإذا كانت الميتة مانعة في غيره لم تكن مانعة فيه، وإذا كانت التذكية شرطاً في غيره لم تكن شرطاً فيه. واحتمال استثنائه من شرطية التذكية وثبوت مانعية الميتة فيه بعيد جداً بعد كون الفرق بينهما - لو تم - مفهومياً لا مصداقياً.

ومن هنا كان الظاهر اتحاد مورد الصحيح مع مورد النصوص السابقة. وحملها لأجله على الكراهة بعيد جداً مع كثرتها، وكون المنساق منها ابتناء المنع فيما لا تتم به الصلاة على عموم مانعية الميتة في الصلاة المبنية على الإلزام. بل هو كالصريح من صحيح ابن أبي عمير المتقدم.

ومثله حمله لأجلها على كون منشأ السؤال فيه هو العلم بالنجاسة العرضية. فإنه - مع بعده عن ظاهر النصوص، لما سبق - لا يناسب المورد، حيث يبعد جداً إحراز التذكية في الجلود المصنوعة في غير بلاد الإسلام، خصوصاً في تلك الأيام.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 6، 9.

ص: 201

(202) (مسألة 62): الأحوط وجوباً عدم العفو عن المحمول المتخذ من نجس العين (1)،

ولا أقل من تساقط كلتا الطائفتين بالمعارضة، والرجوع لعموم مانعية

النجاسة. فلاحظ.

(1) ففي المبسوط والسرائر وجواهر القاضي والجامع والمختلف ونهاية الأحكام وعن الإصباح والموجز وظاهر البيان أنه لو حمل قارورة مشدودة الرأس فيها نجاسة فسدت الصلاة.

وقد يستدل لهم بصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الرجل يمرّ بالمكان فيه العذرة، فتهب الريح فتسفي عليه من العذرة فيصيب ثوبه ورأسه يصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال: نعم ينفضه ويصلي فيه، فلا بأس»(1) بدعوى: ظهوره في وجوب نفض العذرة عن الثوب وإن لم تنجسه. وصحيحه الآخر: «سألته عن الرجل يصلي ومعه دبة من جلد الحمار أو بغل قال: لا يصلح أن يصلي وهو معه، إلا أن يتخوف عليها ذهابها فلا بأس أن يصلي وهي معه»(2). وقريب منه صحيحه الآخر(3) ، أو هو عينه.

وصحيح الحميري: «كتبت إليه يعني أبا محمد (عليه السلام): يجوز للرجل أن يصلي ومعه فارة المسك؟ فكتب: لا بأس به إذا كان ذكياً»(4).

لكن ذكر النفض في الأول لما لم يرد ابتداءً، بل لبيان عدم وجوب الغسل أشكل ظهوره في الوجوب، بل لعله لأجل التخلص من القذر الذي يهتم به الإنسان، خصوصاً المتدين الذي يهتم بطهارة بدنه وثيابه، لأن بقاءه يوجب نجاستهما لو ابتلي بالرطوبة. مضافاً إلى ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من اختصاصه بالأعيان الملتصقة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 60 من أبواب النجاسات حديث: 2، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 60 من أبواب النجاسات حديث: 2، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 41 من أبواب لباس المصلي حديث: 2.

ص: 202

ببدن المصلي ولباسه، على نحو تعد كجزء منه، ولا يشمل المحمول المحض، كالقارورة في كلماتهم.

وأما صحيحا ابن جعفر فهما غير ظاهرين في الميتة. ولعل الوجه في السؤال فيهما النهي عن أكل لحم الحمار والبغل، حيث قد يتوهم بسببه المانعية من الصلاة، إما لتوهم كون النهي تحريمياً، أو لتوهم عموم المانعية لكراهة الأكل.

نعم أثبت شيخنا الأعظم (قدس سره) أحدهما هكذا: «من جلد حمار ميت». لكن لم يتضح مأخذه، بل الظاهر أنه اشتباه.

ودعوى: أن النهي فيهما عن حمل الدبة في الصلاة ملزم بحملهما على الميتة بعد ما هو المعلوم من عدم حرمة أكل لحم الحمار والبغل، وعدم مانعية أجزائهما من الصلاة.

مدفوعة بأن ذلك لا يصلح قرينة على الحمل المذكور، بحيث ينهضان بالاستدلال على المدعى. ولاسيما مع تضمن جملة من النصوص الأمر بغسل الثوب من بولهما، المناسب للنهي عن أكلهما، كالمقام.

هذا مضافاً إلى أن الصحيحين غير ظاهرين في التحريم، لأن التعبير بأنه لا يصلح، والترخيص مع خوف ذهابها، مناسبان للكراهة جداً.

فلم يبق إلا صحيح الحميري. فإن كان مرجع الضمير في قوله: «فإن كان ذكياً» هو الفارة دل على مانعية حمل الميتة لا غير، وإن كان مرجعه المسك دل على مانعية المسك أيضاً، ويتعدى لغيره من النجاسات بعدم الفصل. ومساق السؤال يناسب الأول، وتذكير الضمير يناسب الثاني. لكن ملازمة نجاسة المسك لنجاسة الفأرة تقتضي استهجان الثاني، لما فيه من الخروج عن مساق السؤال من دون فائدة. ومن ثم كان الأظهر الأول. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال على العموم. فلاحظ.

هذا وقد استشكل سيدنا المصنف (قدس سره) في النصوص المذكورة لو تمت دلالتها على المانعية بالمعارضة بما اشتمل من نصوص العفو عما لا تتم به الصلاة على مثل

ص: 203

(204) وكذا المتنجس إذا كان مما تتم به الصلاة (1).

قوله (عليه السلام): «عليه الشيء» أو: «فيه القذر» مما هو ظاهر في وجود عين النجاسة. قال: «والاختلاف في المورد لا يقدح في تحقق المعارضة لإلغاء خصوصية المورد عرفاً، فإن الجمود في كلٍّ على مورده بعيد عن الأذواق العرفية».

لكنه إنما يتجه في صحيح ابن جعفر الأول، لأن النجاسة فيه من توابع الثوب، كالنجاسة في نصوص العفو، وإن اختلفا في كونها منجسة فيها غير منجسة فيه. أما بقية نصوص المقام فاختلافها عن نصوص العفو باستقلال النجاسة بنفسها وعد تبعيتها للمحول مانع من التعارض بين الطائفتين، وملزم بحمل كل منهما على مورده، فيعفى عن النجاسة المحمولة إذا كانت تابعة لغيرها، ولا يعفى عنها إذا كانت مستقلة بنفسها.

فالعمدة ما عرفت من عدم تمامية دلالة النصوص المتقدمة عدا صحيح الحميري، وقد سبق أن المتيقن منه مانعية الميتة، ولا مجال للتعدي لغيرها.

(1) كما هو مقتضى من قصر العفو عما لا تتم به الصلاة على اللباس في السرائر وعن جماعة، فإن عدم العفو عن المحمول إذا كان مما لا تتم به الصلاة يقتضي عدم العفو عنه إذا كان مما تتم به الصلاة بالأولوية.

وكيف كان فالوجه فيه عموم عدم صحة الصلاة في النجاسة المستفاد من مجموع النصوص الواردة في الثوب والبدن، المؤيدة أو المعتضدة بخبر خيران الخادم: «كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير، أيصلي فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا، فقال بعضهم: صلّ فيه، فإن الله إنما حرم شربها وقال بعضهم: لا تصل فيه فكتب: لا تصلّ فيه، فإنه رجس»(1) وقول أبي عبد الله (عليه السلام) في خبر موسى بن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 204

أكيل: «لا تجوز الصلاة في شيء من الحديد، فإنه نجس ممسوخ»(1). فإن مقتضى عموم التعليل فيهما عدم جواز الصلاة في النجس.

اللهم إلا أن يقال: لما كان منصرف نصوص الثوب هو الثوب الملبوس دون المحمول، فالمستفاد من مجموع نصوص الثوب والبدن هو عموم مانعية نجاسة البدن واللباس، لا ما يعم المحمول.

وخبر خيران إنما يدل على العموم المدعى لو كان المراد منه: لا تصل في الخمر فإنه رجس، أو لا تصل في الثوب فإنه رجس، أما لو كان المراد منه: لا تصل في الثوب فإن الخمر رجس فهو إنما يدل على عموم النهي عن الصلاة في الثوب الذي يصيبه النجس، لا عموم الصلاة في النجس وإن لم يكن ثوباً.

ولعل ذلك هو الأقرب بلحاظ أن موضوع السؤال هو الثوب، وأن إرجاع الرجس للخمر هو المناسب لوصفها بذلك في الكتاب المجيد، ولوروده للردع عن التعليل المشار إليه في قول بعض أصحابنا: «فإن الله إنما حرم شربها». ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال على العموم المدعى.

وخبر موسى بن أكيل - مع ضعفه في نفسه - لما كان محمولاً على الكراهة، لعدم الإشكال في طهارة الحديد، وجواز الصلاة فيه، لم ينهض دليلاً في المقام، لأن البناء على كون الكبرى المستفادة من التعليل إلزامية، وأن التسامح في تطبيقها هو المنشأ للكراهة، ليس بأولى من البناء على أن الكبرى المذكورة غير إلزامية مع كون تطبيقها حقيقياً.

نعم قد يستفاد العموم المذكور مما تضمن العفو عن الصلاة في النجس إذا كان مما لا تتم به الصلاة، لأن مقتضى مفهومه عدم العفو عنه إذا كان مما تتم به الصلاة.

لكن استشكل في الاستدلال به غير واحد بأن ظرفية النجس للصلاة لما لم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 32 من أبواب لباس المصلي حديث: 6.

ص: 205

تكن حقيقية، لعدم كونها زمانية ولا مكانية تعين حملها على التوسع بإرادة الظرفية للمصلي، وذلك إنما يتم في مثل اللباس مما يكون مشتملاً على المصلي، ولو على بعضه - كالخاتم والقلنسوة - دون المحمول المحض الذي هو محل الكلام.

نعم ورد في النصوص التعبير بالصلاة في السيف(1) في أجزاء ما لا يوكل لحمه ولو مثل الروث والشعر(2) ونحوه مما لا مجال للظرفية فيه حتى بلحاظ المصلي، فيتعين رفع اليد عن ظهور (في) في جميع ذلك في الظرفية، وحملها على معنى (مع). إلا أنه لا ملزم بذلك في المقام بعد إمكان المحافظة على الظرفية بالاقتصار على اللباس ونحوه.

ويندفع بأنه لا مجال لتوهم كون الملحوظ في المقام الظرفية للمصلي، لاستهجان التصريح بظرفية جملة من الملبوسات له، فلا يصح أن يقال: صلى زيد وهو في خاتمه أو في قلنسوته أو في جوربه أو في سراويله أو نحو ذلك مما لا يكون الملبوس مشتملاً على تمام البدن أو أكثره. ولابد حينئذ من كون الظرفية زمانية، يراد بها حال الملابسة بين الشيء والمصلي.

ومقتضى الإطلاق عموم الملابسة وعدم تقييدها باللبس، بل الشمول لمطلق الاستصحاب له وكونه معه، كما يناسبه النصوص التي تقدم الاعتراف بعدم ورودها في الملبوس، وخصوص صحيح عبد الله بن سنان عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: كل ما كان على الإنسان أو معه، مما لا تجوز الصلاة فيه وحده، فلا بأس أن يصلي فيه وإن كان فيه قذر...»(3) ، حيث فرضت فيه الظرفية للصلاة بالإضافة إلى ما كان على الإنسان - وهو الملبوس - وما كان معه، وهو المحمول غير الملبوس. وإرساله إن كان مانعاً من الاستدلال به على الحكم الشرعي فهو غير مانع من الاستدلال به على صحة الاستعمال ولو من غير الإمام (عليه السلام) بنحو يناسب كون الاستعمال المذكور

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 57 من أبواب لباس المصلي.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من أبواب لباس المصلي.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 31 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 206

أما إذا كان لا تتم به الصلاة - كالساعة والدراهم والسكين والمنديل ونحوها -

فهو معفو عنه (1).

عرفياً. والالتزام باختلاف مفاد (في) في هذه النصوص عن مفادها نصوص المقام لا يناسب المرتكزات البيانية جداً.

ومن ثم كان عموم نصوص المانعية للمحمول قريباً. ولاسيما مع تأيده بحديث عبد الله بن سنان المتقدم بناء على ما سبق من الاستدلال بالمفهوم، لصراحته في العموم للمحمول. فلاحظ.

(1) كما صرح به غير واحد. والوجه فيه: أنه إن بني على أن الصلاة في النجس لا تصدق على الصلاة مع حمل النجس، فعموم مانعية النجاسة قاصر عنه. وإن بني على أنها تصدق عليها، فعموم العفو عما لا تتم الصلاة به شامل له. والتفكيك بينهما بلا وجه.

مع أن مقتضى حديث عبد الله بن سنان المتقدم عدم الفرق في العفو عما لا تتم به الصلاة بين الملبوس والمحمول. بل قد يدعى أن ما تضمن العفو عما لا تتم الصلاة به لو اختص بالملبوس يقتضي العفو عن المحمول الذي لا تتم الصلاة به بالأولوية، حيث لا يحتمل عرفاً شرطية اللبس في العفو عن النجس.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يمكن الاستدلال على العفو عنه بإطلاق أدلة العفو عما لا تتم به الصلاة، بدعوى: أنها وإن اختصت بالملبوس، إلا أن مقتضى إطلاقها عموم العفو عنه لحال حمله وعدم لبسه. وحينئذ يتعدى للمحمول الذي ليس من شأنه اللبس - كالسكين - بالقطع بعدم الفرق أو بالأولوية.

وفيه: أن النصوص المذكورة لما كانت واردة مورد العفو فهي ناظرة إلى أدلة المانعية، فإذا كانت أدلة المانعية مختصة بالملبوس - كما بنى هو (قدس سره) عليه، لما سبق - كانت أدلة العفو مختصة به، لأن المستثنى لا يكون أعم من المستثنى منه.

ص: 207

(208) (الرابع): ثوب المربية للطفل (1)، أمّاً كانت أو غيرها كما قيل (2).

(1) كما في النهاية والمبسوط والشرايع وظاهر الفقيه والمقنع وغيرها، بل هو المعروف بين الأصحاب، وادعى جماعة الشهرة فيه بل لا يعرف الخلاف فيه إلا من أصحاب المعالم والمدارك والذخيرة، تبعاً لتردد الأردبيلي فيه.

واستدل له بخبر أبي حفص عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن امرأة ليس لها إلا قميص واحد، ولها مولود، فيبول عليها، كيف تصنع؟ قال: تغسل القميص في اليوم مرة»(1). وضعف سنده منجبر بعمل المشهور به. فتوقف من سبق أو خلافه فيه في غير محله.

(2) كما هو ظاهر التعبير بالمربية في كلام جماعة. بل في التذكرة ونهاية الأحكام والدروس والمسالك وعن جماعة العموم للمربي، لدعوى القطع بعدم الفرق، أو لعموم العلة، وهي المشقة. وكلاهما كما ترى خروج عن المتيقن من النص، بل الظاهر منه، وهو الأم، لأن نسبة الولد والمولود للمرأة ظاهر في ولادتها له. ولا مجال للقطع بعدم الفرق، لاحتمال الاختصاص بالأم، لأنها أدعى للإرفاق والتخفيف لشدة ارتباطها بولدها، وصعوبة تركها له عليها وعليه. كما أن المشقة ليست علة منصوصة، فالتعدي من أجلها أشبه بالقياس.

هذا وعن جماعة الاقتصار على كون الولد ذكراً. وقد يستفاد من التعبير بالصبي في المبسوط والنهاية والشرايع وغيرها، لأنه الظاهر أو المتيقن من لفظ المولود، فيلزم الاقتصار عليه بعد ثبوت الفرق بين بول الذكر والأنثى في كيفية التطهير الكاشف عن الفرق في نحو النجاسة.

لكن الظاهر عموم المولود للأنثى. بل مناسبة وروده مورد التخفيف، بلحاظ الحرج النوعي، موجب للغفلة عن الفرق بينهما، بحيث تلغى خصوصية الذكر عرفاً لو فرض قصور الخبر عن الأنثى، وليس هو ككيفية التطهير التابعة ارتكازاً لنحو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

ص: 208

فإنه معفو عنه إن تنجس ببوله إذا لم يكن عندها غيره (1) بشرط غسله في اليوم والليلة مرة (2)، مخيرة بين ساعاته (3)

النجاسة. ومن ثم كان الأظهر العموم، كما في الدروس والمسالك والروض وعن الذكرى وأكثر المتأخرين. بل في المدارك أنه ينبغي القطع به.

(1) يعني: بحيث تستغني به عن النجس. لما يأتي في آخر المسألة.

(2) كما تضمنه الخبر المتقدم الذي هو دليل المسألة.

هذا ولا يبعد انصراف الخبر إلى صورة صعوبة تحصيل ثوب آخر لها وإن لم تبلغ مرتبة الحرج، لأن قول السائل: «كيف تصنع؟» ظاهر في كون أمرها محيراً، إذ لو تيسر لها الاستغناء عنه وتحصيل ثوب آخر فلزوم تحصيله ارتكازاً مغن عن السؤال عن وظيفتها وهو المناسب لما يأتي من التعدي لمن كان لها أكثر من ثوب واحد مع الحاجة للبس الكل. نعم لو كان بيان حكمها من الإمام (عليه السلام) ابتدائياً أمكن البناء على إطلاقه، وإن أمكن دعوى انصرافه أيضاً.

وكأن هذا هو مراد ما في كشف اللثام من احتمال وجوب تحصيل ثوب آخر عليها مع قدرتها، ولو بالاستعارة أو الاستئجار، وعن المعالم نسبة القول به لجماعة من المتأخرين.

أما لو أريد به الاكتفاء بالقدرة من دون حرج، أو ولو معه، فهو لا يناسب إطلاق الخبر، إذ يكفي في حسن السؤال عن وظيفتها صعوبة المحافظة على طهارة اللباس في جميع الصلوات وإن لم تبلغ مرتبة الحرج.

(3) يعني: بين ساعات اليوم. أما الاختصاص باليوم فلاختصاص الخبر به.

وأما ما في المنتهى ونهاية الأحكام من أن اليوم يطلق على الليل والنهار. فهو في غاية المنع بعد ملاحظة العرف واللغة.

ومثله ما في جامع المقاصد من أن المراد به في المقام ذلك، إما لأنه المعنى

ص: 209

الحقيقي، أو لاستفادته بالتبعية والتغليب. لاندفاعه بأنه بعد ما عرفت من اختصاص اليوم بالنهار فالتبعية والتغليب يحتاجان إلى قرينة. ومجرد وجود صلاة ليلية تقتضي التطهير لا يصلح قرينة على ذلك.

نعم لو كان مراده الاجتزاء بغسل واحد لليوم والليل وإن كان الغسل في النهار اتجه الاستدلال عليه بالخبر من دون حاجة إلى دعوى العموم أو التغليب لأن الأمر بالغسل في اليوم من دون تقيد للغسل في الليل ظاهر في الاجتزاء بغسل النهار له.

وأما التخيير بين ساعات اليوم فهو المصرح به في كلام غير واحد، عملاً بإطلاق الخبر.

لكن قد يقال: إنما يكون للخبر إطلاق إذا كان الأمر بالغسل مرة واحداً وارداً لبيان وجوبها. والظاهر أنه ليس كذلك، بل هو وارد لبيان الاكتفاء بها، وعدم وجوب ما زاد عليها بعد الفراغ عن وجوبها بمقتضى القاعدة. وحينئذ يلزم المبادرة إليها عند الحاجة إليها في اليوم، عملاً بمقتضى القاعدة، لعدم المرخص لتركها حينئذ، ويكتفي بها عما بعدها من موارد الحاجة إليها، كما هو مقتضى الخبر.

ودعوى: أن عدم وجوب ما زاد على الغسلة الواحدة لا يستلزم وجوب المبادرة لها عند الحاجة إليها، لامكان اكتفاء الشارع بالغسل المتأخر. مدفوعة بأنه لا مسوغ لترك المبادرة لها بعد اقتضاء القاعدة وجوبها، وعدم نهوض الخبر بالترخيص في تركها، لعدم تحقق ما يكفي عنها.

ومقتضى ذلك وإن كان هو وجوب غسل الثوب لصلاة الصبح، لو تنجس قبلها، لأنها أول صلاة اليوم، ومبدأ الحاجة للغسل فيه، إلا أن ورود الخبر مورد التخفيف، وصعوبة الغسل لصلاة الصبح، صالحان للقرينية على إرادة الغسل لما بعدها. ولاسيما وأن جفاف الثوب لصلاة الصبح موقوف غالباً على غسله ليلاً، لا في اليوم، كما تضمنه الخبر. فتأمل.

نعم ورود الخبر مورد الاضطرار ولو بلحاظ صعوبة المحافظة على الطهارة في

ص: 210

ولا يتعدى من البول إلى غيره (1)،

تمام الصلوات مناسب لتحريها في وقت الغسل أكثر ما يمكن من الصلوات من دون صعوبة ولا حرج، فتغسله قريباً من وقت الصلاة، وتبادر للصلاة به، وتجمع بين أكثر من صلاة. كل ذلك عملاً بالقاعدة بعد عدم نهوض الخبر بالخروج عنها بقرينة الاضطرار المشار إليها.

وأما ما في جامع المقاصد من أن الظاهر اعتبار كون الغسل في وقت الصلاة، لأن الأمر بالغسل يقتضي الوجوب، ولا وجوب في غير وقت الصلاة.

ففيه - مع ابتنائه على عدم وجوب المقدمة قبل الوقت -: أن وجوب الغسل عند الوقت مع نجاسته فيه لا ينافي جواز تقديمه عليه لبقاء أثره - وهو الطهارة، التي هو الشرط في الصلاة - إلى دخول الوقت.

على أنه تقدم أن الأمر بالغسل مرة ليس وارداً لبيان وجوبه، بل لبيان الاكتفاء بالمرة. وعليه لا مانع من شمول الإطلاق للغسل قبل الوقت، ولاسيما مع تعارف ذلك من أجل أن يجفّ عند الوقت. بل التقيد بعدم الغسل إلا في الوقت يحتاج إلى كلفة لا مجال لحمل الإطلاق عليها.

هذا ولو نجس الطفل ثوبها بعد غسله قبل أداء الصلاة من دون تسامح منها لم يجب إعادة الغسل عملاً بالخبر.

(1) كالغائط، فضلاً عن مثل الدم. وبه صرح غير واحد. لظهور النص في التخفيف من حيثية البول، فيحتاج التخفيف من حيثية غيره لدليل، خصوصاً بعد كون البول أكثر ابتلاء وأشيع، حيث لا يبعد مع ذلك اختصاصه بالتخفيف.

لكن في جامع المقاصد بعد الاعتراف باختصاص الخبر بالبول قال: «وربما كني بالبول عن النجاسة الأخرى، كما هو قاعدة لسان العرب في ارتكاب الكناية فيما يستهجن التصريح به». وظاهره التردد في العموم للغائط، كما هو ظاهر التذكرة

ص: 211

ولا من الثوب إلى البدن (1)، ولا من المربية إلى المربي (2)، ولا من ذات الثوب الواحد إلى ذات الثياب المتعددة (3) مع عدم حاجتها إلى لبسهن جميعاً، وإلا فهي كالثوب الواحد (4).

ونهاية الأحكام والمسالك من جهة الاشتراك في المشقة. بل عن نهاية الأحكام تقريب العموم له أخيراً، وإن لم أجده فيه. بل قد يستفاد العموم من كل من أطلق حكم المربية من دون تقييد بالبول ولعله لذا كان ظاهر كشف اللثام نسبته للأصحاب أو للمشهور.

لكن ضعف الجميع ظاهر، لاحتياج الكناية إلى قرينة، والاشتراك في المشقة ممنوع بعد ما سبق من أن الابتلاء بالبول أكثر. مع أنه لا ينفع بعد عدم التعليل بالمشقة في الخبر.

(1) كما هو ظاهر اقتصارهم على الثوب، تبعاً للخبر. لكن في كشف اللثام: «ومن المتأخرين من حمل البدن على الثوب بادعاء اشتراك المشقة». وربما علل أيضاً بعدم التنبيه له في النص مع غلبة الابتلاء به.

ويظهر ضعف الأول مما سبق. وأما الثاني فيندفع بظهور السؤال في الخبر في خصوصية الثوب بالاهتمام. ولعله لأنه أكثر تنجساً، ولصعوبة تطهيره عند كل صلاة، بخلاف البدن، ولا مجال مع ذلك لفهم العفو عنه من الخبر، ولاسيما أن مقتضى الوجه المذكور العفو عنه مطلقاً، بحيث لا يحتاج لتطهيره حتى مرة واحدة. فلاحظ.

(2) كما تقدم عند الكلام في العموم لغير الأم.

(3) كما صرح به غير واحد، ولعله ظاهر الباقين. اقتصاراً على مورد النص.

(4) كما صرح به غير واحد. لفهم عدم الخصوصية للثوب الواحد حينئذ. وهو مناسب لما سبق منّا من قصر الحكم في الثوب الواحد على صورة صعوبة الاستغناء عنه بغيره كما أشرنا إليه هناك.

ص: 212

الفصل الرابع: في المطهرات

(213) (213) وهي أمور:

(الأول): الماء (1)، وهو مطهر لكل متنجس يغسل به (2)

(1) تقدم في أول مبحث المياه الوجه في عموم مطهرية الماء لجميع أفراده والدليل عليه.

(2) الظاهر عدم الإشكال في ذلك بينهم. ويقتضيه - مضافاً إلى مرتكزات المتشرعة - النصوص الكثيرة الواردة في النجاسات في الموارد المتفرقة، بضميمة فهم عدم الخصوصية لمواردها، بعد ارتكاز ابتناء التطهير فيها على مطهرية الماء - التي هي في نفسها ارتكازية، وقد تضمنتها الأدلة - التي لا يفرق فيها بين الموارد.

بل في معتبر مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: «قال جابر بن عبد الله: إن دباغة الصوف والشعر غسله بالماء، وأي شيء يكون أطهر من الماء؟!»(1) فإن تعليل طهارة الصوف بغسله بالماء بمطهرية الماء ظاهر في المفروغية عن عموم مطهرية الماء للمتنجسات.

ولا يقدح في الاستدلال نسبة الحديث لجابر بن عبد الله. لظهور حكايته (عليه السلام) لكلامه في إمضائه وتقريره. بل لا يبعد كون التعليل للإمام (عليه السلام) لتأكيد كلام جابر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 213

وتقريره.

هذا مضافاً إلى ما نبه له سيدنا المصنف (قدس سره) من الاستدلال بمثل قوله (عليه السلام) في موثق عمار الوارد فيمن يجد في إنائه فأرة ميتة وقد استعمل من ذلك الماء: «فعليه أن يغسل ثيابه، ويغسل كلما أصابه ذلك الماء»(1). لظهوره في عموم مطهرية الغسل بالماء لكل ما يصيبه الماء النجس مما يقبل الغسل. وهو وإن ورد في نجاسة خاصة، إلا أنه يمكن التعدي عنها بإلغاء خصوصية المورد عرفاً، أو بالإجماع، كما قد يدعى.

وقد استدل (قدس سره) أيضاً بما تضمن طهورية الماء، كالنبوي: «خلق الله الماء طهوراً»(2). بدعوى: أن مقتضى إطلاقه المقامي الإيكال في كيفية التطهير للعرف، وعلى ذلك يتعين البناء على مطهرية الماء لكل متنجس يرى العرف قابليته لأن يطهر بالماء.

وما ذكره (قدس سره) متين جداً، لولا عدم العثور على دليل لطهورية الماء وارد في مقام البيان، ليكون له الإطلاق المقامي المذكور. والنبوي الذي ذكره (قدس سره) لم يثبت بوجه ينهض بالاستدلال، كما ذكرناه في مسألة طهارة الماء في أول مبحث المياه. وذكرنا في مسألة مطهرية الماء المطلق بعض النصوص الأخر التي لا تنهض بالعموم المذكور أيضاً.

نعم قد يستظهر ذلك من صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن ماء البحر أطهور هو؟ قال: نعم»(3) ونحوه معتبر أبي بكر الحضرمي(4). فإن إطلاقهما المقامي تام في إفادة طهورية ماء البحر، ويمكن التعدي عنه لغير ماء البحر بالعلم بعدم الفرق.

اللهم إلا أن يقال: يظهر منهما ومن غيرهما أن في ماء البحر ما يوجب احتمال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الماء المطلق حديث: 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الماء المطلق حديث: 1، 2.

ص: 214

على نحو يستولي على المحل النجس (1). بل يطهر الماء النجس على تفصيل تقدم في أحكام المياه (2). نعم لا يطهّر المضاف في حال كونه مضافاً (3).

عدم طهوريته، وأن النصوص المذكورة واردة لدفع ذلك، وبيان أنه طهور كسائر أفراد الماء، من دون أن تكون واردة لبيان طهوريته ابتداءً، ليكون مقتضى الإطلاق المقامي عموم طهوريته، ويتعدى منه لغيره من أفراد الماء. فتأمل جيداً.

(1) لأن ذلك هو المعيار في مطهرية الماء حسب المرتكزات العرفية. فهو يحمل النجاسة عن الموضع باستيلائه عليه، ويخرجها عنه بانفصاله عنه، كما يحمل القذر العرفي ويخرجه عن الموضع باستيلائه عليه وانفصاله عنه. ولا دليل على مطهرية الماء في غير ذلك.

أما الإطلاق المقامي فظاهر. وأما النصوص الواردة في أبواب النجاسات المتفرقة، فلأن مواردها مختصة بما يغسل ويستولي الماء فيه على الموضع النجس، والتعدي منها عرفاً إنما يكون إلى ما هو مثلها في ذلك.

وكذا التعليل في معتبر مسعدة بن صدقة، لوضوح أنه وإن ابتنى على عموم مطهرية الماء، إلا أن المتيقن من العموم المذكور هو العموم لموارد الغسل التي منها مورد الخبر، وهو الصوف والشعر.

(2) في المسألة العشرين من الفصل الثاني. لكن الظاهر أن مطهريته له ليس على حد مطهريته للمتنجسات في كونه مزيلاً لنجاستها ارتكازاً، لعدم استيلائه على المحل النجس، نظير ما يأتي في الماء المضاف والمايعات، بل من باب السراية، وغلبة حكم الماء الطاهر على حكم الماء النجس، كما أشرنا إليه هناك.

(3) فإن خرج عن الإضافة للإطلاق طهر كما يطهر الماء النجس. وإن خرج عنه بالاستهلاك فلا موضوع معه عرفاً للنجاسة ولا للطهارة، وإسناد الطهارة إليه حينئذ مبني على التسامح.

ص: 215

(216) وكذا غيره من المائعات (1).

(مسألة 1): يعتبر في التطهير بالقليل انفصال ماء الغسالة (2)

(1) فإنها لا تطهر بالاتصال من دون امتزاج بالماء الطاهر وإن كان معتصماً، لعدم استيلاء الماء الطاهر على المحل النجس، الذي سبق أنه الشرط في تطهير المتنجس، والاكتفاء به في الماء المطلق النجس إنما هو لدليل يخصه، ولا يعم بقية المايعات. بل حتى مع الامتزاج، لعدم كفايته في الاستيلاء والانفصال الذين يتوقف عليهما حمل النجاسة وإخراجها عن المحل النجس.

نعم إذا بلغ الامتزاج حداً استهلك به المايع في الماء المعتصم اتجهت الطهارة حينئذ، كما سبق في المضاف. وربما يرجع إليه ما ذكروه من طهارة المضاف بإلقاء الكر عليه إذا لم يخرجه عن الإطلاق، على كلام لهم لا يسعنا استقصاؤه. وإلا فالإشكال عليه ظاهر مما سبق.

وأشكل من ذلك ما عن العلامة في محكي التذكرة قال: «لو طرح الدهن في ماء كثير وحركه حتى تخلل الماء أجزاء الدهن بأسرها طهر». لوضوح أن الماء لا يستولى على أجزاء الدهن ولا تستهلك فيه.

ولعله لذا اعتبر في العروة الوثقى كون الكرّ حاراً. لكنه لا يوجب أيضاً الاستيلاء على تمام الأجزاء حقيقة ولا عرفاً، فالمتعين بقاؤه على النجاسة. وهو ظاهر ما تضمن إلقاء الزيت والسمن إذا ماتت فيهما فأرة(1). حيث يظهر منه عدم صلوحهما للانتفاع، لتعذر تطهيرهما. كما أشار إلى ذلك سيدنا المصنف (قدس سره).

(2) كما ذكره غير واحد، بل يظهر عدم الخلاف فيه مما يأتي في العصر. وقد استدل عليه بعض مشايخنا (قدس سره) بأخذ الانفصال في مفهوم الغسل الذي تضمنته أدلة التطهير. وكأنه يبتني على تقوّم الغسل بالجريان، كما قد يستفاد من الأصحاب

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 216

(رضوان الله تعالى عليهم)، على ما سبق في أول مبحث الوضوء.

لكن سبق هناك المنع من ذلك، خصوصاً لو أريد من الجريان - كما يظهر من بعضهم - ما يعم انتقال الأجزاء المائية من بعض أجزاء الجسم لآخر بمعونة اليد ولو بمثل الدهن الذي تضمنته بعض نصوص الوضوء والغسل(1). للقطع بعدم صدق الغسل بذلك. بل يظهر من جملة من النصوص التباين بين الغسل والصب(2) وإن تحقق به الجريان بنفسه بسبب كثرته.

ومن ثم كان الظاهر تقوم الغسل باستيلاء الماء بنحو من التعمق والكثرة، بحيث يزال به الوسخ والقذر بدَلك وفرك ونحوهما وإن لم ينفصل الماء، على ما يأتي توضيحه.

هذا مضافاً إلى أن مرادهم من الجريان المقوم للغسل ليس هو ما يساوق انفصال ماء الغسالة، بل مجرد انتقال الماء عن أجزاء الجسم المتنجس. ويكفي في ذلك تردد الماء بين أجزاء المتنجس من دون أن تنفصل عنها، نظير تردده بين أجزاء الإناء مع استقراره فيه. ولذا لا إشكال في الاجتزاء في الغسل المعتبر في الطهارة من الحدث بالغسل الارتماسي غير المتوقف على انفصال ماء الغسل.

على أن جملة من أدلة التطهير لم تتضمن الغسل بل الصب، ولا مجال لإرجاع أحدهما للآخر بعد ما سبق من ظهور النصوص في التقابل بينهما.

وأما ما ذكره (قدس سره) من أن الغسل إنما يتوقف على انفصال ماء الغسالة في الأجسام التي يرسب فيها الماء، كالثياب والفراش، دون ما لا يرسب فيه - كالجسد - الذي هو مورد نصوص الصب، بل يكفي في صدق الغسل فيها وصول الماء إليها. فهو غير واضح المنشأ. على أنه يبقى إطلاق لزوم انفصال ماء الغسالة في الغسل بالماء

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 15 من أبواب الوضوء حديث: 7، وباب: 31 منها حديث: 2، وباب: 52 منها حديث: 1، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، 5، وباب: 3 منها حديث: 2.

ص: 217

القليل - من دون قصر له على ما يرسب فيه الماء - خالياً عن الدليل في كلامه (قدس سره).

هذا ولا ينبغي التأمل في لزوم انفصال ماء الغسالة بناء على نجاسته، فإن نجاسته تمنع من الانتفاع بالجسم المغسول المتصل به وإن طهر. بل يصعب جداً البناء على طهارة المغسول في نفسه حينئذ، فإنه وإن صدق الغسل والصب مع عدم انفصاله، إلا أن ارتكاز تفرع مطهرية الغسل والصب على مطهرية الماء الارتكازية موجب لانصراف الغسل والصب في أدلة التطهير إلى ما يكون بالوجه الذي يترتب عليه الطهارة والنظافة ارتكازاً، بحيث يزول به عرفاً الاستقذار عن الجسم الذي يراد تطهيره وتنظيفه، وحيث كان الماء المطهر حاملاً لخبث المغسول النجس يبقى المغسول مستخبثاً ومستقذراً مادام الماس الحامل لقذره متصلاً به، ولا يزول استقذاره واستخباثه إلا بانفصاله عنه حاملاً لخبثه وقذره. ومن ثم ينصرف إطلاق الغسل والصب في أدلة التطهير إلى خصوص صورة انفصال الماء، كما هو المتعارف.

وبعبارة أخرى: التعارف إنما لا يصلح لتقييد الإطلاق إذا لم يكن مبتنياً على جهة ارتكازية في العموم. وإلا كان مانعاً من ظهور الإطلاق في العموم ولا أقل من إجماله حينئذ، فيلزم الرجوع للأصل، وهو في المقام استصحاب النجاسة.

أما بناءً على طهارة ماء الغسالة مطلقاً أو خصوص الغسلة التي يتعقبها طهارة المحل فيشكل انصراف الإطلاق لصورة الانفصال، لأن الجهة الارتكازية المتقدمة مبتنية على حمل الماء المطهر والمنظف للقذر والخبث. أما مع فرض طهارته، وعدم حمله لشيء من ذلك، فلا منشأ لاعتبار انفصاله عرفاً، فلا موجب لانصراف الإطلاق إلا مجرد التعارف والغلبة، وقد تكرر عدم نهوضهما بتقييد الإطلاق.

ودعوى: أن ذلك إنما يتجه لو كانت طهارة ماء الغسالة ارتكازية، أما إذا كانت تعبدية فهي لا تنافي انصراف الإطلاق الوارد في مقام التطهير بسبب الجهة الارتكازية المتقدمة.

مدفوعة بأن الجهة الارتكازية المتقدمة حيث كانت مبنية على ارتكاز نجاسة

ص: 218

على النحو المتعارف (1)، فإذا كان المتنجس مما ينفذ فيه الماء مثل الثوب

ماء الغسالة فدليل طهارة ماء الغسالة - لو تم - كما يكون رادعاً عن ارتكاز نجاسته يكون رادعاً عن الجهة الارتكازية المتقدمة المبتنية عليها، ورافعاً لموضوعها.

نعم قد تضمن موثق عمار الوارد في غسل الإناء الأمر بإفراغ الإناء من ماء الغسالة(1) ، حيث قال (عليه السلام): «ثم يفرغ منه وقد طهر». وهو ظاهر في توقف التطهير على تمام الكيفية المذكورة في الموثق ومنها الإفراغ، فقد يتعدى منه لغير الإناء وحينئذ قد ينهض دليلاً في المقام حتى بناء على طهارة ماء الغسالة.

لكن الموثق المذكور من أدلة نجاسة ماء الغسالة، كما سبق في محله من مباحث المياه، فلابد بناء على طهارة ماء الغسالة من رفع اليد عنه. اللهم إلا أن يقال: يكفي في رفع اليد عنه حمله على عدم كون الإفراغ من أجل نجاسته من دون أن ينافي ظهوره في توقف طهارة الإناء على الإفراغ.

وأما ما في صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصبي يبول على الثوب قال: تصب عليه الماء قليلاً ثم تعصره»(2) فالاستدلال به على اعتبار انفصال ماء الغسالة مبني على إبقائه على ظاهره من وجوب العصر. وهو ما يأتي الكلام فيه في المسألة الحادية عشرة إن شاء الله تعالى.

(1) من زوال معظم الماء. ولا يضر تخلف شيء منه لازم عادة للصب والغسل. عملاً بإطلاق دليل الصب والغسل من دون أن تصلح الجهة الارتكازية المتقدمة للردع عنه، لعدم مانعية بقاء المقدار المذكور من زوال الاستقذار العرفي. بل سبق في مبحث نجاسة ماء الغسالة استثناء المتخلف والبناء على طهارته. بل هو المفروغ عنه بينهم. ومعه لا موضوع للاستقذار المذكور، كما تقدم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 219

(220) والفراش فلابد من عصره (1) أو غمزه بكفه أو رجله (2). والأحوط وجوباً عدم الاكتفاء عن العصر بتوالي الصب عليه إلى أن يعلم بانفصال الأول (3). وإن كان مثل الصابون، والطين، والخزف، والخشب، ونحوها

(1) يعني: مع فصله عن ماء الغسالة المتجمع بعد العصر، وتكون فائدة العصر التخلص مما يحمل الجسم النجس في أعماقه بسبب نفوذ الماء فيه.

(2) لانفصال ماء الغسالة بهما كما ينفصل بالعصر. وربما قيل بلزوم الاقتصار على العصر، وعن وسائل البغدادي: «لا يكاد يعرف في ذلك خلاف»، بل ربما أدعي الإجماع عليه. لكن التأمل في كلام جملة منهم شاهد بعدم خصوصية العصر في ذلك. بل لا ينبغي التأمل فيه بعد القطع بإمكان تطهير ما لا يمكن عصره كالبسط الكبيرة والفرش المبطنة بالصوف الكثير والفرش.

ومنه يظهر لزوم الخروج عما قد يستفاد منه خصوصية العصر، كصحيح الحسين بن أبي العلاء المتقدم، فيلزم حمله على ما يعم هذه الأمور. أو يقتصر فيه على مورده مما يقبل العصر.

ومثله دعوى توقف صدق الغسل على العصر. إذ لا ريب في صدق الغسل فيما لا يمكن عصره مما تقدم. على أنه لا مجال لدعوى أخذ انفصال ماء الغسالة ولو بغير العصر في مفهوم الغسل بعدما تقدم في حقيقة الغسل.

(3) كأنه لظهور كلماتهم في توقف التطهير فيما ينفذ فيه الماء على العصر ونحوه بنحو يصعب تنزيلها على ما يعم ذلك. أو لتوقف صدق الغسل على العصر ونحوه مما لا يشمل ذلك.

لكن في صلوح كلماتهم - مع اضطرابها - لأن تكون إجماعاً ينهض بالاستدلال إشكال، بل منع. كما أنه سبق عدم توقف صدق الغسل على انفصال ماء الغسالة، فضلاً عن توقفه على خصوص العصر ونحوه، وأن انفصال ماء الغسالة إنما هو

ص: 220

لنجاسته، بضميمة ارتكاز عدم مطهرية المطهر الذي يحمل الخبث إلا بانفصاله. ولموثق عمار المتقدم.

والأول يقتضي الاكتفاء بانفصال ماء الغسالة بأي وجه اتفق، ولو بالوجه الذي هو محل الكلام، كما اعترف به (قدس سره). والثاني مختص بالإناء الذي لا ينفصل عنه ماء الغسالة إلا بالتفريغ، ولا يقبل العصر ولا غيره مما تقدم، حتى ما هو محل الكلام، لأن كثرة صب الماء فيه لا يدفع ماء الغسالة، بل يوجب اختلاط الماء الجديد بماء الغسالة وتنجسه معه.

نعم قد يقال: محل الكلام في المقام الاكتفاء في تطهير ما ينفذ فيه الماء بتوالي صب الماء عليه حتى يعلم بخروج ماء الغسالة من دون فرك أو دلك أو نحوهما مما يبتني على تعميق الماء في الجسم الذي سبق تقوم الغسل به. وحينئذ لا ريب في عدم صدق الغسل بذلك، بل ليس هو إلا من أفراد الصب، غايته أنه ليس صباً لخصوص الماء الذي يحصل به التطهير، بل لما زاد عليه مما يوجب دفعه وإخراجه عن الجسم. ولا دليل على الاكتفاء به بعد اختصاص أدلة الصب بالأجسام الصلبة التي لا ينفذ فيها الماء وببول الصبي، كما يأتي، وتطابق النصوص والفتاوى على لزوم الغسل فيما عدا ذلك. وأما لو أريد الاكتفاء عن العصر بتوالي الصب بعد غسل المتنجس بالمعنى المتقدم، فهو أمر خارج عن محل الكلام راجع إلى اعتبار الفرك ونحوه مما لم يذكره الأصحاب بدلاً عن العصر.

والذي ينبغي أن يقال: أشرنا آنفاً إلى أن الغسل عرفاً متقوم بنحو من تعميق الماء في الجسم المغسول لإزالة القذر والوسخ منه، ويناسب ذلك مقابلته بالصب في جملة من النصوص، إذ لا ريب في أن ما يكفي فيه الصب يمكن غسله، فلو لم يكن الغسل مبتنياً على كلفة زائدة على الصب لم تحسن المقابلة بينهما.

ولاسيما مع تعليل الاكتفاء بالصب بأنه ماء في بعض النصوص منها صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البول يصيب الجسد. قال: صب

ص: 221

عليه الماء، فإنما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله مرتين. وسألته عن الصبي يبول على الثوب. قال: يصب عليه الماء قليلاً ثم يعصره»(1). ونحوه في ذلك صحيح البزنطي(2).

كما أن ما تضمنه صحيح الحسين من العدول في بول الصبي عن الغسل والتعبير والعصر ظاهر في عدم تحقق الغسل بهما واحتياجه إلى مونة زائدة عليهما، وهو الظاهر من صحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الصبي قال: تصب عليه الماء، فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً»(3) فإنه لو سلم عدم الحاجة للعصر مع عدم أكل الصبي إلا أن المراد بقوله: «فاغسله بالماء غسلاً» ليس هو العصر، وإلا كان التعبير به أخصر وأفيد، بل هو أمر زائد يحتاج لعناية قابل للتأكد أو محتاج للتأكيد، وهو ما ذكرنا.

وكذا موثق عمار الوارد في أواني الخمر، حيث تضمن السؤال عن استعمال الدن والإبريق الذين فيهما الخمر، والجواب بجواز ذلك بعد غسلهما، ثم قال: «وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر. قال: تغسله ثلاث مرات. وسئل أيجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده، ويغسله ثلاث مرات»(4). لقوة ظهوره في توقف غسل الإناء على دلكه بعد صب الماء فيه، بل كون الغسل عين الدلك المذكور.

ودعوى: أن مقتضى عطف الغسل على الدلك التباين بينهما، وحمله على التفسير خلاف الأصل في العطف. مدفوعة بأنه ليس في المقام إلا صب الماء ودلك الإناء، فلو لم يكن الغسل عين الدلك، ولم يكن العطف تفسيرياً، لكان عين الصب المفروض ولم يكن لذكره وجه، بل كان المناسب أن يقول: لا يجزيه حتى يدلكه بيده.

********

(1) الكافي ج 3 ص 55، أورد صدره في وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، وذيله في باب: 3 من الأبواب المذكورة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 222

ولاسيما بملاحظة أن السؤال عن الاجتزاء بالصب بعد الأمر بالغسل ظاهر في عدم تحقق غسل الإناء بصب الماء فيه وإفراغه، وأنه أمر آخر يسأل عن الاجتزاء به عنه، كما أن الردع عنه والأمر بالدلك والغسل ظاهر في انحصار التطهير بالغسل الذي ذكر أولاً، المستلزم لكن العطف تفسيرياً.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد الرجوع للمرتكزات الاستعمالية والنصوص المتقدمة في تقوم الغسل بما ذكرنا، وعدم صدقه على مجرد إصابة الماء للجسم ثم انفصاله عنه بعصر ونحوه.

نعم لا ريب في كثرة استعماله في النصوص في مطلق إزالة النجاسة عن الجسم به ولو من دون غسل بالمعنى المذكور، بل بمجرد إصابته له وانفصاله عنه بعصره أو نحوه، بل حتى فيما لا يحتاج للعصر ونحوه من الأجسام التي لا ينفذ فيها الماء بل ينفصل عنها بمجرد إصابته أو بتفريغها منه. كبعض نصوص الاستنجاء من البول(1) ، وبعض النصوص المتضمنة للغسل من بول الصبي الذي كان غير المتغذي بالطعام أظهر أفراده(2). والنصوص المتضمنة لغسل الإناء(3) ، مع التصريح في بعضها بالاكتفاء بصب الماء فيه وتحريكه ثم إفراغه، ولغسل الثوب والبدن بإصابة الميتة(4) والكلب والخنزير(5) ، مع عدم الإشكال ظاهراً في عدم وجوب الدلك فيها... إلى غير ذلك. بل شاع استعماله في الكتاب والسنة في تطهير البدن من الحدث بالماء مع عدم الإشكال في عدم احتياجه للدلك.

وكأن منبى الاستعمالات المذكورة على أن الغسل بالمعنى العرفي المتقدم إنما يراد من أجل إزالة القذر والأثر الذي يحمله المغسول، وحيث كان الغسل بالمعنى

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 26، 28، 31 من أبواب أحكام الخلوة.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 3، وباب: 4 منها حديث: 1.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12، 13، 53، 64 من أبواب النجاسات.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب النجاسات.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12، 13 من أبواب النجاسات.

ص: 223

الأعم محققاً لإزالة النجاسة - في الموارد المذكورة - والحدث، اللذين هما من سنخ القذر الشرعي، صح إطلاق الغسل عليه بلحاظ ذلك، لمشاركته للغسل في إزالته للأثر المرغوب في إزالته.

إذا عرفت هذا فحيث كان الدلك والفرك ونحوهما مما يقوم الغسل بالمعنى العرفي إنما يحتاج إليها لإزالة الأثر الخارجي كان المناسب عدم اعتبارهما في التطهير من النجاسة الشرعية المجردة عن القذر الخارجي في الشيء النجس، بل يكفي فيه وصول الماء المطهر شرعاً لمحلها وانفصاله عنه حاملاً لها، وهو المناسب لإطلاق طهورية الماء.

خصوصاً مع ثبوت الاكتفاء به في التطهير عن الحدث وفي جملة من موارد التطهير من الخبث، وهي التي تضمنت الأدلة فيها الاكتفاء بالصب ونحوه وإن عبر في بعض أدلتها بالغسل أيضاً بنحو يلزم بحمل الغسل فيها على المعنى الأعم.

ولاسيما بملاحظة ما سبق في صحيحي الحسين بن أبي العلاء والبزنطي من تعليل الاكتفاء بصب الماء في تطهير البدن من البول بأنه ماء، فإنه لولا المفروغية عن أنه يكفي في التطهير من النجاسة الشرعية وصول الماء لم يحسن التعليل المذكور.

نعم في مورد علوق الأمر الذي أوجب تنجس الشيء النجس به لابد من إعمال العناية زائداً على وصول الماء بفرك أو دلك أو نحوهما لإزالته.

وذلك كله مطابق للمرتكزات العرفية في التطهير، الصالحة للقرينية على تفسير الغسل في الأدلة بعد ارتكاز أن مطهريته مبنية على مطهرية الماء، وبعد ملاحظة القرائن المتقدمة.

هذا وقد لا يكون للنجاسة أثر محسوس للعرف، ويلزم الشارع بالغسل بالمعنى الأخص فيها، أو يكون لها شيء من الأثر ويكتفي الشارع بوصول الماء فيها والغسل بالمعنى الأعم. وحينئذ يقتصر في ذلك كله على مورد الأدلة.

ص: 224

وعلى أحد الأمرين يحمل التفصيل بين الجسم والثوب في البول، وبين إصابة الثوب ببول الصبي الذي لم يتغذ بالطعام وإصابته ببول غيره.

وقد ظهر من جميع ما سبق أمران:

الأول: أن مقتضى القاعدة الاكتفاء في التطهير من النجاسة الاكتفاء بوصول الماء واحتياج ما زاد عليه للدليل، وأن الفرك والدلك ونحوهما مما يقوم الغسل بالمعنى العرفي إنما يحتاج إليه لإزالة أثر النجاسة ونحوها مما يعلق بالمتنجس، ويتوقف تطهيره على زواله.

الثاني: أن العصر ونحوه غير معتبر في مفهوم الغسل، لا بالمعنى الأخص الذي هو المعنى العرفي له، ولا بالمعنى الأعم الذي يستفاد من جملة من النصوص، وأنه إنما يعتبر في الغسل بالماء القليل من جهة نجاسة ماء الغسالة. ولازم ذلك الاكتفاء بتوالي الصب حتى يزول ماء الغسالة.

وقد يشهد بذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول كيف يغسل؟ قال: يغسل الظاهر، ثم يصب عليه الماء في المكان الذي أصابه البول حتى يخرج من جانب الفراش الآخر»(1) حيث لا يبعد كون صب الماء من أجل تطهير باطن الفراش من البول النافذ فيه، وخروجه من الجانب الآخر من أجل انفصال ماء الغسالة بتوالي صب الماء من دون حاجة للعصر.

ولعل التفكيك بين الظاهر والباطن في كيفية التطهير من أجل أن البول الذي يصيب ظاهر الفراش الذي هو منسوج يعلق منه به شيء من أثره لا يزول بالصب، بل لابد فيه من الغسل بالمعنى الأخص، أما ما ينفذ من الظاهر للصوف فلا يحتاج للغسل، بل يكفي فيه صب الماء وجريانه فيه، لأنه أرق لتصفيته بالظاهر المنسوج، ولعدم تماسك الصوف فلا يتكثف فيه أثر البول. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 225

(226) مما ينفذ فيه الرطوبة المسرية يطهر ظاهره بإجراء الماء عليه (1). وفي طهارة باطنه تبعاً للظاهر إشكال.

نعم لا يكفي جفاف ماء الغسالة بالهواء أو الحرارة، لعدم زوال الاستخباث والاستقذار معه، فتقصر أدلة التطهير عنه. ولا أقل من إجمالها بالإضافة إليه، الموجب للرجوع للأصل، وهو استصحاب النجاسة، كما تقدم.

(1) قال في الجواهر: «وأما غسلها بالقليل فصريح جماعة من المتأخرين - كظاهر آخرين - عدم حصول الطهارة به، بل في اللوامع نسبته لأكثر معتبري العصر، كما في المعالم إلى المعروف بين متأخري الأصحاب. لنجاسة الغسالة، وتوقف صدق مسمى الغسل بالقليل على العصر وما يقوم مقامه، أو على الانفصال الممتاز به عن الصب».

ومبنى الاستدلال المذكور على عدم انفصال ماء الغسالة بل ينفذ في باطن الأجسام المذكورة، فلا يتم شرط التطهير.

وهو - كما ترى - لا يطرد، بل قد يكون النافذ في باطن الجسم من سنخ الرطوبة غير المسرية مع انفصال ماء الغسالة بالنحو المعتبر في الأجسام الصلبة التي يكفي فيها الصب، فيتعين البناء على حصول التطهير في المقام.

وهو المتيقن من سيرة المتشرعة، حيث لا ريب في شيوع الابتلاء بنجاسة هذه الأمور، وعدم تيسر تطهيرها بالماء الكثير، بل يكتفون بتطهيرها بالقليل. ويؤيده ما ورد في تطهير لقمة الخبز التي وجدت في بيت الخلاء(1). نعم قد تنفذ الرطوبة المسرية بتوالي الصب الموجب لكثرة الماء. لكنه لا يهم لطهارة الماء المذكور.

هذا وأما لو نفذت الرطوبة المسرية من ماء الغسالة، لشدة رخاوة الجسم مع يبسه، فيتجه الوجه المذكور في الاستدلال. ويمكن الجواب عنه بناء على طهارة ماء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 39 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1، 2.

ص: 226

الغسالة وإن قلنا بلزوم انفصاله، لأن المعتبر انفصاله عن الموضع النجس، والمفروض في المقام انفصاله عن الظاهر النجس ونفوذه في الباطن. أما بناء على نجاسته فالانفصال المذكور إنما ينفع في طهارة الظاهر وحده، وهو خارج عن محل كلامهم.

وقد يستدل على طهارة الباطن حينئذ بوجوه:

الأول: أن المتخلف من ماء الغسالة في الأجسام المذكورة لا يزيد على المتخلف في سائر الأجسام، ولا يتجاوز المقدار المعفو عنه.

وفيه: أن المتخلف في سائر الأجسام ليس هو ماء الغسالة محضاً، بل هو إما ماء يخلف ماء الغسالة أو ماء مختلط بماء الغسالة مع انفصال المعظم من ماء الغسالة والمختلط به، أما في المقام فإذا فرض نفوذ شيء من ماء الغسالة لم يخرج، بل يبقى في الباطن، ولا دليل على العفو عنه. ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى زوال الاستقذار عرفاً إذ الاستقذار إنما يزول بزوال ماء الغسالة أو بتخفيفه.

الثاني: السير لشيوع الابتلاء بنجاسة هذه الأمور، وكثيراً ما لا يتيسر تطهيرها بالكثير، بل يطهرونها بالقليل.

وفيه: أنه لم يتضح بناؤهم على تطهيرها في صورة العلم بنفوذ الرطوبة المسرية من ماء الغسالة التي هي محل الكلام والتي لا يتضح شيوعها، والمتيقن من بنائهم على تطهيرها صورة نفوذ الرطوبة غير المسرية أو المسرية من الماء الزائد على ماء الغسالة بتوالي الصب، أو احتمال ذلك ولعل ذلك هو الذي يشيع الابتلاء به.

الثالث: إطلاقات أدلة الغسل الشاملة للأجسام المذكورة.

وفيه: أن الإطلاقات المذكورة - لو تمت - لا تقتضي العفو عن نجاسة ماء الغسالة، ونجاسة الباطن المتنجس به. نعم لو وردت أدلة خاصة في المقام لكشفت عن العفو، دفعاً للغوية. ويأتي الكلام في الأدلة المذكورة.

الرابع: لزوم الضرر أو لزوم العسر والحرج لو انحصر التطهير بالكثير.

ص: 227

وفيه: أنه إن أريد الضرر والحرج الشخصيان فهما إنما يرفعان التكليف، ولا ينهضان بإثبات الحكم الوضعي. وإن أريد الضرر والحرج النوعيان الكاشفان عن سعة الأمر في التطهير، فلم يثبت لزومهما في هذه الصورة، لعدم وضوح شيوع الابتلاء بها، ولعل الأشيع الصورة الأولى، كما سبق. ومن ثم يشكل البناء على حصول التطهير في الفرض.

هذا كله إذا لم تنفذ من النجاسة رطوبة مسرية للباطن، أما مع نفوذها فالأمر أشكل، لتعذر تطهير الباطن، حيث لا يصل إليه غالباً إلا رطوبة لا يصدق عليها ماء مطلق. ولو صدق لم يتحقق الاستيلاء، ولا انفصال ماء الغسالة بالوجه المعتبر في التطهير. ومن ذلك يظهر تعذر تطهيره حتى بالماء الكثير. غاية الأمر أنه قد يتيسر تطهير الظاهر فقط.

نعم إذا كان النافذ للباطن ماء مطلق، لصلابة الجسم مع وجود مسامات دقيقة فيه - كما يكثر في الخزف - أمكن تطهيره بنفوذ الماء فيه وخروجه بسبب تكاثر الصب، خصوصاً إذا جفف قبل التطهير. لكنه خارج عن محل الكلام.

هذا وقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أنه يمكن أن يستفاد امكان التطهير بالقليل والكثير من بعض النصوص منها: نصوص تطهير الأواني، على اختلاف عناوينها من قدح أو إناء أو دِنّ أو كوز أو ظرف، فإن إطلاق الاجتزاء في حصول الطهارة بمجرد الغسل للسطح الظاهر مع كثرة الموارد التي ترسب فيه النجاسة لكون الظرف من الخزف ونحوه دليل على طهارة الباطن بالتبعية.

ويشكل بأن أواني الخزف والخشب وإن كانت تنفذ فيها الرطوبة النجسة أو المتنجسة، إلا أن في كون الرطوبة النافذة مسرية إشكال أو منع. هذا مع جفافه، أما إذا كان مستنقعاً بالماء الطاهر ثم تنجس، فهو لا يمتص شيئاً من الرطوبة النجسة لإشباعه. واتصال الرطوبة التي فيه بالماء المتنجس لا يقتضي سريان النجاسة فيها بتمامها، لأن النجاسة لا تسري في الرطوبة المسرية بتمامها ما لم يصدق عليه أنها ماء.

ص: 228

إلا أن تكون فيها مسامات وثقوب دقيقة يصدق على النافذ فيها الماء، فيتعين نجاسته بتمامه في الباطن. لكن المسامات المذكورة كما ينفذ فيها الماء المتنجس ينفذ فيها الماء الطاهر عند التطهير فيطهرها، كما تقدم.

نعم يشكل الحال فيما لو كان النافذ هو الرطوبة المسرية النجسة التي لا يصدق عليها الماء، حيث لا تطهر بالاتصال بالماء الكثير فضلاً عن القليل، ولو جففت ثم غسل الإناء حتى نفذت الرطوبة المسرية منه لم تصلح لتطهير الباطن، لعدم صدق الماء عليها وعدم انفصال ماء الغسالة. فلو ثبت ذلك في المقام صح الاستدلال بالنصوص المذكورة.

لكنه لم يتضح بنحو معتد به، لأنه لا يعهد في الأواني الرخاوة بحيث تكون الرطوبة النافذة فيها عند جفافها مسرية.

وكيف كان لا إشكال في العفو عن الأواني المتخذة من المواد المعهودة في العصور السابقة وإن كانت الرطوبة تنفذ فيها في الجملة. إلا أنه لا طريق للتعدي منها إلى كل ما تنفذ فيه الرطوبة المسرية حتى مثل الصابون والطين.

ومنها: موثق السكوني عن جعفر عن أبيه H: «أن علياً سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة. قال: يهرق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل»(1) ورواية زكريا بن آدم: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير. قال: يهراق المرق... واللحم اغسله وكله»(2).

بدعوى أن اللحم مما تنفذ فيه الرطوبة المسرية، وقد طبخ بالماء المتنجس بالفأرة الميتة، فتنجس باطنه، ومع ذلك اكتفي بتطهيره بغسل ظاهره.

ويشكل بأن باطن اللحم لما كان بنفسه رطباً رطوبة مسرية فوجوده في الماء وغليانه فيه لا يوجب انتقال رطوبة مسرية له من الماء، لإشباعه برطوبته الأصلية.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف حديث: 3 ص 150.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8.

ص: 229

وإن كان لا يبعد حصول الطهارة للباطن بنفوذ الماء الطاهر فيه (1) على نحو يصل إلى ما وصل إليه النجس، فيغلب على المحل، ويزول بذلك الاستقذار

ومجرد تبدل طعمه وتأثره بطعم الماء في الملوحة والحموضة ونحوهما في الجملة لا يشهد بتبدل الرطوبة التي فيه برطوبة أخرى من الماء، لنفوذ الآثار المذكورة بالمجاورة، نظير نفوذ الرطوبة غير المسرية، ولذا يكون الأثر في باطن اللحم أضعف منه في الماء كثيراً. غاية الأمر أن رطوبته المذكورة متصلة بالماء النجس، وقد عرفت أن اتصال الرطوبة الطاهرة بالماء النجس لا يوجب سريان النجاسة فيها بتمامها.

ومنها: خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن أكسية المرعزي والخفاف تنقع في البول أيصلي عليها؟ قال: إذا غسلت بالماء فلا بأس»(1). وكأن وجه الاستدلال به أن الجلد تنفذ فيه رطوبة البول، والذي يغسل ظاهره لا غير.

ويشكل بأن الجلد الرقيق قد تنفذ فيه الرطوبة المسرية، إلا أنه ينفذ فيه الماء أيضاً عند التطهير بنحو يرتفع معه الاستقذار عرفاً. والجلد السميك يشكل نفوذ الرطوبة المسرية فيه. على أنه يكفي في الانتفاع بالخف طهارة ظاهره، حيث لا ينجس مباشره حينئذ برطوبة، أما نجاسة باطنه فلا أثر لها بعد كونه مما لا تتم الصلاة فيه.

وبالجملة: لا إشكال في إمكان تطهير الأواني والجلود ونحوها مما يكثر الابتلاء به، إلا أن التعدي منها لكل ما ينفذ فيه الرطوبة المسرية المتنجسة في غاية الإشكال، خصوصاً مثل الصابون والخبز السميك مما لا تكون الرطوبة في باطنه من سنخ الماء المطلق بل المضاف. فلاحظ.

(1) عرفت أن الذي ينفذ لا يصدق عليه ماء مطلق غالباً، وحينئذ كيف يحصل التطهير؟!.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 71 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 230

(231) العرفي، لاستهلاك الأجزاء المائية النجسة (1) الداخلة فيه إذا لم يكن قد جفف، وإن كان التجفيف أسهل في حصول ذلك، وإن كان النافذ في باطنه الرطوبة غير المسرية فقد عرفت أنه لا يتنجس بها.

(مسألة 2): الثوب المصبوغ بالصبغ المتنجس يطهر بالغسل بالكثير إذا بقي الماء على إطلاقه إلى أن ينفذ إلى جميع أجزائه (2). بل القليل أيضاً إذا

(1) الاستهلاك لا ينفع مع التطهير بالماء القليل، لأن الأجزاء المائية تنجس ما يرد عليها قبل استهلاكها فيه. وإنما يتجه ذلك في الماء الكثير. لكنه لا يحتاج للاستهلاك، إذ يكفي اتصال الماء النجس بالمعتصم في طهارته. فلا مانع من حصول التطهير إذا فرض كون النافذ ماء مطلقاً، كما سبق. وكذا التطهير بالماء القليل حينئذ إذا كان الوارد بسبب كثرة الماء موجباً لانفصال ماء الغسالة، كما سبق أيضاً.

(2) يعني وإن صار بعد ذلك أو حين العصر مضافاً. لكن لا مجال لذلك بناء على أخذ العصر في الغسل المطهر، حيث لابد من بقاء الماء على الإطلاق إلى نهاية الغسل المطهر، وأما بناء على ما تقدم من عدم أخذه فيه، وأنه يكفي في التطهير وصول الماء واستيلاؤه على الموضع النجس فقد يشكل بأن خروج الماء الذي في الثوب بالعصر عن الإطلاق ملازم غالباً لكثرة الصبغ النجس في الثوب بنحو يمنع من استيلاء الماء المطلق عليه.

وبعبارة أخرى: الأجزاء المائية المستولية على ظاهر الثوب وإن لم تخرج قبل العصر عن الإطلاق، إلا أن الأجزاء المائية النافذة فيه التي هي دخيلة في تطهيره ولا ترى قبل العصر لابد أن تخرج عن الإطلاق في الفرض المذكور، لأنها بعض قليل من المنفصل بالعصر المفروض خروجه بسبب اختلاطها به عن الإطلاق.

مضافاً إلى ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن خروج الماء بالعصر عن الإطلاق يكشف عن عدم زوال أجزاء الصبغ المتنجس عن الثوب باستيلاء الماء عليه، ولابد في

ص: 231

كان الماء باقياً إلى أن يتم عصره (1).

التطهير من زوال عين المنجس وأثره عن المتنجس.

على أنه لو فرض مطهرية الماء للثوب باستيلائه على الموضع النجس وزوال أجزاء الصبغ عنه. إلا أن خروج الماء عن الإطلاق يستلزم أن يكون للصبغ النجس وجود عرفي فينجس الماء المضاف لعدم عاصمية الكثرة له، فينجس به الثوب حين العصر وإن طهر قبله.

إلا أن يفرض كون انقلاب الماء عن الإطلاق ليس من جهة اختلاطه بأجزاء الصبغ، بل من جهة انفعاله وتأثره بها من دون أن يكون لها وجود عرفي في الثوب. أو يفرض تماسك أجزاء الصبغ - كالرمل بحيث تنفصل عن الثوب، قبل العصر ويطهر ظاهرها بالماء أيضاً، وإنما تنحل وتمتزج بالماء وتخرجه عن الإطلاق بعد انفصاله عن الثوب. لكن لا واقع للفرضين المذكورين.

(1) أما بناءً على ما سبق منّا في الكثير فظاهر. وأما بناء على الاكتفاء فيه بإطلاق الماء إلى أن ينفذ في جميع أجزاء الثوب وإن خرج عن الإطلاق بالعصر بعد ذلك فقد يوجه بأن مقتضى عموم الانفعال نجاسة الماء المذكور ونجاسة الثوب بملاقاته وبتخلفه فيه. والمتيقن من الخروج عن ذلك ما إذا بقي الماء على الإطلاق إلى حين الانفصال، أما مع خروجه عنه قبل الانفصال فلا مخرج عن عموم الانفعال.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن أدلة التطهير تدل بالدلالة الالتزامية على طهارة المتخلف، فإطلاقها محكم.

فيندفع بأن المدلول الالتزامي لها هو العفو عن نجاسة الماء المطهر بسبب التطهير، أما العفو عن نجاسة غيره مما خرج عن الإطلاق فهو خارج عن المدلول الالتزامي، فلا مخرج عن عموم الانفعال. ولعله لذا لم يعتد (قدس سره) بذلك في فتواه.

ومما ذكرنا يظهر الحال في الثوب المتنجس المصبوغ بصبغ طاهر، فإنه لابد في

ص: 232

(233) (مسألة 3): العجين النجس يشكل تطهيره وإن خبز وجفف إلا إذا وضع في الكثير على نحو ينفذ الماء إلى أعماقه (1)، ولا يكفي نفوذ الرطوبة والأجزاء المائية إذا لم يصدق عليها الماء، ولا يجري عليه حكم الخبز المتنجس الذي نفذت الرطوبة النجسة إلى أعماقه (2). ومثل العجين النجس الطين

تطهيره بالكثير والقليل من عدم خروج الماء عن الإطلاق قبل العصر ولا بعده، لعين الوجوه المتقدمة، أو أكثرها. فلاحظ.

(1) بحيث ينفذ فيه ويستولي على تمام سطوح أجزائه الدقيقة الماء المطلق، لا رطوبة الماء المطلق ولا الماء المضاف. لكن الفرض المذكور بعيد جداً، بل غير واقع.

(2) فقد ذكر (قدس سره) أن النصوص المتقدمة التي سبق منه الاستدلال بها مختصة بالتنجس بعد الإنجماد، ولا تشمل المقام. لكن سبق المنع من دلالة النصوص هناك أيضاً.

على أن الاستدلال بالنصوص المذكورة إن ابتنى على دلالتها على طهارة الباطن تبعاً، مع كون المغسول هو الظاهر لا غير لم يحتج إلى ما سبق منه (قدس سره) من لزوم نفوذ الماء الطاهر في الباطن ووصوله إلى ما وصل إليه النجس، بحيث يغلب على المحل ويزول الاستقذار العرفي، لاستهلاك الأجزاء المائية النجسة.

وإن ابتني على طهارته بالماء النافذ فيه لكفاية ذلك في التطهير وزوال الاستقذار العرفي، نظير ما قيل من أن غسل كل شيء بحسبه، فذلك يقتضي التعدي لما إذا كان التنجيس قبل الإنجماد، لعدم الفرق ارتكازاً بينهما من حيثية الاستقذار.

نعم يفرق بينهما بمرسل ابن أبي عمير: «قيل لأبي عبد الله (عليه السلام) في العجين يعجن بماء نجس كيف يصنع به؟ قال: يباع ممن يستحل أكل الميتة»(1) ، وفي مرسله الآخر:

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الأسئار حديث: 1.

ص: 233

(234)النجس الذي صنع إناء، فإنه لا يجري عليه حكم الإناء المتنجس.

(مسألة 4): المتنجس بالبول غير الآنية إذا طهر بالقليل فلابد من الغسل مرتين (1)

«ويدفن ولا يباع»(1). لظهورهما في عدم قابلية العجين المذكور للتطهير. فتأمل.

(1) وفاقاً للمشهور بين المتأخرين، كما في الجواهر. وهو المشهور بين الأصحاب، كما في المدارك والحدائق، بل في المعتبر أنه مذهب علمائنا، وعن الذخيرة أن عليه عمل الطائفة.

لصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): «سألته عن البول يصيب الثوب. قال: اغسله مرتين»(2) وفي صحيحه الآخر: «اغسله في المركن مرتين»(3) ومثل الأول معتبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله(4) (عليه السلام) وصحيح أبي إسحاق النحوي عنه (عليه السلام): «سألته عن البول يصيب الجسد. قال: صب عليه الماء مرتين»(5) وصحيحي الحسين ابن أبي العلاء والبزنطي الواردين(6) في الثوب والبدن معاً والمتقدمين في تحديد مفهوم الغسل.

هذا وفي المنتهى بعد أن أفتى بوجوب غسل الثوب من البول مرتين واستدل عليه بالنصوص المتقدمة قال: «والأقرب عندي وجوب الإزالة، فإن حصل بالمرة الواحدة كفى». وهو ظاهر المبسوط والنهاية والقواعد، وعن صريح البيان. وكأنه للإطلاقات المقامية لأدلة طهورية الماء، وإطلاق جملة من النصوص المتضمنة للغسل، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الأسئار حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 2، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 2، 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، 7.

ص: 234

لحمه»(1) ، وصحيح ابن جعفر الوارد في غسل الفراش إذا أصابه البول(2) ، المتقدم عند الكلام في الاكتفاء بتوالي الصب في انفصال ماء الغسالة، وغيرها.

لكن لابد من رفع اليد عن الإطلاقات المقامية بنصوص التعدد المتقدمة. كما يتعين تقييدها لأدلة الغسل أو كونها قرينة على سوق بعضها - كصحيح عبد الله بن سنان - لبيان حصول النجاسة من دون نظر لمقدار الغسل الواجب، وسوق بعضها

- كصحيح ابن جعفر - لبيان كيفية غسل المتنجس من دون نظر لمقدار الغسل.

هذا وفي نهاية الأحكام الاكتفاء بالمرة مع الجفاف. إما لأن المطلوب من الغسل هو إزالة العين، والجاف ليس له عين، فيكتفي فيه بالمرة، أو لأن طهورية الماء شرعاً مقتضى تأثيره في الطهارة باستعماله. وهما كما ترى، لمنع الأول كبروياً بل صغروياً كما سيأتي. والثاني راجع إلى الاستدلال بإطلاق الطهورية المقامي الذي سبق لزوم رفع اليد عنه بأدلة التعدد.

نعم قد يستدل له بصحيح الحسين بن أبي العلاء المتقدم على ما في المعتبر والذكرى من روايته هكذا: «وعن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله مرتين، الأول للإزالة والثاني للانقاء».

لكنه يشكل أولاً: بعدم ثبوت الزيادة المذكورة، وقرب كون ذكرها للاجتهاد منها في علة الحكم، لا على أنها جزء من الرواية، كما يناسبه خلو كتب الحديث عنها، على ما ذكره غير واحد. نعم عن عوالي اللآلي ذكره مرسلاً عن الإمام الصادق(3) (عليه السلام). ولعله أخذه منهما.

وثانياً: بأن الجفاف لا يستلزم ارتفاع البول، بل يبقى أثره عرفاً، كما يناسبه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 235

قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي المتقدم: «فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً»(1). إذ لو كان متمحضاً في الماء الذي يذهب عرفاً بالجفاف لم يحتج للغسل المبني على العناية في تعميق الماء، كما تقدم بل هو لا يناسب إطلاق صحيح الحسين نفسه لو تمت الزيادة فيه، لظهوره في احتياج البول للإزالة بالغسل مطلقاً وإن جف.

وثالثاً: بأن ذلك لا يناسب نصوص التعدد. قال سيدنا المصنف (قدس سره): «لأنه يؤدي إلى حمل النصوص على صورة وجود العين، وهو خلاف الغالب، وإلى حمل الأمر بالغسلة الأولى على الحكم العرفي لا الشرعي، وعلى التخييري لا التعييني، لأن الإزالة كما تكون بالغسل تكون بالشمس وبالهواء وبالمسح بشيء وبغيرها، وكل ذلك خلاف الظاهر، بل خلاف السياق مع الأمر بالغسلة الثانية» فلو تمت الزيادة المذكورة تعين حمل الإزالة على إزالة الأثر ولو مع الجفاف، أو حمل الإنقاء على تأكيد الطهارة والاستظهار فيها.

وفي المدارك وعن المعالم الاقتصار في المرتين على الثوب، والاكتفاء بالمرة في غيره. لضعف أدلة التعدد فيه.

لكن يظهر مما سبق منعه، حيث قد دل على ذلك الصحيح إلى أبي إسحاق النحوي الذي قال النجاشي في حقه: «كان وجهاً في أصحابنا قارئاً فقيهاً لغوياً راوية، وكان حسن العمل كثير العبادة والزهد». وروى الكشي في حقه عن حمدوية عن محمد بن عيسى أنه ثقة خير فاضل مقدم معلوم في العلماء والفقهاء الاجلة من هذه العصابة. وقد روى عنه جماعة من أعيان أصحابنا منهم البزنطي الذي قيل إنه لا يروي إلا عن ثقة.

كما دلّ عليه صحيح الحسين بن أبي العلاء، الذي قال النجاشي عنه وعن أخويه: «روى الجميع عن أبي عبد الله (عليه السلام) وكان الحسين أوجههم»، وهو من رجال كامل الزيارات وتفسير القمي، وروى عنه جماعة من الأعيان، منهم صفوان بن يحيى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 236

(237)وابن أبي عمير اللذين قيل إنهما لا يرويان إلا عن ثقة. وكذا صحيح البزنطي الذي رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن كتابه. وظاهر نقله عنه اطلاعه على أنه كتابه بطريق ملحق بالحس، لاشتهار الكتاب في عصره.

بقي في المقام أمور:

الأول: قال سيدنا المصنف (قدس سره): «ثم إنه قد اقتصر في النصوص وكثير من فتاوى الأصحاب على الثوب والبدن، فالتعدي إلى غيرهما محتاج إلى دعوى إلغاء خصوصيتهما عرفاً، كما هو الظاهر وقد قيل: إن التوقف فيه من الخرافات». وفي الجواهر أنه قد يدعى القطع بعدم الفرق من الإجماع أو غيره، وأن الظاهر ممن اقتصر على الثوب والبدن التمثيل.

لكن عن المعالم والذخيرة احتمال الاقتصار عليهما، بل استظهر ذلك في الحدائق ومحكي اللوامع، وأصر عليه بعض مشايخنا (قدس سره) لعدم القطع بعدم دخل خصوصية الثوب والبدن في الحكم، بل يقوى احتمال اختصاص الثوب والبدن باهتمام الشارع بالمحافظة على المرتبة الشديدة من الطهارة. ولاسيما بعد ملاحظة اختلاف حكم الشارع باختلاف الموارد، فأوجب التثليث في الإناء، من دون أن يتعدى لغيره مما هو من جنسه، كالصفر والخزف، واكتفى في الاستنجاء من الغائط بكل ما يرفعه، من دون أن يتعدى لغيره مما ينجس المحل، كالدم.

وهو كما ترى، إذ يكفي في التعدي غفلة العرف عن الخصوصية، بحيث يفهم من النص العموم وإن لم يقطع به بعد التنبيه له، وهي حاصلة في المقام. كيف ولازم الاختصاص أنه لو تنجس الصوف والقطن والغزل ونحوها بالبول كفى في تطهيرها قبل النسج، بل بعده أيضاً قبل أن يصدق عليها عنوان الثوب مرة واحدة.

وخصوصية الإناء عرفاً بلحاظ هيئته حيث يرسب فيه ماء الغسالة لمناسبة ذلك لاحتياج طهارته لعناية زائدة، ولذا يعم التثليث عرفاً كل ما يشاركه في هيئته وإن لم يكن إناء، ويقصر عن الإناء الذي لا يرسب فيه ماء الغسالة. وتطهير مخرج الغائط

ص: 237

(238)خاص بمورده، لخصوصيته في شيوع الابتلاء به، كعدم تنجيس ماء الاستنجاء.

فلا يمنع ذلك من فهم عدم الخصوصية في المقام، الراجع لعدم الفرق ارتكازاً بين المتنجسات في كيفية التطهير إلا ما استثني، كعدم الفرق بين الأجسام في الانفعال، مع كثرة اختصاص النصوص ببعضها كالثوب والبدن، وإن ثبتت بعض المستثنيات، كالبواطن، وكماء الاستنجاء الذي ذهب جماعة إلى عدم انفعاله بالنجاسة. فلاحظ.

نعم قد يناسب ذلك ما تقدم في صحيح علي بن جعفر في الفراش الذي يكون كثير الصوف من الأمر بغسل ظاهره وصب الماء حتى يخرج من الجانب الآخر(1) ، وما تقدم في خبره من إطلاق الغسل في أكسية المرعزي والخفاف التي تنقع في البول(2).

لكن الظاهر ورود الأول لبيان كيفية الغسل، والثاني لبيان إمكان تطهيرهما بالغسل، فلا إطلاق لهما ينفي التعدد ولا أقل من لزوم حملهما على ذلك، أو تقييدهما، جمعاً مع نصوص التعدد بناء على ما سبق من إلغاء خصوصية مواردها.

الثاني: مقتضى إطلاق نصوص التعدد العموم لكل بول نجس. وانصرافها لبول الإنسان بدوي لا منشأ له ارتكازي، فلا يخرج به عن الإطلاق. ولاسيما بملاحظة موثق سماعة: «سألته عن أبوال السنور والكلب والحمار والفرس. قال: كأبوال الإنسان»(3) واحتمال سوقه لبيان أصل النجاسة، خلاف إطلاق التشبيه.

ودعوى: أن مقتضى إطلاق مثل صحيح عبد الله بن سنان: «قال أبو

عبد الله (عليه السلام): اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»(4) الاكتفاء بالمرة.

مدفوعة بأن لا إطلاق له من هذه الجهة، بل هو وارد لبيان أصل النجاسة. وإلا فمن البعيد وروده للإطلاق من هذه الجهة مع خروج بول الإنسان منه الذي هو أكثر أفراد البول شيوعاً في الابتلاء. على أنه لو تم إطلاقه تعين اليد عنه بنصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 71 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 7، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 7، 2.

ص: 238

(239) والمتنجس بغير البول يكفي في تطهيره غسلة واحدة (1). هذا مع زوال

التعدد بعدما سبق.

الثالث: قال في المدارك: «ظاهر عبارات الأصحاب اعتبار الفصل بين الغسلتين لتحقق التعدد، ونقل عن ابن الجنيد التصريح بذلك. واكتفى الشهيد في الذكرى باتصال الماء بقدر الغسلتين. وهو مشكل. نعم لو كان الاتصال بقدر زمان الغسلتين والقطع أمكن الاكتفاء به فيما لا يعتبر تعدد العصر فيه، لأن اتصال الماء لا يكون أضعف حكماً من عدمه».

لكنه كما ترى تخرص لا يخرج به عن ظاهر نصوص التعدد. ولاسيما مع غلبة عدم الاقتصار في الصب على الأقل الذي يتحقق به المسمى، فلو كان استمرار الصب كافياً لزم كثرة الاستغناء عن التعدد، وهو مما تأباه النصوص جداً.

(1) كما هو ظاهر جماعة وصريح آخرين، بل لعله المشهور المعروف بين الأصحاب، حيث اقتصروا على البول في التنبيه على التعدد، ولم يشيروا له في غيره من النجاسات. وكيف كان فقد يستدل عليه بوجهين:

الأول: إطلاقات الغسل في النصوص الكثيرة الواردة في النجاسات.

لكن استشكل في الاستدلال بأنها واردة لبيان حصول النجاسة من دون نظر إلى كيفية التطهير منها فلا إطلاق لها من هذه الجهة.

وما ذكر قد يتجه في بعضها، كقوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان المتقدم: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»(1) ، إلا أنه لا يطرد في جميعها، بل كثير منها ظاهر في بيان الوظيفة عند إصابة النجاسة، فيكون مقتضى إطلاقها الاكتفاء بالغسلة الواحدة. ولا ينافي ذلك في استفادة النجاسة منها، فإن ذلك أعم من كونها مسوقة لها، بحيث لا نظر فيها لبيان الوظيفة، كي لا يتم لها الإطلاق من هذه الجهة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 239

ولاسيما مثل قوله (عليه السلام) في صحيح الفضل: «إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، وإن مسه جافاً فأصبب عليه الماء»(1). فإن التعرض لحكم حالتي الجفاف والرطوبة ظاهر جداً في بيان الوظيفة في كلتا الحالتين. وكذا مثل قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي: «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه، فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء»(2) إلى غير ذلك مما لا ريب في ظهوره في بيان الوظيفة، ولسانه مشابه للسان نصوص التعدد، غايته أن نصوص التعدد مقيدة، وهذه النصوص مطلقة.

وأظهر منها في ذلك صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الفراش يصيبه الاحتلام كيف يصنع به؟ قال: اغسله، وإن لم تفعله فلا تنام عليه حتى ييبس...»(3) ، ومعتبر علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الشطرنج: «فقال: المقلب لها كالمقلب لحم الخنزير. فقلت: ما على من قلب لحم الخنزير؟ قال: يغسل يده»(4).

بل في معتبر مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه قال: «قال جابر بن عبد الله الأنصاري: إن دباغة الصوف والشعر غسله بالماء. وأي شيء يكون أطهر من الماء»(5). وليس هو وارداً لبيان النجاسة، بل لبيان مطهرية الغسل بعد الفراغ عن النجاسة، ومن الظاهر أن مقتضى إطلاقه مطهرية مسمى الغسل. ومن ثم لا ينبغي التأمل في تمامية إطلاق جملة من نصوص الغسل.

نعم قد يستشكل في مورد لا إطلاق فيه. إلا أن يدفع بعدم القول بالفصل، أو بفهم عدم الخصوصية لموارد النصوص المتفرقة ولو بضميمة ارتكاز أن مطهرية الغسل شرعاً متفرعة على مطهريته عرفاً، وإلا لكثر السؤال في خصوصيات الموارد، لشدة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب النجاسات حديث: 9.

(4) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 103 من أبواب ما يكتسب به حديث: 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 240

الحاجة لذلك، لعدم الضابط لموارد القطع بحصول التطهير لو بني على التشكيك، فعدم السؤال عن ذلك شاهد بفهم عموم مطهرية الغسل. وإنما وقع السؤال عن كيفية التطهير في بعض الموارد لخصوصية فيها مثيرة للشك والسؤال، كالأواني التي يستقر فيها ماء الغسالة والفراش الثخين الكثير الصوف الذي يصعب غسله.

الثاني: عموم مطهرية الماء الذي تقدم تقريبه في أول الفصل، فإنه وإن لم يكن وارداً لبيان كيفية التطهير، إلا أنه تقدم أن مقتضى إطلاقه المقامي الإيكال في كيفية التطهير للعرف، وهو يكتفي بالغسل واستيلاء الماء على الموضع النجس مرة واحدة.

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن التطهير من النجاسات من مخترعات الشارع التي لا يدركها العرف، ليرجع إليه فيها. فيندفع بأن الذي قد لا يدركه العرف هو استخباث بعض النجاسات واستقذارها، أما مطهرية الماء من القذر فهو أمر عرفي ارتكازي.

ومثله ما ذكره (قدس سره) من أن القذارات العرفية يختلف التطهير منها بنظر العرف، وبعضها يحتاج للتعدد. لإندفاعه بأن الاحتياج للتعدد عند العرف إنما هو لصعوبة زوال عين القذر في بعض الحالات، أما مع زوال عين القذر فلا يحتاج التطهير إلى أكثر من مرة، بل يكفي استيلاء الماء على الموضع القذر وتنقيته له.

ومن ثم لا ينبغي التأمل في العموم المذكور، ولاسيما بملاحظة ما سبق في آخر الوجه الأول من ظهور ارتكازيته عند المتشرعة من عدم السؤال في خصوصيات الموارد. فلاحظ.

هذا وقد يستدل على التعدد بصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: ذكر المني وشدده وجعله أشدّ من البول ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك. وكذلك البول»(1). بدعوى أن أشدية المني من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 241

العين قبل الغسل، أما لو أزيلت بالغسل فالأحوط عدم احتسابها (1)

البول لا تناسب الاكتفاء في تطهيره بالمرة مع لزوم المرتين في البول، وما في صحيحي الحسين بن أبي العلاء والبزنطي(1) المتقدمين من تعليل الصب مرتين في البول بأنه ماء، حيث لا يناسب ذلك الاكتفاء في غير البول مما له كثافة بالمرة.

وهو كما ترى لإجمال جهة الأشدية في صحيح محمد بن مسلم، بل لعل المتبادر منها أشدية النجاسة والخباثة، وهي لا تستلزم الأشدية في التطهير. بل لو كان المراد الأشدية في التطهير فلعلها بلحاظ احتياج إزالة المني للعناية بسبب كثافته، لا بلحاظ لزوم التعدد وذلك هو الظاهر من التعليل في صحيحي الحسين والبزنطي. ومن ثم لا مخرج عما سبق من الإطلاق المقتضي للاكتفاء بالمرة.

(1) قد اختلفت كلماتهم في المقام، فظاهر القواعد والجواهر احتساب الغسلة المزيلة مطلقاً وينسب لجماعة عدم احتسابها مطلقاً. وظاهر المعتبر التفصيل بين البول وغيره، فتحسب الغسلة المزيلة من الغسلتين الواجبتين في البول، كما هو مقتضى الزيادة التي تقدمت منه في ذيل صحيح الحسين بن أبي العلاء، ولا تحسب من الغسلة الواجبة في غيره، حيث قال: «وهل يراعى العدد في غير البول؟ فيه تردد. أشبهه يكفي المرة بعد إزالة العين، لقوله (عليه السلام) في دم الحيض: حتيه ثم اغسليه، والأمر المطلق يتناول المرة».

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في أن مقتضى إطلاق نصوص التعدد في البول احتساب الغسلة المزيلة، بل هو المقطوع به منه، بسبب عدم التنبيه للزوم إزالة البول قبل الغسلتين.

ولاسيما مع ما تضمنه صحيحا الحسين بن أبي العلاء والبزنطي من تعليل الاكتفاء بالصب مع إصابة البول للجسد بأنه ماء، لرجوعه إلى أن البول لما كان رقيقاً

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات حديث: 4، 7.

ص: 242

كالماء فلا نحتاج إزالته فيما لا يرسب فيه من الأجسام إلى أكثر من صب الماء عليه من دلك أو نحوه مما يتحقق به الغسل.

وكذا ما تضمنه صحيح نشيط بن صالح من الاكتفاء في الاستنجاء بمثلي ما على الحشفة من الماء، حيث سبق في مبحث الاستنجاء أن مقتضى الجمع بينه وبين نصوص التعدد تقسيم الماء المذكور على الصبتين الراجع إلى إزالة أثر البول من المخرج بمثله في الصبة الأولى، ومن الظاهر أن المثل لقلته لا يستمر صبه بعد زوال الأثر. وذلك وإن أمكن أن يختص بالاستنجاء تخفيفاً، إلا أنه صالح للتأييد في المقام.

ومما سبق يظهر الحال في بقية إطلاقات الغسل في التطهير، لأن الغسل ارتكازاً إنما يحتاج إليه لإزالة العين والأثر كما سبق، فالاكتفاء به في التطهير من دون تنبيه للزوم إزالة العين والأثر قبله كالصريح في احتساب الغسلة المزيلة، ولاسيما قوله (عليه السلام)

في صحيح الحلبي المتقدم الوارد في بول الصبي: «تصب عليه الماء فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً»(1) وما في موثق عمار المتقدم: «وقال في قدح أو إناء يشرب في الخمر قال: تغسله ثلاث مرات. وسئل: أيجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات»(2). إذ هما كالصريحين في أن إزالة العين والأثر بالغسل أو الدلك إنما تكون بالغسل المطهر لا قبله.

وكذا صحيح هارون بن حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: يجزيك من الغسل والاستنجاء ما ملأت [بلت خ. ل] يمينك»(3). فإن قلة ماء الاستنجاء لا تناسب اعتبار إزالة العين قبل الغسل المطهر، إلى غير ذلك، مما يكون الأمر معه من الواضحات.

وأما النبوي الذي استدل به المحقق (قدس سره) في المعتبر فيشكل الاستدلال به أولاً: لضعف النبوي المذكور، لعدم روايته من طرقنا مسنداً، وقد ورد بصور مختلفة في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 13 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 2.

ص: 243

كتب العامة بعضها خال عن الحتّ.

وثانياً: لأن الحت وإن كان هو الحك والإزالة بالظفر ونحوه، إلا أن الحديث قد ورد في الدم الذي يصيب الثوب - كما في جملة من طرقه - ومن الظاهر أنه لا يزول بالحت، لنفوذه في الثوب، فلابد من كون الحت من أجل إزالة ما تكثف من الدم أو من أجل تليين موضعه ليسهل نفوذ الماء فيه وإزالة الدم عنه بالغسل، وهو أجنبي عن المدعى. ومن ثم لا ينهض بالخروج عما سبق من الإطلاقات المقتضي لاحتساب الغسلة المزيلة للعين.

بقي في المقام أمران:

الأول: انه لابد في الغسلة خصوصاً المزيلة لعين النجاسة من كثرة الماء بنحو يستولي على العين ويغلب النجاسة عرفاً، لأن ذلك هو اللازم عرفاً في الغسل المطهر والذي يزول به الاستقذار، والذي سبق حمل أدلة التطهير بالماء عليه.

نعم قد ينافيه ما سبق في صحيح صالح بن نشيط من الاكتفاء في الاستنجاء من البول بمثلي ما على الحشفة من الماء وما سبق في صحيح هارون بن حمزة من الاكتفاء في الاستنجاء من الغائط بما يملأ اليمين أو يبلها. لما هو المعلوم من قلة الماء المذكور فيهما. لكن لو تم عدم تحقق الاستيلاء بالنحو المتقدم في مورديهما فاللازم الاقتصار عليهما، لقرب احتمال ابتناء الحكم فيهما على التخفيف بسبب كثرة الابتلاء بهما.

الثاني: أنه بعد البناء على احتساب الغسلة التي بها زوال عين النجاسة فهل يلزم إزالة العين بالغسلة الأولى فيما يعتبر فيه التعدد، كما يظهر من المعتبر، أو يكفي زوالها بمجموع الغسلات المعتبرة في التطهير، كما يظهر من الجواهر؟

الظاهر الأول، لأن مطلقات الغسل تقتضي الاكتفاء بغسلة واحدة مزيلة العين، كما سبق، والمنصرف من أدلة التعدد اعتبار الغسل مرة أو مرات زائدة على ذلك، لا لزوم تقسيم الغسل المطهر إلى غسلات، فالغسلة الأولى التي لا يتم بها زوال العين خارجة عن الغسل المطهر موضوعاً، ولابد في الغسل المطهر من غسل آخر

ص: 244

غيرها. ولاسيما بلحاظ التعليل في صحيحي الحسين بن أبي العلاء والبزنطي للاكتفاء بالصب عند إصابة البول للجسد بأنه ماء، لرجوعه إلى زوال البول بمجرد الصب المستلزم لكون الصبة الثانية حال عدم بقاء البول.

مضافاً إلى ما أشار إليه بعض مشايخنا (قدس سره) من أن أدلة التعدد وإن تضمنت عنوان الإصابة أو نحوها مما لا يصدق بعد الغسلة الأولى التي لا يتم بها زوال العين، إلا أن المناسبات الارتكازية تقضي بأن الموضوع هو أثر ذلك، وهو الملاقات بين النجاسة والمتنجس بها الذي يراد تطهيره بالغسل، وحينئذ فالأثر المذكور لما كان باقياً بعد الغسلة الأولى التي لا يتم بها زوال العين فمقتضى أدلة التعدد لزوم العدد كاملاً في التطهير منه، وذلك لا يكون إلا بكون مبدأ العدد الغسلة التي يتم بها زوال العين.

ودعوى: أن ذلك لا يناسب موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر قال: تغسله ثلاث مرات. وسئل: أيجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات»(1). لأن اعتبار الدلك في الغسلات الثلاث يناسب بقاء عين النجاسة حين كل منها.

مدفوعة بأن الموثق لم يتضمن فرض عدم زوال عين النجاسة قبل الغسلة الثالثة، لينفع فيما نحن فيه، بل مقتضى إطلاقه وجوب الدلك في الغسلتين الأخريين حتى مع زوال عين النجاسة بالغسلة الأولى، بل لعل ذلك هو منصرف الدلك المفروض فيها، فيتعين حمله على لزوم الدلك في بقية الغسلات للاستظهار تعبداً لا لبقاء عين النجاسة، ويختص بمورده خروجاً عن مقتضى القاعدة، نظير ما تقدم في ذيل الكلام في مفهوم الغسل.

ولو لم يكن البناء على وجوب الدلك بعد زوال عين النجاسة بالدلك في المرة الأولى، تعين حمله على بيان مجرد وجوب الدلك المزيل للعين من دون نظر إلى وقته، وحينئذ يكون مقتضى إطلاقه وجوب الدلك المذكور مرة واحدة، ويتعين البناء على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 245

(246) إلا إذا استمر إجراء الماء بعد الإزالة، فتحسب حينئذٍ (1)، ويطهر المحل بها إذا كان متنجساً بغير البول. ويحتاج إلى أخرى إن كان متنجساً بالبول.

(مسألة 5): الآنية إن تنجست بولوغ الكلب فيما فيها من ماء أو غيره مما يصدق معه الولوغ غسلت ثلاثاً (2)،

لزوم إيقاعه في الغسلة الأولى أو قبلها، لما سبق. فلاحظ.

(1) بلا إشكال، لصدق الغسل بعد زوال العين بلحاظ الاستمرار المذكور. وخصوصية حدوث الغسل قبل زوال العين ملغية عرفاً، بل قطعاً.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعى عليه الإجماع في الانتصار والخلاف والغنية، وفي المنتهى والذكرى أنه إجماع ممن عدا ابن الجنيد، فأوجب غسله سبعاً.

ويقتضيه صحيح البقباق: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة... والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلا سألته عنه. فقال: لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله، واصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب أول مرة، ثم بالماء»(1) بناء على روايته هكذا: «ثم بالماء مرتين» كما في الخلاف والمعتبر والتذكرة والمختلف وجامع المقاصد وعن عوالي اللآلي والمنتهى والذكرى وغيرها.

نعم رواه كما سبق خالياً عن لفظ المرتين في التهذيبين والخلاف في مسألة سؤر السباع والبهائم. إلا أنه يوهنه ويعضد الأول أمور:

الأول: أن الشيخ في الخلاف عند نقله للحديث مشتملاً على الزيادة أبعد من الخطأ منه عند نقله له خالياً عنها، لأنه نقله مشتملاً على الزيادة في موضع الحاجة إليها والاستدلال بها، وهو حكم الولوغ، ونقله خالياً عنها في موضع أجنبي عنها وهو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الأسئار حديث: 1.

ص: 246

حكم البهائم والسباع، حيث قد يبتني إهمالها على عدم تركيزه عليها لعدم حاجته لها.

الثاني: أنه قد ساق الحديث في التهذيب دليلاً لما ذكره في المقنعة من وجوب التثليث في الولوغ، ولم يذكر غيره دليلاً لذلك. وهو مناسب جداً لاشتمال الحديث على الزيادة والخطأ منه في حذفها.

الثالث: أن الزيادة المذكورة مناسبة جداً لفتوى الشيخ (قدس سره) نفسه بالتثليث في النهاية والمبسوط والخلاف، وفتوى الصدوق في الفقيه والمقنع، وأبيه من قبل في رسالته - على ما حكي - بل جمهور الأصحاب، حتى عدّ من متفردات الإمامية، وسبق نقل إجماعهم على ذلك.

الرابع: أن قوله (عليه السلام) في الصحيح: «واغسله بالتراب أول مرة» يناسب تعدد المرات في الولوغ، كما في سائر موارد تطهير الإناء، ولو كفت غسلة واحدة بالماء بعد التراب لكان المناسب أن يقول: «واغسله بالتراب ثم بالماء»، أو: «واغسله بالتراب أولاً ثم بالماء». وذلك يوجب الريب في نقل الصحيح خالياً عن لفظ المرتين، بنحو لا يبعد معه سقوطه عن الحجية وتعين النقل الآخر.

ولا أقل من سقوط نقل الشيخ في كتبه بالمعارضة والرجوع إلى رواية الآخرين، حيث لا يبعد نقل بعضهم - كالمحقق في المعتبر - عن كتب مشهورة اطلعوا عليها، إذ من البعيد جداً خطؤهم في نقل الزيادة.

ودعوى: سقوط نقلي الشيخ في الخلاف بالمعارضة، وبقاء نقله في التهذيبين بلا معارض، فيقدم على نقل الآخرين، لأنه مسند فيهما. مدفوعة بأن ذلك إنما يتم لو اختلفت نسخ الخلاف في النقل الواحد. أما حيث كان الاختلاف بين نقلين في موضعين منه فلا وجه لاختصاص التعارض بهما دون النقل في التهذيبين مع وحدة الناقل في الكل.

أما ما في المدارك من احتمال كون زيادة المرتين في المعتبر خطأً من الناسخ وتقليد

ص: 247

غيره له في ذلك. ففيه: أن استدلال المحقق في المعتبر بالحديث للتثليث لا يناسب كون زيادة لفظ المرتين خطأ من الناسخ، ووجوده في الخلاف وفتوى من عرفت به لا يناسب ابتناء النقل المذكور على تقليد الخطأ المذكور.

نعم في بلوغ ذلك كله حدّاً ينهض بالحجية على ثبوت الزيادة إشكال، كالإشكال في البناء على عدمها وثبوت الإطلاق في الصحيح بنحو يقتضي الاكتفاء بغسلة واحدة بالماء.

على أنه لو تم الإطلاق في صحيح الفضل، فمقتضى الجمع بينه وبين ما يأتي من إطلاق اعتبار التثليث في تطهير الإناء هو تقييد كل منهما بالآخر، فيقيد الإطلاق بصدر الصحيح المتضمن كون الغسلة الأولى بالتراب، ويقيد ذيل الصحيح بالإطلاق الملزم بالتثليث، ومرجع ذلك إلى لزوم التثليث في الولوغ عملاً بالإطلاق المذكور، وكون الغسلة الأولى من الثلاث بالتراب، عملاً بصدر الصحيح، كما أشار لذلك سيدنا المصنف (قدس سره).

هذا وعن الاسكافي الغسل سبعاً أولاهن بالتراب. وفي المختلف أنه احتج بأن الكلب أنجس من الفأرة، ويجب لها الغسل سبعاً.

وهو كما ترى إذ لو أريد بالغسل سبعاً للفأرة الغسل لشربها من الإناء، فهو ممنوع، بل الظاهر عدم القائل به. وإن أريد به الغسل لموتها حيث ورد أن الإناء يغسل لموت الجرذ، ففي كون ولوغ الكلب أنجس من موت الفارة إشكال، بل منع. مع أن أشدية النجاسة لا تستلزم أشدية التطهير، كما سبق نظيره.

نعم قد يستدل له تارة: بالنبوي: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، أولهن بالتراب»(1). وأخرى: بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سأله عن الإناء يشرب فيه النبيذ. فقال: تغسله سبع مرات. وكذلك الكلب»(2).

********

(1) كنز العمال ج 5 ص 89.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 248

أولاهن بالتراب (1)

ويندفع الأول بأن النبوي عامي لم يروَ من طرقنا. مع أنه ورد في نبوي آخر: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرات»(1) ومقتضى الجمع بينهما الحمل على الاستحباب. ولاسيما بشهادة النبوي الثالث: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرات أو خمساً أو سبعاً»(2).

وأما الثاني فقد أورد عليه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن الموثق خال عن ذكر التراب. لكنه يندفع بإمكان استفادته من صحيح البقباق، بناء على عدم ثبوت روايته بلفظ المرتين. فتأمل.

ومثله ما ذكره من أن صحيح البقباق أخص من الموثق، لاختصاصه بالولوغ، فيجب تقييد الموثق به. لاندفاعه بأن حمل الموثق على غير الولوغ بعيد جداً، بل هو كالمقطوع بعمومه له، وبأنه لا يحتمل وجوب السبع في غير الولوغ من أنحاء ملاقاة الكلب وعدم وجوبها في الولوغ.

فالأولى في الجواب أن الصحيح لو تمت دلالته على التثليث قرينة على حمل الموثق على الاستحباب. بل هو المتعين في الموثق حتى مع قطع النظر عن الصحيح لما ذكره (قدس سره) من مفاده ثبوت حكم النبيذ للكلب، وحيث كان الأمر بالسبع في النبيذ محمولاً على الاستحباب، لما يأتي، تعين ذلك في الكلب أيضاً.

(1) إجماعاً، كما في الغنية، وهو المشهور كما في المختلف والجواهر وعن غير واحد، ومذهب الأكثر كما في المدارك. ويقتضيه صحيح البقباق المتقدم. وقد ينزل عليه إطلاق الغسل مرة بالتراب في الفقيه والمقنع والانتصار والخلاف، بل هو معقد إجماع الأخيرين.

********

(1) عن حاشية ابن مالك على صحيح مسلم ج: 1 ص 162.

(2) عن سنن البهيقي ج: 1 ص: 240.

ص: 249

ممزوجاً بالماء (1) وغسلتان بعدها بالماء.

لكن في المقنعة أن وسطاهن بالتراب. وقد يظهر من الوسيلة. ولم نعثر على ما يشهد به عدا مرسل الوسيلة، قال: «فإنه يجب غسلها ثلاث مرات إحداهن بالتراب. وروي وسطاهن». لكنه لا ينهض حجة بنفسه، فضلاً عن أن ترفع اليد به عن الصحيح المتقدم.

(1) كما في السرائر وعن الراوندي وفي المنتهى بعد أن تعرض لكلام السرائر: «وفي اشتراط الماء نظر. وإن كان ما قاله قوياً» وكيف كان فذلك هو الظاهر من صحيح البقباق، لأن الغسل وإن كان ينصرف للغسل بالماء وحده، إلا أنه مع الإضافة لغيره يستفاد منه مزجه به، بنحو يخرج الماء به عن الإطلاق مع غلبته، نظير الغسل بالصابون والسدر والخطمي والأشنان وغيرها من الاستعمالات الشايعة عرفاً. وهو أولى من حمل الغسل على المسح محافظة على ظهور إطلاق التراب في غير الممزوج. كما هو الوجه فيما في القواعد ومجمع الفائدة وظاهر المختلف وعن غيرها، وفي الرياض أنه الأوجه بمقتضى القواعد الأصولية.

وأشكل منه ما في الدروس وجامع المقاصد وعن الذكرى من التخيير بين الأمرين. إذ فيه أنه بعد فرض الخروج عن المعنى الحقيقي للغسل لا جامع بين المجازين.

بل يظهر من جامع المقاصد أن اللازم حمل الصحيح على غير الممزوج محافظة على الحقيقة في التراب، ومع ذلك قال: «فعلى هذا لو مزج هل يتحقق معه الامتثال أم لا؟ لا أعلم تصريحاً بالمنع. مع أن الحاجة قد تدعو إليه، كما في الإناء الضيق الرأس إذا أريد تعفيره، فإنه بدون المزج متعذر أو متعسر».

وهو كما ترى، إذ مع ظهور الصحيح في غير الممزوج لا وجه لاحتمال حصول الامتثال بالمزج، وتعذر التعفير في بعض الموارد لا يكفي في جوازه. بل لو تم كان

ص: 250

الأولى جعله قرينة على إرادة المزج من الصحيح.

وبما ذكرنا يتضح أنه لا ملزم بالاحتياط بين الأمرين، قال في الجواهر: «كما عساه يميل إليه الأستاذ في شرح المفاتيح».

بقي في المقام أمور:

الأول: قال سيدنا المصنف (قدس سره): «من المحتمل جواز المزج بغير الماء من المايعات لصدق الغسل بالتراب. فتأمل». ولعل أمره بالتأمل إشارة إلى أن منصرف الغسل لما كان هو الماء، فالتقييد بالتراب يقتضي إضافته إليه، لا إلى مطلق المايع.

الثاني: أن ظاهر الغسل بالتراب وإن كان هو التراب الممزوج، إلا أنه لا يبعد ظهوره في كونه بنحو يستتبع تنظيف الإناء من التراب بالماء، كما هو الحال في النظائر، كالغسل بالصابون والأشنان والسدر، فإن المراد بها الاستعانة بالأجسام المذكورة لتأكيد التنظيف الحاصل من الغسل بالماء مع استيلاء الماء على المحل في النهاية.

الثالث: المحكي عن ابن الجنيد عدم اختصاص الغسلة بالتراب، بل يكفي فيها ما يقوم مقامه، والظاهر أن مراده به الأجسام الدقيقة التي يدلك بها عند الغسل كالأشنان والرماد ونجارة الخشب وغيرها. وهو خروج عن ظاهر النص من غير دليل.

ومثله ما في المبسوط من الاجتزاء بها مع فقد التراب، كما يجتزأ بالماء وحده. وكذا ما في القواعد والمختلف والدروس من أنه مع فقد التراب يجتزأ بما يشبهه، فإن فقد أجزأ الماء.

قال في المختلف: «لأن الحكم معلق فيتعين مع وجوده، فإن تعذر فما يقوم مقامه من الأشنان وشبهه، لحصول المقصود من التراب به، فإن فقد الجميع فالماء دفعاً لمشقة الاحتراز».

للمنع من حصول المقصود من التراب بغيره. وإلا لأجزأ اختياراً. ودفع المشقة لا يقتضي حصول الطهارة بغير المطهر.

ص: 251

ومثله ما في القواعد والتذكرة والمنتهى وعن التحرير والبيان من أنه إذا خيف فساد الإناء باستعمال التراب فهو كما لو فقد التراب. وأضعف من الكل الاكتفاء بغسلتين بالماء عند تعذر التراب، كما في المنتهى وعن غيره.

وأما ما ذكره في الجواهر من أنه قد يدعى ظهور النص والفتوى في إرادة الأواني الممكنة التعفير، دون ما يتعذر تعفيره في نفسه، لضيق رأسه جداً أو لنفاسته جداً، فيبقى حينئذ على حكم الأواني المتنجسة بغير الولوغ، قال: «كما اعترف به الأستاذ في كشفه واحتمله غيره».

ففيه: أن انصراف الأدلة عن الإناء المتعذر تعفيره لا يستند إلى مناسبة ارتكازية، بل لمجرد عدم تيسر تعفيره، ومثل ذلك لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق، بل لا يمنع من فهم عدم الخصوصية لو فرض قصور الإطلاق في نفسه. كما لا يبعد فهم عدم الخصوصية للإناء، والتعدي لكل ظرف.

الرابع: صرح في العروة الوثقى بكفاية الرمل. وكأن الوجه فيه كونه من التراب عرفاً، بل لغة، كما يظهر من تعريف بعضهم التراب بأنه ما نَعمُ من الأرض، وتعريف الرمل في لسان العرب بأنه نوع من التراب معروف.

نعم لا حجة في ذلك، لعدم نهوض تعاريف اللغويين بتحديد المفاهيم بنحو الدقة. ولاسيما مع ما عن الجمهرة من أن الصعيد هو التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ ولا رمل، فإن مقتضاه مباينة الرمل للتراب.

فالعمدة ظهور عموم التراب للرمل عرفاً، وأنه كل ما استدق من الأرض، كالطين ومسحوق الصخر والحصى والرمل، لا خصوص الطين، لئلا يلزم كون إطلاقه على مسحوق الصخر والحصى مجازاً، وهو بعيد جداً، ولا ما يعم الأولين دون الرمل، لعدم الجامع العرفي بينهما.

ويناسب ذلك كثير من الاستعمالات، كقولهم: «ترب الرجل» إذا افتقر، كأنه لصق بالتراب، وقولهم: «أترب الرجل» إذا كثر ماله حتى صار بقدر التراب،

ص: 252

وإطلاقهم التراب على المقبرة والقبر، وإطلاقهم الترباء على الأرض بلحاظ تجللها به، وقولهم: «ريح تربة» إذا كانت تحمل التراب و: «لحم ترب» إذا عفر بالتراب... إلى غير ذلك مما لا خصوصية للطين فيه ارتكازاً.

وكذا إطلاقه مجازاً على مسحوق غير الأرض، كالذهب والفضة وجميع الفلزات والمعادن، بل حتى مثل الخشب. لإرتكاز أن مصحح الإطلاق هو النعومة من دون خصوصية للطين. بل يبعد جداً الالتزام بأن الأراضي الرملية الشاسعة ليس فيها تراب... إلى غير ذلك مما يوجب وضوح العموم المذكور.

ومن ذلك يظهر ضعف ما أصر عليه شيخنا الأستاذ وبعض مشايخنا (قدس سرهما) وعن كشف الغطاء من عدم الاجتزاء بالرمل.

الخامس: حيث تقدم ابتناء الغسل على التعميق في إيصال الماء للمحل بمثل الدلك والفرك، فالظاهر لزوم ذلك في الغسل بالتراب، وعدم الاكتفاء باستيعابه للإناء ممزوجاً بالماء من دون عناية. عملاً بظاهر الإطلاق من دون مخرج عنه - من ارتكاز أو غيره - بعد خفاء كيفية تأثير التراب في تطهير الإناء من نجاسة الولوغ.

نعم يكفي مثل وضع التراب الممزوج بالماء في الإناء وخضه بشدة، لأنه نحو من الغسل عرفاً.

أما الغسلتان الأخريان بالماء وحده فلا يعتبر فيهما ذلك، لأن المستفاد من الصحيح وغيره مما تضمن غسل الإناء من ولوغ الكلب كون غسله بالماء على نحو غسله من سائر النجاسات.

السادس: لو تكرر الولوغ في الإناء الواحد أجزأ في تطهيره ثلاث غسلات أولاهن بالتراب. لأصالة التداخل في السبب ومنه الغسل المطهر في المقام وغيره، على ما تقرر في محله من الأصول في ذيل الكلام في مفهوم الشرط.

أما لو اجتمع مع الولوغ غيره من أسباب النجاسة فالتداخل إنما يكون في غسلتين بالماء فقط. لأصالة التداخل المتقدمة، ولزم إضافة غسله قبلهما بالتراب

ص: 253

لنجاسة الولوغ، وغسله ثالثة بالماء للنجاسة الأخرى، لعدم الدليل على الاجتزاء بغسلة التراب عنها.

نعم بناء على ما سبق في الأمر الثاني من أنه يلزم في غسلة التراب تنقية الإناء من التراب بالماء وتنظيفه به، يتعين قيام ذلك مقام الغسلة الثالثة اللازمة في النجاسة الأخرى المصاحبة للولوغ.

بل لو كانت النجاسة الأخرى من توابع الولوغ التي يكثر حصولها معه - كإصابة الإناء بحنك الكلب أو أنفه - فالظاهر الاكتفاء فيها بالتطهير من الولوغ، لأن كثرة حصولها مع الولوغ موجب للغفلة عنها، فعدم التنبيه لها في الصحيح موجب لظهوره في الاكتفاء في التطهير منها بالتطهير من الولوغ.

السابع: ما تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره) من أن المعيار في موضوع الحكم هو الولوغ - الذي فسر بشرب الكلب بطرف لسانه - لا وجه له بعد كون موضوع الصحيح هو فضل الكلب، كما نبّه لذلك في مجمع الفائدة. وأن التعبير بالولوغ لم يرد إلا في النبويات التي سبق ضعف سندها، وعدم التعويل عليها في المقام، وفي كلمات جملة من الأصحاب الذي لا يبعد متابعتهم للعامة في تحرير موضوع المسألة، خصوصاً الانتصار والخلاف المبنيين على المقارنة بين مذاهب المسلمين، ولعله لذا لم يذكره الصدوق، بل ذكر الشرب ومطلق المباشرة.

نعم صدر الصحيح وإن تضمن الفضل الشامل للطعام والشرب من الماء وغيره من المايعات، إلا أن ذيله قد تضمن الماء.

لكن لا يبعد تنزيل الذيل على الغالب، فإنه أقرب ارتكازاً من تنزيل الفضل - الذي لا إشكال في عمومه لغير الماء - على خصوص الماء. وإن قيل باختصاص السؤر به، ولاسيما بعد كون الملحوظ في المقام هو سريان النجاسة، الذي لا إشكال في عدم اختصاصه بالماء. فلاحظ.

الثامن: ذكر في الفقيه والمقنع والمقنعة في كيفية تطهير الإناء في المقام أنه يجفف

ص: 254

(255) (مسألة 6): إذا لطع الكلب الإناء أو شرب بلا ولوغ لقطع لسانه أو باشره بلعابه فالظاهر أنه بحكم الولوغ في كيفية التطهير (1). وليس كذلك

بعد الغسلة الثالثة، وعن جملة من المتأخرين الجري على ذلك.

ويشهد به الرضوي: «وإن وقع كلب أو شرب منه أهريق الماء، وغسل الإناء ثلاث مرات بالماء، ومرتين بالتراب، ثم يُجفف»(1).

لكن لا مجال للتعويل عليه كما تكرر غير مرة، خصوصاً بعد اشتماله على ما لا يقول به الأصحاب في كيفية التطهير.

نعم ما حكاه في مستدرك الوسائل هكذا: «وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء»(2). لكنه خال عن ذكر التجفيف.

ومن ثم لا مجال للخروج عن ظاهر صحيح الفضل وغيره مما تضمن غسل الإناء(3) من عدم اعتبار التجفيف. وربما يحمل ذكر التجفيف في كلماتهم على الغالب، من دون أن يكون شرطاً في التطهير.

(1) أما الشرب من دون ولوغ فلما تقدم في الأمر السابع. وأما لطعه بلسانه فقد صرح به غير واحد، وفي الجواهر أنه ينبغي القطع به.

وقد يوجه بصدق الولوغ عليه، لما في مجمع البحرين، حيث إنه - بعد أن عرف الولوغ بشرب الكلب من الإناء بأطراف لسانه - قال: «ويقال: الولوغ شرب الكلب من الإناء بلسانه أو لطعه له».

لكن لا مجال للبناء على ذلك بعد ملاحظة كلمات اللغويين والاستعمالات المتعلقة بالمادة. على أنه تقدم أن الولوغ لم يؤخذ في دليل المسألة، بل الفضلة غير

********

(1) الرضوي ص: 5 س: 28، الطبعة الحجرية.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 43 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الاسئار حديث: 3.

ص: 255

الحاصلة في المقام.

نعم قال سيدنا المصنف (قدس سره) في وجه الإلحاق: «فإن النجاسة حينئذ سارية من الفم إلى الإناء بلا واسطة، إذ احتمال اختصاص الحكم بالنجاسة السارية إلى الإناء بتوسط المائع مما لا ينبغي دعواه». ولعل ذلك هو الوجه في الأولوية المدعاة في الروض وعن شرح المفاتيح. بل ذكر ذلك شيخنا الأستاذ (قدس سره) صريحاً. وقد يرجع إليه الاستدلال في جامع المقاصد بمفهوم الموافقة.

واستظهر في مجمع الفائدة عدم الإلحاق إن لم يكن إجماع. وجزم به بعض مشايخنا (قدس سره)، لاحتمال خصوصية الشرب، ولا علم لنا بمناطات الأحكام.

لكن ذلك - لو تم - إنما يمنع من الاستدلال بالأولوية القطعية، ولا يمنع من الاستدلال بفهم عدم الخصوصية للشرب عرفاً، وغفلتهم عن الفرق، الراجع لفهم عموم الحكم من النص، وعدم التعويل على مثل هذه الاحتمالات لو نبه إليها. فإنه قريب جداً.

وأما مباشرته بلعابه فعن نهاية الأحكام إلحاقه بالولوغ، لدعوى أن المدار على اللعاب. خلافاً لما ذكره جماعة من عدم إلحاقه به. بل في الروض أنه المشهور، وفي الجواهر أنه المشهور نقلاً وتحصيلاً. لعدم الدليل على الإلحاق. ودعوى أن المدار على اللعاب، خالية عن الشاهد.

وأشكل منها دعوى: أن المعيار في الفضلة التي تضمنها الصحيح ما كان فيه من فضلة فمه شيء من اللعاب. لوضوح أن الفضلة عرفاً بقية الطعام والشراب من دون أخذ اشتمالها على شيء من لعاب صاحب الفضلة.

نعم ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن اللعاب لا يقصر عن سائر المائعات في سراية الأثر بواسطته من الفم أو اللسان إلى الإناء، فإلحاق المائعات بالماء دون اللعاب غير ظاهر. كما ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره) أنه بعد إلحاق اللطع بالولوغ للأولوية يتعين إلحاق مباشرة اللعاب، لأن تنجس الإناء باللطع إنما هو بتوسط اللعاب.

ص: 256

ما إذا تنجس بعرقه أو سائر فضلاته (1)، أو بملاقاة بعض أعضائه (2). نعم إذا صب الماء الذي ولغ فيه الكلب في إناء آخر جرى عليه حكم الولوغ (3).

وما ذكراه قريب جداً. بل من القريب جداً فهم العموم من النص، لغفلة العرف عن الفرق، نظير ما تقدم في اللطع. وإن كان في بلوغ ذلك هنا وفي اللطع حدّ الاستدلال إشكال.

(1) كما في الجواهر. لقصور الصحيح عنها، ولا مجال لدعوى الأولوية، أو فهم عدم الخصوصية.

(2) وفي الذكرى أنه المشهور. لعين ما سبق. لكن عمم في الفقيه والمقنع الحكم لما إذا وقع الكلب في الإناء، وفي المقنعة لما إذا مسه ببعض أعضائه، وعن النراقي موافقتهما، وإليه مال في الجواهر.

ويناسبه ما تقدم في الرضوي. بل قد يدعى فهمه من الصحيح، لإلغاء خصوصية الفضلة وفهم أن موضوع الحكم مطلق المباشرة، ولاسيما مع تعليل الحكم بقوله (عليه السلام): «رجس نجس»، حيث لا خصوصية في ذلك للولوغ.

لكن الرضوي لا ينهض بالاستدلال، كما تكرر غير مرة. وفهم عدم الخصوصية في غاية الإشكال، بل المنع. والمتيقن سوق للتعليل لبيان لزوم الاجتناب عن الماء، لا لبيان كيفية التطهير المذكورة بعد ذلك، وإلا لزم عموم الحكم المذكور لكل نجاسة، ولا يمكن الالتزام به، كما أشار إليه في الجملة سيدنا المصنف (قدس سره).

وأما ما في نهاية الأحكام من الاستدلال بالأولوية، لأن فم الكلب أنظف من بقية أعضائه ولذا كانت نكهته أطيب من غيره من الحيوانات لكثرة لهثه. فهو كما ترى لا يرجع إلى محصل ينهض بالاستدلال.

(3) قال في نهاية الأحكام: «والأقرب إلحاق ماء الولوغ به. لوجود الرطوبة اللعابية غالباً» وقواه في الجواهر، ونقل حكايته المحقق الثاني. وما سبق من نهاية

ص: 257

(258) (مسألة 7): الآنية التي يتعذر تعفيرها بالتراب تبقى على النجاسة (1)، أما إذا أمكن إدخال شيء من التراب الممزوج بالماء داخلها وتحريكه بحيث يستوعبها أجزأ ذلك في طهرها (2).

(مسألة 8): يجب أن يكون التراب الذي يعفر به الإناء طاهراً قبل الاستعمال (3).

الأحكام في توجيهه ممنوع صغروياً وكبروياً.

نعم قد يدعى أن تنجس الإناء بشرب الكلب بتوسط ملاقاته لفضلته، وهو حاصل في المقام. ولو تم تعين العموم لما إذا ولغ في غير الإناء فأصاب ذلك الماء الإناء، كما هو مقتضى إطلاق ما تقدم من نهاية الأحكام.

لكنه إن رجع إلى عموم الصحيح للمقام، لأن موضوعه التنجس بالفضلة. فهو ممنوع جداً، بل هو منصرف لفرض تنجس الإناء بالكلب بتوسط الفضلة، لا في مطلق التنجس بالفضلة.

وإن رجع إلى فهم عدم الخصوصية لمورد الصحيح، أو لتنقيح المناط، فهو قريب جداً. لكن في بلوغ ذلك حدّ الاستدلال إشكال. ولعله لذا صرح بعدم جريان حكم الولوغ في المعتبر والتذكرة والذكرى والمدارك وعن غيرها.

(1) كما يظهر مما تقدم في الأمر الثالث مما ألحقناه بالكلام في حكم الولوغ.

(2) بناءً على الاكتفاء في الغسل بالتراب بوصول التراب الممزوج بالماء لجميع سطوح الإناء. لكن تقدم المنع من ذلك في الأمر الخامس مما ألحقناه بالكلام في حكم الولوغ. كما تقدم كفاية خضّ الماء الممزوج بالتراب بشدة بنحو يصدق به الغسل عرفاً. فراجع.

(3) كما في التذكرة وجامع المقاصد والروض وعن المنتهى والبيان وغيرها. واحتمل في مجمع الفائدة عدم اعتبار طهارة التراب مع يبوسته وعدم مزجه في الماء.

ص: 258

وجرى على ذلك في المدارك ومال إليه في الرياض. بل قد يستظهر من إطلاق قدماء الأصحاب، وإن لم يخل عن الإشكال. وقد استدل له في المدارك بحصول الانقاء بالطاهر والنجس، وبإطلاق صحيح الفضل.

لكن حصول الانقاء بالطاهر والنجس لا ينفع ما لم تكن علة الغسل بالتراب هو الانقاء لا غير، وهو غير ثابت. وأما الإطلاق فهو منصرف للطاهر، لما هو المرتكز من عدم مطهرية النجس لأن فاقد الشيء لا يعطيه، كما ذكر في وجه اعتبار الطهارة في الماء المطهر، لعدم وضوح الفرق بينهما. وما في مجمع الفائدة من عدم استناد الطهارة له وحده لا يصلح فارقاً. ولاسيما مع مشاركة الماء له في ذلك هنا.

بل بناء على اعتبار مزج التراب بالماء يلزم من نجاسة التراب نجاسة الماء، فلا يكون مطهراً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أنه حيث لابد في الغسل بالتراب من إزالة أثره بالماء - كما سبق منا في الأمر الثاني مما ألحقناه بالكلام في حكم الولوغ - فالمطهر هو الماء المذكور ولابد من طهارته لا غير.

فهو كما ترى، لأن المستفاد من أدلة المقام كون المطهر هو مجموع الغسلة الأولى، فلابد من طهارة تمام ما به الغسل فيها، لا خصوص تنقية الإناء من التراب، ليكتفى بطهارة الماء الذي به التنقية المذكورة.

هذا وأما الاستدلال للمدعى بما تضمن طهورية التراب، بناء على أن الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره. فيندفع - مضافاً إلى الإشكال في المبنى المذكور، كما يظهر مما ذكرناه في أول مباحث المياه من هذا الشرح - بأن مقتضى دليل طهورية التراب حينئذ طهارة التراب ومطهريته، لا شرطية طهارته في مطهريته. فالعمدة ما سبق.

ص: 259

(260) (مسألة 9): يجب في تطهير الإناء النجس من شرب الخنزير غسله سبع مرات (1)،

(1) كما في القواعد والمختلف - وذكر فيه أنه اختاره في أكثر كتبه - والدروس والذكرى وعن غيرها من كتب متأخري المتأخرين. لصحيح علي بن جعفر عن

أخيه (عليه السلام) في حديث قال: «وسألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات»(1).

هذا وفي المبسوط والخلاف وعن المصباح ومختصره أنه كالكلب، مستدلاً في الأولين بأنه يسمى كلباً، وزاد في الأول أنه لم يفرق أحد بينهما، وفي الثاني عموم لزوم غسل الإناء من النجاسات ثلاثاً، والخنزير نجس بلا خلاف.

والكل كما ترى، إذ لو غضّ النظر عن صحيح علي بن جعفر فتسمية الخنزير كلباً إما مجاز لا يصار إليه من دون قرينة، أو مبنية على إرادة السبع من الكلب، وهو مخالف للشايع من إطلاقه، المعلوم عدم إرادته من صحيح البقباق، إذ هو صريح في عدم إرادة السباع منه. كما أن عدم التفريق بينهما لم يثبت بنحو يصلح دليلاً على الإلحاق. وعموم لزوم غسل الإناء من النجاسات ثلاثاً لا ينفع في إثبات حكم الكلب، الذي تكون الغسلة الأولى فيه بالتراب.

هذا ويظهر من جماعة من الأصحاب، بل نسبه في كشف اللثام للأكثر، أن حكم شرب الخنزير حكم سائر النجاسات، فإن قيل بعموم غسل الإناء ثلاثاً من النجاسات إلا ما استثني - كما تقدم من الخلاف - اكتفي فيه بالثلاث من دون تراب، وإن قيل بعموم الاكتفاء في الإناء بالمرة إلا ما استثني - كما هو ظاهرا لنهاية وصريح السرائر والمعتبر - اكتفي فيه بها. وهو يبتني على غضّ النظر عن صحيح ابن جعفر ولو بحمله - كما في المعتبر ومحكي اللمعة - على الاستحباب.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 260

(261) وكذا من موت الجرذ (1)

لكن لا وجه بعد ظهور الصحيح في الوجوب فإن الخروج به عن الإطلاق أنسب بالجمع العرفي من الخروج بالإطلاق عن ظهوره في الوجوب، كما يظهر بملاحظة النظائر، ومنها ولوغ الكلب. بل هو أولى من ولوغ الكلب، لأن ابتلاء المسلمين بالكلب أكثر من ابتلائهم بالخنزير، فحمل الإطلاق على ماعدا الخنزير أهون من حمله على ماعدا الكلب.

ودعوى: سقوط الصحيح بالإعراض، لعدم ظهور عامل به قبل العلامة، بل عدم ظهور من أشار إليه من أهل الاستدلال قبل المحقق في المعتبر.

مدفوعة بعدم وضوح كفاية ذلك في الاعراض المسقط عن الحجية، لامكان ابتناء عدم فتواهم بمضمونه على البناء على الجمع بينه وبين الإطلاقات بالحمل على الاستحباب، كما سبق من المعتبر، لا على إهماله والإعراض عنه.

ولاسيما مع قلة الابتلاء بالخنزير حيث يحتمل كونها المنشأ لعدم تعرض جماعة لحكمه، من دون أن يكون لبنائهم على عدم وجوب السبع فيه إعراضاً عن الصحيح.

بل مقتضى ما في الوسائل ويناسبه طريق الشيخ رواية الكليني له في الكافي، وهو ظاهر في عمله به. وإن لم أجده في الطبعة الحديثة منه. ومن ثم لا مجال للخروج عنه. فلاحظ.

(1) ذكر ذلك كثير من الأصحاب، بل نسبه في جامع المقاصد للمشهور، وإن اختلفوا بين من عبر بالجرذ - كما في الذكرى وجامع المقاصد وعن تعليق النافع - ومن عبر بالفارة - كما في النهاية والمراسم والوسيلة والدروس وغيرها - وعليه قد يحمل ما في المقنع، حيث قال: «وإذا أصبت جرذاً في إناء فاغسل ذلك الإناء سبع مرات». خلافاً للشرايع والنافع والمعتبر والقواعد وعن كشف الرموز من الاكتفاء بالثلاث.

ص: 261

(262) وإذا تنجس الإناء بغير ما ذكر وجب في تطهيره غسله ثلاث مرات (1).

ويشهد للأول موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: «اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتاً سبع مرات»(1). وما ذكره المحقق في المعتبر وغيره من ضعف الحديث، لأن رواته فطحية. ممنوع، كما حقق في الأصول. ومثله ما ذكره من أن ميتة الفارة والجرذ لا يكون أعظم نجاسة من ميتة الكلب والخنزير. فإنه تحكم لا يدفع به الدليل.

على أنه لو تم عدم حجية الموثق لم يبق وجه للبناء على الثلاث من مثل المحقق والعلامة ممن يأتي منه البناء على الاكتفاء بالمرة في الإناء في غير ذلك، لعدم دليل خاص في الجرذ إلا الموثق المتضمن للسبع.

نعم من الظاهر أن موت الجرذ بنفسه لا يوجب نجاسة الإناء، خصوصاً بعد كونه محاطاً بالشعر الذي لا تحله الحياة. بل نجاسة الإناء مع موت الجرذ موقوفة على وجود رطوبة تقتضي سريان النجاسة مما تحله الحياة من أجزاء الجرذ إلى الإناء، ولا إشعار بذلك في الموثق وليس حمله على ذلك للعلم بعدم نجاسة الإناء بمجرد الموت بأولى من إبقائه على ظهوره في سببية الموت بنفسه للأمر بالغسل مع حمله على الاستحباب، للقطع بعدم وجوب غسل الإناء إذا لم يتنجس. ومن ثم لا يخلو الحكم المذكور عن إشكال.

هذا وموضوع الموثق هو موت الجرذ والتعميم للفارة مبني على إلغاء خصوصيته عرفاً، أو القطع بعدم الفرق. وكلاهما لا يخلو عن إشكال أو منع.

(1) كما في الخلاف والدروس والذكرى وجامع المقاصد وعن ابن الجنيد وكثير من متأخري المتأخرين. لموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن الكوز والإناء يكون قذراً كيف يغسل، وكم مرة يغسل؟ قال: يغسل ثلاث مرات، يصب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 262

(263) (مسألة 10): التطهير بالماء المعتصم - كالجاري والكر وماء المطر - يحصل بمجرد استيلاء الماء على المحل النجس، من غير حاجة إلى عصر (1)،

فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه، وقد طهر»(1).

وظاهر النهاية الاكتفاء بالمرة. وهو صريح السرائر والشرايع والمعتبر والنافع والقواعد وعن أكثر كتب العلامة والبيان وغيرها. إما استضعافاً للموثق، أو للجمع بينه وبين مرسل المبسوط: قال: «وقد روي غسله مرة واحدة».

ويظهر ضعف الأول مما تقدم في موت الجرذ. على أن اللازم حينئذ الرجوع بعد سقوطه عن الحجية للأدلة الأخر، وقد سبق وجوب الغسل مرتين للبول، فيلزمهم التفصيل بين نجاسة البول وغيره. إلا أن يكون مبناهم الاقتصار في المرتين للبول على الثوب والبدن. لكن عرفت ضعفه. ويندفع الثاني بعدم نهوض المرسل بالحجية، فضلاً عن أن يرفع به اليد عن ظاهر الموثق.

هذا وفي اللمعة وعن الألفية لزوم المرتين في الإناء. ولا وجه له إلا البناء على عموم لزوم المرتين في تطهير المتنجسات، عملاً بما ورد في البول، بناءً على إلغاء خصوصية البول والتعدي لسائر النجاسات - كما يظهر من الدروس - وإلغاء خصوصية الثوب والبدن والتعدي لسائر المتنجسات، والثاني وإن كان قريباً، كما سبق، إلا أن الأول خال عن الشاهد. على أنه لو تم تعين الخروج عنه بالموثق، الذي عرفت نهوضه بالاستدلال.

(1) كما في التذكرة ونهاية الأحكام وعن جماعة من المتأخرين، بل في الجواهر: «لم نعثر على مصرح بخلافه». ويظهر الوجه فيه مما سبق في المسألة الأولى من أن لزوم العصر ونحوه إنما هو من أجل إخراج ماء الغسالة للبناء على نجاسته، فمع فرض اعتصام الماء وطهارة ماء الغسالة لا موجب لإخراجه بالعصر أو نحوه.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 53 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 263

(264) ولا إلى تعدد (1).

نعم لو قلنا بتوقف صدق الغسل على إخراج ماء الغسالة تعين لزوم العصر أو نحوه في المقام. لإطلاق الأدلة. ومن ثم ذهب بعض مشايخنا (قدس سره) لعموم اعتبار العصر أو نحوه للكثير. لكن سبق في المسألة المذكورة المنع من أخذ العصر ونحوه في مفهوم الغسل. فراجع.

(1) كما في التذكرة والدروس وعن الذكرى نفي الريب فيه في التطهير من البول، بل في الجواهر انه لم يعرف من صرح باعتبار العدد فيه، بل يظهر من الأصحاب الاتفاق على الاكتفاء فيه بالمرة في الجاري، ولذا نفى الريب عنه في الذكرى، بل صرح به في الكثير أيضاً الشهيدان والمحقق الثاني، كما صرح بعدمه في الأواني العلامة في القواعد والمنتهى والشهيدان والمحقق الثاني وغيرهم. وكيف كان فبعد أن سبق الاقتصار في التعدد على البول والأواني يحسن الكلام في كل منهما على حدة.

أما البول فيشهد بالاكتفاء بالمرة في تطهير الثوب منه بالماء المعتصم صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله في المركن مرتين، فإن غسلته في ماء جار فمرة واحدة»(1).

وهو وإن اختص بالجاري، إلا أن من الظاهر أن التفصيل فيه غير مستوف لصور غسل الثوب الشايعة فضلاً عن جميع صوره، فإن المركن هو الإجانة التي تغسل بها الثياب، ومن الظاهر عدم انحصار التطهير بالماء غير المعتصم بالغسل به، كعدم انحصار الغسل بالمعتصم بالغسل بالجاري.

والالتزام بسوق الصحيح لبيان حكم الصورتين فقط، من دون نظر لغيرهما، بعيد جداً، لعدم مناسبته للسؤال، ولظهور حال المفصل في الاهتمام باستيفاء الأقسام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 264

ومن ثم كان الظاهر من التفصيل في المقام استيفاء الأقسام بالاعتماد على جهة ارتكازية تقتضي إلحاق ما لم ينص عليه من الأقسام بالقسمين المصرح بهما، وليس هنا جهة ارتكازية في الفرق بين القسمين إلا انفعال الماء وقهره بالنجاسة، واعتصامه وعدم انفعاله بها. وذلك كاف في إلغاء خصوصية المركن وفهم العموم لكل ماء غير معتصم، وإلغاء خصوصية الجاري وفهم العموم لكل ماء معتصم.

نعم لو ورد بيان حكم الجاري ابتداءً - كما لو سئل عن التطهير من البول في الماء الجاري فأجيب بالاكتفاء فيه بالمرة - لم يخل التعدي لغيره من أقسام المعتصم عن إشكال، لعدم القرينة على اعتماد المتكلم على الجهة الارتكازية المذكورة في إفادة التعميم. فلاحظ.

على أن من القريب إلغاء خصوصية الجاري والتعميم لكل ماء معتصم حتى في ذلك لما هو المرتكز من أن ميزة الجاري هي اعتصامه، ولذا لا إشكال ظاهراً في حمل الجاري في المقام وغيره على المعتصم ولو بالمادة، دون غيره كالقليل الجاري.

ولعله لما ذكرنا ونحوه حكي عن كثير من الأصحاب أنه لا قائل بالفرق بين الكثير والجاري، حيث لا يبعد فهمهم ذلك من الصحيح بدواً، لا من دليل خارج من إجماع أو نحوه.

هذا مضافاً إلى صحيح داود بن سرحان: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في ماء الحمام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري»(1) قال سيدنا المصنف (قدس سره): «وإذا ثبت ذلك لماء الحمام الذي يكون في الحياض الصغار يثبت لما في الخزانة بطريق أولى».

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن التنزيل إنما هو بلحاظ اعتصام الماء، لأن ذلك هو المنشأ للسؤال عن ماء الحمام. ففيه أن مجرد كون منشأ السؤال هو الشك في الاعتصام - لو تم - لا يكفي في الخروج عن إطلاق التنزيل، وحمله على خصوص الاعتصام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 7 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 265

ومن هنا لا ينبغي التأمل في التعدي عن الجاري لكل معتصم. وإلا فمن البعيد جداً البناء على الاكتفاء بالمرة عند غسل الثوب في النهر الجاري، ولزوم التعدد عند غسله في الحياض الكبيرة المتجمعة عند السدود التي يجري النهر ويستمد منها، وعند غسله في البحر والأهوار التي يصب النهر فيها.

هذا كله في الثوب الذي هو مورد الصحيح، وأما البدن فقد يظهر من صاحب الحدائق التوقف في العموم له، بل هو الذي حكاه في الجواهر عما حضره من نسخة الجامع لابن سعيد، وإن قال: «وظني أنه غلط، لأن المنقول عنه التفصيل بين الجاري والراكد في اعتبار المرة والمرتين من غير فرق بين الثوب والبدن. وعلى كل فهو في غاية الضعف، بل لا يقدح في دعوى تحصيل الإجماع على عدم الفصل».

والعمدة فيه إلغاء خصوصية الثوب عرفاً بلحاظ الجهة الارتكازية المشار إليها آنفاً، فإنها تعم البدن بل كل متنجس. ولاسيما بلحاظ استبعاد الفرق بين المتنجسات في التطهير، حيث يؤكد ذلك إلغاء خصوصية الثوب عرفاً. نظير ما تقدم في وجه تعميم وجوب التعدد في التطهير من البول لغير الثوب والبدن من المتنجسات.

مضافاً إلى أن الأمر بالصب مرتين في البدن قد ورد في سياق الأمر بغسل الثوب مرتين في أكثر النصوص. فحمل الغسل مرتين في الثوب على التطهير بالماء غير المعتصم بقرينة صحيح محمد بن مسلم، مناسب لحمل الصب في البدن مرتين عليه أيضاً.

بل هو شاهد بانصراف الصب المذكور لصب الماء القليل حتى في بقية النصوص الذي لم تتعرض للثوب. ولاسيما مع عدم تعارف الصب في الكثير في العصور السابقة، وإنما تعارف في عصورنا، بسبب شيوع ماء الإسالة.

ويؤيد ذلك أو يعضده عدم الإشكال في طهارة الأرض المتنجسة بالبول بمجرد إصابة المطر لها الذي يشهد له - مضافاً إلى السيرة القطعية - بعض النصوص كصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام): «سألته عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من

ص: 266

الجنابة ثم يصيبه المطر، أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة. قال: إذا جرى فلا بأس به»(1).

لظهور شموله لما إذا لم يبلغ الماء كراً وأخذ منه بعد انقطاع المطر، مع أنه لو توقف التطهير بالمطر على التعدد لزم بقاء ظهر البيت نجساً فينجس ماء المطر الذي حصل عليه بعد انقطاع المطر عنه.

والاقتصار في ذلك على ماء المطر من بين المياه المعتصمة بعيد جداً. خصوصاً مع قرب كون منشأ السؤال عن ماء المطر تقاطره المناسب لكونه من القليل الذي ينفعل بالنجاسة، وورود أدلة اعتصامه لدفع الشبهة المذكورة، وأنه ملحق بالمعتصم، لا لبيان تميزه عن بقية أفراد المعتصم، فبقية أفراد المعتصم أولى بالاعتصام وبترتب الأحكام المناسبة له.

ومن ثم كانت المناسبات الارتكازية قاضية برجوع صحيح محمد بن مسلم المتقدم الوارد في الثوب وما ورد في المطر إلى جامع واحد، وهو سقوط التعدد في التطهير بالماء المعتصم، كما جرى عليه المشهور.

وأبعد من ذلك الاقتصار على الأرض من بين المتنجسات بعدما سبق من عموم لزوم التعدد لكل متنجس بالبول وعدم اختصاصه بالثوب والبدن، فإن إلغاء خصوصية الثوب والبدن في أدلة التعدد تناسب إلغاء خصوصية الأرض في المقام.

هذا ويدل على ما ذكرنا أيضاً صحيح الكاهلي عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في حديث: «كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر»(2). لقوة ظهوره في كفاية مجرد الرؤية في التطهير بلا حاجة إلى التعدد. بنحو لو قدم عليه إطلاق دليل التعدد لزم إلغاء خصوصيته. ولا يضر اختصاصه بالمطر، نظير ما تقدم في صحيح علي بن جعفر.

وكذا ما في المختلف: «ذكر بعض علماء الشيعة أنه كان بالمدينة رجل يدخل على

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 2، 5.

ص: 267

أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيف، وكان يأمر الغلام يحمل كوزاً من ماء يغسل رجله به إذا [إن. خ ل] أصابه، فأبصره يوماً أبو جعفر (عليه السلام)،

فقال: إن هذا لا يصيب شيئاً إلا طهره فلا تُعِد لله منه غسلاً»(1) لظهوره في خصوصية الماء المذكور في التطهير بمجرد الإصابة نظير ما تقدم في حديث الكاهلي.

نعم ضعف سندهما - خصوصاً الثاني - مانع من الاستدلال بهما. غايته أنهما يكونان مؤيدين لما تقدم، الذي هو كاف في إثبات المطلوب. فلاحظ.

هذا وقد أطلق بعض الأصحاب اعتبار التعدد في التطهير من البول، كما في الشرايع والمعتبر وغيرهما. كما فصل بعضهم بين الجاري والراكد، كما في الفقيه، وما تقدم من الجواهر عن الجامع لابن سعيد، ويناسبه الرضوي: «وإن أصاب بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة، ومن ماء راكد مرتين... ثم اعصره»(2).

ولا يبعد حمل الأول على صورة الغسل بالقليل، وإلا فمن البعيد جداً بناؤهم على عمومه للغسل حتى بالجاري، الذي تقدم في صحيح محمد بن مسلم سقوط التعدد معه.

كما لا يبعد حمل الراكد في الثاني على ما تعارف من الغسل في المركن، كما تضمنه صحيح محمد بن مسلم الذي ينحصر دليل التفصيل به، لا إلى مطلق الراكد وإن كان كثيراً أو ذا مادة. وإلا فيظهر ضعفه مما سبق. كضعف ما ذهب إليه بعض مشايخنا (قدس سره) من الاقتصار في سقوط التعدد على الجاري وماء المطر، جموداً على مورد النصوص المتقدمة.

وأما الأواني فأدلة التعدد فيها بين ما له إطلاق يشمل الغسل بالمعتصم، وهو دليل التطهير من شرب الخنزير وموت الجرذ، بل ومن الولوغ أيضاً بناء على ثبوت لفظ المرتين» في صحيح البقباق وما ليس له إطلاق، بل يختص بالقليل، وهو موثق

********

(1) المختلف ص: 3 المسألة الأولى من باب المياه.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب النجاسات والأواني حديث: 1.

ص: 268

عمار الوارد في تطهير الكوز والإناء القذر، لاختصاص كيفية التطهير المذكورة فيه بالقليل.

والأمر في الثاني سهل، إذ بعد قصور دليل التعدد عن صورة الغسل بالماء المعتصم يكون المرجع إطلاق أدلة الغسل - لو تمت - وإطلاق دليل طهورية الماء المقتضيين للاكتفاء بالمرة.

وأما الأول فقد يستدل لتقييده بغير المعتصم بما ورد في المطر، بناء على ما تقدم من قضاء المناسبات الارتكازية بالتعدي منه لكل ماء معتصم. لكن تقدم عند الكلام في ماء المطر من مباحث المياه التعرض لما استدل به على سقوط التعدد في الإناء به، وسبق منا المنع من نهوض النصوص بذلك. والسيرة لو تمت على طهارة الإناء بإصابة المطر له أو للماء الذي فيه، فالمتيقن منها نجاسة الإناء بغير الولوغ وشرب الخنزير وموت الجرذ.

فلابد إما من التشبث بما سبق في البول للبناء على إلغاء خصوصيته، وأن المستفاد منه سقوط التعدد مطلقاً، لأن الجهة الارتكازية المشار إليها في وجه الاستدلال بصحيح محمد بن مسلم تعم جميع موارد التعدد.

أو دعوى انصراف الغسل في نصوص الإناء للغسل بالقليل، لأنه هو المتيسر لعامة الناس في عصر صدور الروايات أو لنحو ذلك، كما يناسبه موثق عمار المتقدم الوارد في تطهير الكوز والإناء القذر، حيث سئل فيه عن كيفية غسله، وكانت الصورة المذكورة في الجواب هي غسلة بالماء القليل. ولاسيما أن موثق عمار الوارد في غسل الإناء لموت الجرذ من تتمة الموثق المذكور، وقد سبق انصرافه للغسل بالقليل، وأن دليل تعدد الغسل بالماء في الولوغ لم يستفد من إطلاق يعتد به، لعدم ثبوت اشتمال صحيح البقباق على لفظ «مرتين»، وإنما تمم الدليل عليه بإطلاق موثق عمار المذكور، الذي هو مختص بالماء القليل.

على أن خصوصية الإناء ارتكازاً إنما هي بهيئته، كما تقدم عند الكلام في عموم

ص: 269

التعدد في التطهير من البول لغير الثوب والبدن، بلحاظ أنه يرسب فيه ماء الغسالة، واستقذار ماء الغسالة أو نجاسته مثير لشبهة عدم تطهيره أو احتياجه لعناية زائدة في التطهير، ولذا كانت المناسبات الارتكازية قاضية بإلحاق ما يشاركه في الجهة المذكورة في كيفية التطهير وإن لم يصدق عليه الإناء، كالهاون والصفائح المعدنية والقناني الزجاجية، وبقصور تلك الكيفية عن الإناء إذا لم يرسب فيه ماء الغسالة كالصحون المنبسطة والأواني المثقوبة التي لا يرسب الماء فيها بل يتسرب بمجرد صبه على الموضع النجس منها، وكظاهر الإناء.

وحينئذ فمن الظاهر أن الخصوصية المذكورة إنما تقتضي الاستقذار والعناية في التطهير إذا كان ماء الغسالة نجساً، لعدم اعتصامه، أما إذا كان معتصماً فلا أثر للخصوصية المذكورة في الاستقذار ولا في احتياج التطهير للعناية. وكفى بذلك منشأ للانصراف المدعى في المقام، معتضداً أو مؤيداً بجميع ما سبق.

هذا وفي المبسوط ونسخة من الخلاف أنه لو ولغ الكلب في الإناء ثم وقع الإناء في ماء معتصم حصل له بذلك غسلة واحدة. وفي المعتبر والمنتهى أنه يطهر لو تعاقبت عليه الجريات.

وظاهرهم عدم سقوط التعدد في المعتصم، غايته أنه اكتفى في المعتبر والمنتهى عن الغسلات المتعددة بالجريات المتعددة في غمسة واحدة. وكأن مرادهما من الجريات المتعددة تعاقب جريان الماء عليه بسبب تحريكه فيه، بحث يمر عليه مياه متعددة من الماء الكثير الذي وقع فيه.

ويظهر ضعف ما ذكروه مما سبق في وجه سقوط التعدد في الماء المعتصم. ولعله لذا قال في المنتهى في آخر الفرع المذكور: «والأقرب عندي بعد ذلك كله أن العدد إنما يعتبر لو صبّ الماء فيه، أما لو وقع الإناء في ماء كثير أو ماء جارٍ وزالت النجاسة طهر». كما يظهر ضعف ما ذكره الشيخ (قدس سره) من حصول غسلة واحدة مما سبق من لزوم تقديم الغسل بالتراب، بناء على ما يأتي من عدم سقوطه في الكثير. بل لا منشأ

ص: 270

نعم الإناء المتنجس بولوغ الكلب لا يسقط فيه الغسل بالتراب الممزوج بالماء (1)،

لاحتمال سقوط التراب بعد عدم سقوط التعدد ولعله لذا كان في النسخة الأخرى من الخلاف عدم حصول شيء من الغسلات بذلك.

ويظهر ضعف ما في المعتبر والمنتهى من الاكتفاء عن الغسلات المتعددة بالجريات المتعددة من ظهور دليل التعدد في عدم احتساب الغسلة الجديدة إلا بعد تفريغ الإناء من الماء وخلوه منه، وهو الظاهر أيضاً من إطلاق تعدد الغسل.

(1) كما في جامع المقاصد والروض وعن البيان، ويناسبه إطلاق غير واحد خلافاً لما في نهاية الأحكام من النص على عدم الحاجة للتراب حينئذ، وهو ظاهر القواعد والتذكرة والمختلف. ويظهر منه أن الوجه في ذلك اختصاص دليل التعدد بصورة صب الماء في الإناء الذي لا يتم إلا في القليل.

ويظهر ضعفه مما تقدم من اختصاص ذلك بموثق عمار الوارد في تطهير الإناء القذر على إطلاقه، دون بقية ما ورد في الإناء، ومنه الصحيح الوارد في الولوغ.

نعم لو تم انصراف الغسل في بقية ما ورد في الإناء للغسل بالقليل بقرينة موثق عمار المذكور، كما تقدمت الإشارة لذلك اتجه ما ذكره.

لكن في نهوضه وحده بالاستدلال في المقام والخروج عن إطلاق دليل التراب إشكال، بل منع خصوصاً بعد ذكر الغسل بالتراب فيه أولاً قبل التعرض للغسل بالماء، حيث يقوى حينئذ إطلاقه.

على أن من القريب إلغاء خصوصية القليل في الاحتياج للتراب، لأن القلة والكثرة بمقتضى المناسبات الارتكازية إنما يكونان دخيلين في قوة مطهرية الماء وضعفها، لا في الاستغناء عن غيره في التطهير والاحتياج له، وذلك يناسب سقوط التعدد في الكثير دون التراب.

ص: 271

(272) وإن سقط فيه التعدد (1).

(مسألة 11): يكفي الصب في تطهير المتنجس ببول الصبي (2) قبل

نعم لو كان الدليل على سقوط التعدد في المعتصم قوله (عليه السلام) في حديث الكاهلي المتقدم: «كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر» اتجه سقوط التراب أيضاً، كما تقدم في المسألة الثانية عشرة من مباحث المياه. لكنه ممنوع، كما تقدم هناك.

(1) كما يتضح وجهه مما سبق.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب. ونفى وجدان الخلاف فيه في المدارك والحدائق والجواهر ومحكي الذخيرة والمعالم، بل نفى الخلاف فيه في المفاتيح، وفي المدارك والحدائق وعن الدلائل أنه مذهب الأصحاب، وفي الناصريات والخلاف دعوى الإجماع عليه.

ويقتضيه النصوص، كصحيح الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) المتضمن ما تقدم من حكم إصابة البول للجسد والثوب وفيه بعد ذلك: «وسألته عن الصبي يبول على الثوب. قال: تصب عليه الماء قليلاً ثم تعصره»(1) ، وصحيح الحلبي: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الصبي. قال: تصب عليه الماء، فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً والغلام والجارية في ذلك شرع سواء»(2) ، ونحوهما غيرها مما لم يتضح اعتبار سنده.

نعم في موثق سماعة: «سألته عن بول الصبي يصيب الثوب. فقال: اغسله. قلت: فإن لم أجد مكانه؟ قال: اغسل الثوب كله»(3).

لكن لابد من حمله على من أكل، بقرينة صحيح الحلبي. أو على سوقه لبيان نجاسته من دون نظر لخصوصية الغسل عن الصب، ردعاً عن توهم طهارته الذي قد يظهر من بعض النصوص، وحكي عن ابن الجنيد، على ما تقدم في مسألة نجاسة البول.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2، 3.

ص: 272

(273) أن يتغذى بالطعام (1).

ولعله الأظهر، لأن الذي لم يأكل أظهر أفراد الصبي الذي يبول على الثوب عرفاً، وهو الذي ينسبق من الإطلاق أولاً، فهو وإن لم يكن بالنحو الذي يختص به الإطلاق، إلا أنه كالمتيقن منه في المقام، كما يناسبه الصحيحان الأولان، فيصعب جداً حمل إطلاق الصبي في الموثق المتقدم على غيره.

(1) كما لعله المعروف. ويقتضيه صحيح الحلبي المتقدم. خلافاً للسرائر، فاكتفى بعدم بلوغه السنتين.

وهو خروج عن ظاهر النصوص، إذ لو بني على العمل بإطلاق الصبي - كما في صحيح الحسين - لزم الاكتفاء بعدم بلوغه سن التكليف، وإن بني على العمل بصحيح الحلبي لزم جعل المدار على الأكل.

نعم تضمنت جملة من عبارات الأصحاب عنوان الرضيع. لكنه إن لم يرجع لمفاد صحيح الحلبي خال عن الشاهد. مع أن ظاهره اعتبار فعلية الرضاع، لا عدم تجاوز سن الرضاع الشرعي. ومن ثم قد يحمل ما في السرائر على ما يأتي من اعتبار عدم تجاوز سن الرضاع زائداً على اعتبار عدم الأكل. ويأتي الكلام فيه.

هذا والمراد من عدم التغذي بالطعام عدم التغذي به بالوجه المعتد به، بحيث تصدق أنه من غذائه، كما صرح به جماعة على اختلاف منهم في بيان ذلك. قال في الجواهر: «فلا عبرة بالأكل نادراً أو دواءً ونحوهما، وإلا لم يتحقق موضوع المسألة، لاستحباب تحنيك الولد بالتمر، كما في المنتهى وغيره». وهو أقرب مما في المنتهى حيث قال: «بل الأقرب تعلق الحكم بطعمه مستنداً إلى إرادته وشهوته».

وأما ما في جامع المقاصد والروض والمسالك وعن حاشية الشرايع من اعتبار مساواة الغذاء للبن أو كونه أكثر منه. فهو خروج عن إطلاق صحيح الحلبي من غير دليل.

ص: 273

بل في مدة الرضاع (1)، على الأحوط. وإن كان الأقوى عدم اعتبار ذلك، بل يكفي الصب مادام رضيعاً لم يتغذ وإن تجاوز عمره الحولين، ولا يحتاج إلى العصر (2).

ومثله ما قد يحمل عليه كلام السرائر المتقدم من اعتبار الأكل بعد السنتين، ولا عبرة بالأكل قبلها ولو كثر.

(1) وهي السنتان، فلا يكتفي بالصب بعدها وإن لم يأكل. كما في جامع المقاصد والروض والمسالك وعن حاشية الشرايع. وقد يحمل عليه كلام السرائر المتقدم.

وكأنه لحمل صحيح الحلبي على خصوص الرضيع الذي سبق اشتمال جملة من عبارات الأصحاب عليه، مع حمل الرضيع على من كان في سن الرضاع الشرعي، ويظهر ضعفه مما سبق. أو لحمله على الأعم من فعليته الأكل وشأنيته، لتجازوه سن الرضاع الشرعي. وهو أضعف.

(2) كما هو صريح جماعة، إما لأن العصر هو المقوم للغسل، والذي به يمتاز عن الصب، فيكون ظاهر ما تضمن الاكتفاء بالصب عدم اعتباره، بل يكون كالصريح من صحيح الحلبي المتضمن للتفصيل بين من أكل وغيره بلزوم الغسل في الأول دون الثاني.

وإما لأن الغرض من العصر انفصال ماء الغسالة، وهو غير لازم في المقام، كما صرح به جماعة، بل في المدارك أنه مما قطع به الأصحاب، وقد يظهر من الشيخ في الخلاف دخوله في معقد الإجماع المدعى على الاكتفاء بالصب. قال في الجواهر: «لكن ظهور الأدلة - من النصوص وغيرها، كما لا يخفى على من لاحظها - في خفة هذه النجاسة والتساهل في أمرها، وأنه لذلك خالفت غيرها من النجاسات - مضافاً إلى ظاهر الإجماع السابق وغيره - يمنع اعتبار أصل الانفصال...».

ويظهر ضعف الأول مما سبق في المسألة الأولى من تقوم الغسل بنحو من

ص: 274

والأحوط وجوباً اعتبار التعدد (1).

التعميق لإزالة النجاسة، لا بالعصر. ولاسيما بلحاظ صحيح الحلبي، إذ لو كان الغسل متقوماً بالعصر لكان الأنسب أن يقول فيه: «فإن كان قد أكل فاعصره».

وأما الثاني فيندفع بعدم وضوح قيام إجماع تعبدي على عدم وجوب إخراج ماء الغسالة. ولاسيما مع عدم تعرض بعضهم - كالمفيد في المقنعة - لحكم بول الرضيع أصلاً، ومع تعبير الصدوق في الفقيه بمضمون صحيح الحلبي الذي عرفت حاله، ومع قرب ابتناء ذهاب من ذهب إلى ذلك على الوجه الأول الذي عرفت ضعفه. ومنه يظهر حال ما سبق من الجواهر.

ومن ثم لا مخرج عما سبق في وجه اعتبار العصر ونحوه في سائر النجاسات، ويكون امتياز بول الصبي المذكور عن غيره بالإكتفاء فيه بالصب قبل العصر بلا حاجة إلى الفرك والغمز ونحوهما مما يتحقق به الغسل.

ولاسيما مع ما سبق في صحيح الحسين بن أبي العلاء من الأمر بالعصر. وحمله على العصر للتجفيف، أو عملاً بمقتضى العادة، أو لإخراج عين النجاسة بلا قرينة. وكذا حمله على الاستحباب.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن القرينة عليه تقييد العصر في الصحيح بكونه بعد الصب، للقطع بكفاية العصر حين الصب لو قيل بوجوبه.

ففيه: أنه لا موضوع للعصر إلا بعد الصب. غايته أن الصب قد يستمر زيادة على المقدار الواجب فيجوز حينئذ مقارنة الصب له باستمراره، لكنه خارج عن مفاد الصحيح، فإن موضوعه مسمى الصب الحاصل بأول أزمنته، وهو الذي يلزم تأخر العصر عنه.

(1) كما عن كشف الغطاء، وفي الجواهر: «لم أعثر على موافق له صريحاً». وكأنه لإطلاق نصوص التعدد في البول.

ص: 275

(276) ولا تلحق الأنثى بالصبي (1).

لكنها إنما تضمنت غسل الثوب من البول مرتين، فما دل على عدم وجوب الغسل من بول الرضيع والاكتفاء فيه بالصب مخرج له عنها موضوعاً، بل يكون مقتضى إطلاق الصب فيه الاكتفاء بالمرة معتضداً بالإطلاق المقامي لأدلة طهورية الماء.

نعم الظاهر اختصاص الإطلاق المذكور بصحيح الحسين بن أبي العلاء، حيث لم يشر فيه للتعدد، ولاسيما مع التنبيه فيه على قلة الماء. لقوة ظهوره حينئذ في الاكتفاء بالصبة الواحدة في ذات الماء القليل.

بل قد يقال: إن عدم التعرض فيه للتعدد في الصب من بول الصبي مع التعرض في صدره للتعدد في الغسل من مطلق البول موجب لقوة ظهوره في سقوط التعدد في الصب من بول الصبي. لكنه موقوف على كونهما في كلام واحد، ليكون بعضه قرينة على بعض. وهو غير ظاهر، لما أشرنا إليه غير مرة - تبعاً لشيخنا الأستاذ (قدس سره) - من أن الفصل بين الكلامين بمثل: «وسألته» قد يناسب تعدد الكلام.

كما أن صحيح الحلبي حيث كان مسوقاً للفرق بين بول الصبي وغيره بالصب والغسل يشكل ظهوره في الإطلاق من حيثية التعدد، وينحصر الأمر بصحيح الحسين بالتقريب المتقدم.

(1) قال في الجواهر: «وفاقاً للمشهور، بل لعله لا خلاف فيه... بل في مفتاح الكرامة عن المختلف الإجماع عليه وإن لم أجده فيما حضرني من نسخته».

لاختصاص صحيح الحسين بن أبي العلاء بالصبي، ولما في موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: «أن علياً عليه السلام قال: لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم، لأن لبنها يخرج من مثانة أمها، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل أن يطعم، لأن لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 276

وفي حديث زينب بنت جحش عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يجزي الصب على بول الغلام، ويغسل بول الجارية»(1) وفي حديث لبابة بنت الحارث في حديث بول الحسن (عليه السلام)

في حجر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «فقلت: أعطني إزارك لأغسله، فقال: إنما يغسل من بول الأنثى»(2).

لكن الموثق ظاهر في التفصيل بين بول الصبي وبول الجارية بطهارة الأول ونجاسة الثاني، لا بالتطهير من الأول بالصب ومن الثاني بالغسل، كما هو المدعى. مضافاً إلى غرابة ما تضمنه من الفرق بين لبنيهما في المنبع ومن إلحاق اللبن بالبول فيهما. والحديثين الأخيرين عاميان، لا ينهضان بالاستدلال. على أن الثاني ظاهر في طهارة بول الصبي كموثق السكوني. فلم يبق إلا الأول، وهو اختصاص صحيح الحسين بالصبي، حيث يلزم معه الرجوع في الصبية لعموم نجاسة البول. إلا أنه لابد من الخروج عنه بصحيح الحلبي المتقدم الصريح في عموم الحكم للجارية.

لكن ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الصحيح مختص بالجارية، وهي لا تعم الرضيعة، وإرادة الأعم منها غير ظاهرة، واستعمالها فيها في موثق السكوني مجاز لا يصار إليه إلا بقرينة. وكون الغلام أعمّ من الرضيع أو محتمل له لا يصلح قرينة على ذلك. على أن تقييد الغلام بغير الرضيع على تقدير عمومه أولى من التجوز في الجارية بحملها على ما يعم الرضيعة، خصوصاً بلحاظ العدول عن التعبير فيه بالصبي - كما في السؤال - إلى التعبير بالغلام، حيث يناسب ذلك اختلاف المراد بهما. ومن هنا يتعين أن يكون المراد بقوله (عليه السلام): «والغلام والجارية في ذلك شرع سواء» التسوية بينهما في وجوب الغسل لغير الرضيع.

وفيه: أن الجارية في الأصل الذي هو مقتضى اشتقاقها صفة للأنثى التي تجري

********

(1) كنز العمال ج: 5 ص: 128 رقم: 2644.

(2) تيسير الوصول ج: 3 ص: 57.

ص: 277

وتسعى، ومنه قوله تعالى: "إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية"(1). وقد شاع إطلاقها على الفتية من النساء بلحاظ شدة جريها أو نحو ذلك حتى عدت من معانيها لغة، كما في لسان العرب والقاموس.

وكذلك شاع استعمالها أيضاً في مطلق الأنثى من الإنسان، كما يظهر من النصوص الكثيرة، ومنها حديثا السكوني وزينب المتقدمان، ويقتضيه المقام، فإنه بعد أن تضمن صدر الصحيح بيان حكم بول الصبي نبّه في ذيله هذا إلى إلغاء خصوصية الصبي، وأن الحكم يعمّ الذكر والأنثى، أو أن الصبي قد استعمل فيه بمعنى الجنس الأعم منهما، فهو أشبه بالمفسر للصدر. ونكتة العدول عن الصبي للغلام هو وروده للتفسير، المناسب لتبديل اللفظ.

على أن ما ذكره (قدس سره) في معنى الحديث إن أراد به بيان مساواة الغلام الكبير للجارية الكبيرة في لزوم الغسل من بولهما، فلا مناسبة بينه وبين الصدر. وإن أراد به بيان مساواة الغلام بعد الأكل للجارية الكبيرة فهو أبعد، بل الأنسب بيان مساواة الغلام بعد الأكل للرجل.

وإن أراد به بيان مساواة الغلام بعد الأكل للجارية بعد الأكل فالحديث لا يستوفي الأقسام، حيث تبقى الجارية قبل الأكل مسكوتاً عنها.

وإن أراد به بيان مساواة الغلام بعد الأكل للجارية مطلقاً قبل الأكل وبعده فهو لا يناسب وحدة السياق بين العنوانين.

مع أن مقتضى الأخيرين الخروج في الجارية عن المعنى اللغوي المتقدم، وهو الفتية من النساء واستعمالها في الأعم منها ومن الرضيعة بعد الأكل أو مطلقاً. لوضوح أن الأكل يجتمع مع الرضاع، ولا يوجب دخولها في المعنى المذكور. ومن هنا يتعين حمله على التساوي بيهما في التفصيل المتقدم بتمامه.

********

(1) سورة الحاقة، الآية: 11.

ص: 278

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من إجمال الصحيح، لأن اسم الإشارة كما يمكن رجوعه للحكم الأول، وهو الاكتفاء بالصب مع عدم الأكل، يمكن عوده للثاني، وهو لزوم الغسل مع الأكل.

لاندفاعه بأن مفاد هذه الفقرة لما كان هو المساواة بين الغلام والجارية، فالمتعين رجوع اسم الإشارة للتفصيل في الغسل والصب بين الأكل وعدمه، لأنه الحكم الثابت للغلام، لا لخصوص أحد شقي التفصيل، لعدم تحقق المساواة بينهما معه.

بل لا مجال لرجوعه للشق الأول، لأنه أبعد، ومع الدوران بينهما يتعين الرجوع للشق الأخير. لكنه مستلزم لعدم استيفاء الأقسام لو أريد به الجارية بعد الأكل، والخروج عن وحدة السياق بين العنوانين لو أريد به الجارية مطلقاً، نظير ما تقدم في مناقشة سيدنا المصنف (قدس سره).

نعم لو كان التعبير هكذا: «وكذلك الجارية» فقد يتجه التردد بين رجوعه للتفصيل بتمامه ولخصوص الشق الأخير منه، دون خصوص الشق الأول.

وإن كان الأظهر حتى مع ذلك هو الرجوع للتفصيل بتمامه، لأن المشبه به عرفاً هو الصبي، وحكمه هو التفصيل بتمامه. بل لو فرض كون المشبه به هو الحكم فالتفصيل هو الحكم المنظور بالأصل، فينسبق كونه هو المشبه به، دون الشق الأخير منه الذي من شؤونه وجزء منه.

ومنه يظهر ضعف ما في الجواهر وعن بعض من سبقه من تقريب رجوعه للشق الأخير من التفصيل - خصوصاً بناء على جريان ذلك مجرى القيد المتعقب لجمل متعددة - بقرينة الشهرة أو الإجماع والأخبار المتقدمة. إذ فيه أن ذلك كله لا ينهض بالخروج عما ذكرنا في معنى الصحيح، كما يظهر مما سبق.

ومن هنا كان الظاهر جريان التفصيل في الأنثى كما يظهر من الصدوق، وحكي عن رسالة والده، لتعبيرهما بما يقارب عبارة الصحيح، كالرضوي. وإليه مال في الحدائق. بل قد يظهر من الكليني، لذكره الصحيح في الباب المناسب من دون

ص: 279

(280) (مسألة 12): يتحقق غسل الإناء بالقليل بأن يصب فيه شيء من الماء (1)، ثم يدار فيه (2) إلى أن يستوعب تمام أجزائه ثم يراق، فإذا فعل ذلك به ثلاث مرات فقد غسل ثلاث مرات وطهر.

إشارة لما ينافيه. وفي الذكرى - بعد أن ذكر امتياز بول الصبي بكفاية الصب وعدم الحاجة للعصر - قال: «وفي بول الصبية قول بالمساواة، والعصر أولى».

بقي شيء: وهو أن السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة الوثقى بعد أن خص الصب بالصبي اشترط فيه أن يرضع من مسلمة، فلو كان يرضع من كافرة أو خنزيرة وجب الغسل.

وكأنه لأن المستفاد من موثق السكوني المتقدم اعتبار طهارة اللبن في سقوط الغسل. ويظهر ضعفه مما تقدم من أن مفاد الموثق طهارة البول تبعاً لطهارة اللبن. وحيث لا مجال للعمل به في ذلك لا مجال للاستدلال به على التفصيل المذكور.

ومثله دعوى انصراف إطلاق سقوط الغسل في بول الصبي عما إذا كان يرتضع بلبن نجس، فيرجع فيه إلى عموم وجوب الغسل من البول. لاندفاعها بأن الإنصراف المذكور بدوي، بسبب الغلبة، من دون أن يبتني على النكتة المذكورة، فلا يعول عليه في الخروج عن الإطلاق.

(1) بلا إشكال كما تضمنه موثق عمار المتقدم في آخر المسألة التاسعة.

(2) ويجزي ملء الإناء بالماء ثم إفراغه منه، كما في العروة الوثقى، وحكاه في الحدائق عن جمع من الأصحاب. واستشكل فيه في الجواهر بأنه خلاف مقتضى موثق عمار المشار إليه آنفاً وكذا موثقه الثاني الآتي في إناء الخمر المتضمن للغسل والدلك.

لكن الموثق الثاني مختص بمورده، حيث لا إشكال في الاكتفاء بالصب في غير الخمر إذا لم يكن للقذر كثافة وتماسك، كما يشهد به الموثق الأول.

ص: 280

(281) (مسألة 13): يستحب في تطهير أواني الخمر الغسل سبعاً، وإن كان الأقوى أنها كسائر الأواني في كفاية الثلاث (1).

وأما التحريك الذي تضمنه الموثق الأول فالمناسبات الارتكازية قاضية بأن الغرض منه إيصال الماء لجميع مواضع النجاسة، وأن المطهر هو ذلك بأي وجه اتفق، ولذا لا يظن به ولا بغيره التوقف في الاجتزاء بصب الماء على الموضع النجس من الإناء ابتداء بحيث يصل له الماء بالصب رأساً لا بالتحريك بعده.

ودعوى توقف الغسل على جريان الماء على الموضع النجس، وهو لا يتحقق مع ملء الإناء بالماء. مدفوعة بأن الغسل لا يتقوم بجريان الماء، بل لابد فيه من الدلك ونحوه، كما تقدم توضيحه في المسألة الأولى.

(1) كما في الشرايع والنافع والقواعد وأطعمة النهاية والمهذب وكشف الرموز والتنقيح. بل هو ظاهر الخلاف ومن تبعه ممن لم يستثنه من عموم وجوب غسل الإناء ثلاثاً. لموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر قال: تغسله ثلاثاً. وسئل: أيجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده، ويغسله ثلاث مرات»(1). ولأجله ترفع اليد عن ظاهر موثقه الآخر عنه (عليه السلام): «في الإناء يشرب منه النبيذ. فقال: يغسله سبع مرات. وكذلك الكلب»(2) فيحمل على الاستحباب.

ومنه يظهر ضعف القول بوجوب السبع، كما في المقنعة والمبسوط والمراسم والوسيلة والذكرى والدروس وجامع المقاصد وطهارة النهاية وعن غيرها، وفي جامع المقاصد والروض أنه المشهور.

وما في جامع المقاصد من ترجيح حديث السبع على حديث الثلاث بالشهرة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 51 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 17. باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 281

كما ترى، لأن الشهرة المرجحة هي شهرة الرواية، دون شهرة الفتوى لو تمت في المقام. على أن الترجيح فرع استحكام التعارض، ولا مجال له في المقام بعد امكان الجمع بالحمل على الاستحباب.

ومثله ما في الحدائق من الجمع بينهما بالحمل على اختلاف الأواني في قلع النجاسة، فمنها ما تقلع النجاسة عنه بالثلاث، ومنها ما لا تقلع النجاسة عنه إلا بالسبع. فإنه تحكم لا شاهد عيه ولا ضابط له، ولاسيما مع عدم التقارب بين الثلاث والسبع، حيث يقطع بوجود الواسطة بينهما في الأواني. بل لا ينبغي التأمل في لزوم زوال عين النجاسة قبل الغسل أو بعد الغسلة الأولى، وأن لزوم ما زاد عليها تعبد محض، لا من أجل زوال عين النجاسة.

هذا وقيل بالاكتفاء بالمرة، كما في المعتبر والمختلف والتذكرة والمنتهى والإرشاد والروض وغيرها. لضعف نصوص التعدد، أو لحملها على الغالب من توقف الإنقاء على الثلاث، كما في المنتهى. ولإطلاق ما دل على جواز استعمال إناء الخمر بعد غسله، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الشرب في الإناء يشرب فيه الخمر قدحاً عيدان أو باطية. قال: إذا غسله فلا بأس»(1) ونحوه غيره.

وفيه: أن نصوص التعدد من الموثق الذي هو حجة على التحقيق. وحملها على الغالب من توقف الإنقاء على الثلاث لا شاهد له. بل تقدم لزوم زوال عين النجاسة بالغسلة الأولى أو قبلها.

وحينئذ يخرج بهذه النصوص عن إطلاقات الغسل المشار إليها، فتحمل على الغسل المطهر، وهو أقرب عرفاً من حمل نصوص التعدد على الاستحباب. ولاسيما مع قرب ورودها لبيان عدم مانعية استعمال الإناء في الخمر من استعماله في غيره ولو لتوهم عدم قابليته للتطهير.

هذا وقد تقدم في موثق عمار اعتبار الغسل والدلك، وعدم الاكتفاء بالصب،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

ص: 282

(283) (مسألة 14): يعتبر في الماء المستعمل في التطهير طهارته قبل الاستعمال (1)، كالتراب في الولوغ (2).

(مسألة 15): يعتبر في التطهير زوال عين النجاسة (3)، دون

وهو الذي تقتضيه القاعدة المتقدمة في المسألة الأولى لو كان للخمر أثر عرفاً لا يزول إلا بذلك. أما لو لم يكن له أثر معتد به فاللازم الخروج به عن ما تقتضيه القاعدة المتقدمة هناك من الاكتفاء فيه بوصول الماء، وقد سبق أنه لا مانع من الخروج عنها لو دل الدليل عليه بالخصوص.

اللهم إلا أن يحمل الموثق على مثل الأواني الخزفية التي ينفذ فيها الخمر في الجملة وتحتاج إزالته إلى كلفة ومؤنة، دون مثل الأواني الزجاجية والمعدنية، كما يناسبه إهمال الأصحاب لذلك، وعدم تنبيهم لخروجه عن القاعدة. فتأمل جيداً.

(1) بلا إشكال ظاهر، لوضوح ارتكاز أن النجس لا يكون مطهراً، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولما يظهر من النصوص الكثيرة المتضمنة لإراقة الماء النجس من عدم الانتفاع به في التطهير. بل الأمر أوضح من ذلك. ولذا استدل غير واحد على طهارة ماء الغسالة - خروجاً عن عموم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة - بأنه لو كان نجساً لامتنع التطهير بالماء القليل، غفلة عن أن المعتبر في مطهرية الماء طهارته في نفسه في رتبة سابقة على التطهير به، فلا ينافي نجاسته بسبب التطهير به وفي رتبة متأخرة عنه.

وبالجملة: وضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام في الاستدلال عليه.

(2) كما تقدم في المسألة الثامنة.

(3) لظهور أن دليل مطهرية الماء منصرف إلى ما يحصل به التنظيف من النجاسة عرفاً، ولا يكون إلا بزوال العين. وهو المنصرف من إطلاق الغسل. بل هو الظاهر من إضافة الغسل للنجاسة في مثل قوله (عليه السلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل

ص: 283

أوصافها (1)، كاللون والريح، فإذا بقي واحد منهما أو كلاهما لم يقدح في

لحمه»(1). وقوله (عليه السلام): «يستنجي ويغسل ما ظهر منه على الشرج...»(2) ، وغيرهما، حيث يتضمن الغسل معنى الإزالة.

ومنه يظهر عموم الحكم للمتنجس بالمتنجس، فيجب زوال عين المتنجس المنجس إذا لم يطهر بالغسل تبعاً، كالدبس والصبغ المتنجسين.

(1) كما صرح به غير واحد قال في المعتبر: «ويكفي في طهارة محل النجاسة زوال عينها وإن بقي لونها أو ريحها، لأنهما عرضان لا يحملان النجاسة. وعليه إجماع العلماء. ولأن إزالة الرائحة والأثر يتعذر أو يشق، فيسقط اعتباره دفعاً للحرج».

ويرجع الأول إلى أن مقتضى أدلة التطهير والغسل زوال العين، كما سبق، واعتبار ما زاد عليه مخالف للإطلاق.

ودعوى: أن بقاء العرض مستلزم لبقاء العين، لاستحالة انتقال العرض عن موضوعه.

ممنوعة أولاً: لأن انتقال العرض عن موضوعه وإن كان ممتنعاً، إلا أنه يمكن حمل المحل للعرض المماثل بتفاعل الجسمين، نظير حمل لون آخر بالمجاورة كما في الخضاب بعد بلوغه.

وثانياً: لأن الأجزاء الدقيقة التي يتوقف عليها انتقال العرض قد لا تعد من العين عرفاً، فلا يكون بقاؤها منافياً لصدق الغسل والانقاء ونحوهما. وقد تقدم نظير ذلك في المسألة الثامنة من الفصل الثاني من أحكام الخلوة.

أما الثاني فهو بظاهره لا يخلو عن إشكال. لوضوح عدم نهوض دليل نفي العسر والحرج ونحوهما بإثبات حصول الطهارة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 284

إلا أن يرجع إلى أنه لو كان البناء على عدم حصول التطهير حينئذ مع كثرة الابتلاء به للزم الحرج نوعاً من اعتبار التطهير، وهو مما يعلم بعدم ابتناء الأحكام الشرعية عليه، وعدم رضا الشارع به.

بل الإنصاف أنه لو كان الأمر كذلك للزم الهرج والمرج ولكثر السؤال عنه وشاع بيان الشارع فيه، وحيث لا أثر لذلك علم عدم مانعيته من الطهارة.

وكأنه إلى هذا إشارة في الجواهر بقوله: «مؤيداً بالعسر والحرج والسيرة والطريقة المستمرة. سيما في مثل الأصباغ المتنجسة ولو بالعرض من مباشرة الكفار وغيرهم، حيث يكتفي سائر المسلمين بغسلها إذا أريد تطهيرها من ذلك».

هذا مضافاً إلى ما ورد في دم الحيض، كمعتبر علي بن أبي حمزة عن العبد الصالح: «سألته أم ولد لأبيه... قالت: أصاب ثوبي دم الحيض، فغسلته فلم يذهب أثره، فقال: اصبغيه بمشق حتى يختلط ويذهب»(1) وغيره. مؤيداً أو معتضداً بصحيح ابن المغيرة عن أبي الحسن (عليه السلام): «قلت له: إن للاستنجاء حدّ؟ قال: لا، حتى ينقى ماثمة. قلت: فإنه ينقى ماثمة ويبقى الريح. قال: الريح لا ينظر إليها»(2) بناء على ما هو الظاهر من عمومه أو اختصاصه بالاستنجاء بالماء، وعلى عموم قوله: «الريح لا ينظر إليها» لغير موضع الاستنجاء من موارد الغسل من النجاسة.

وبمرسل الفقيه: «سئل الرضا (عليه السلام) عن الرجل يطأ في الحمام، وفي رجله الشقاق، فيطأ البول والنورة، فيدخل الشقاق أثر أسود مما وطئ من القذر وقد غسله، كيف يصنع به وبرجليه التي وطئ بهما، أيجزيه أن يخلل أظفاره [بأظفاره خ. ل]. ويستنجي فيجد الريح من أظفاره ولا يرى شيئاً. فقال: لا شيء عليه من الريح والشقاق بعد غسله»(3).

وأما خبر أبي يزيد عنه (عليه السلام): «أنه سأله عن جلود الدارش يتخذ منها الخفاف

********

(1و2و3) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2، 6.

ص: 285

(286) حصول الطهارة مع العلم بزوال العين (1).

(مسألة 16): الأرض الصلبة أو المفروشة بالآجر أو الصخر أو الزفت ونحوها يمكن تطهيرها بالماء القليل (2) إذا جرى عليها (3). لكن

قال: لا تصل فيها، فإنها تدبغ بخرء الكلاب»(1). فهو - مع ضعفه - أجنبي عما نحن فيه، لعدم التعرض فيه لبقاء أثر النجاسة من لون أو نحوه، ولأن نجاسة الخف لا تمنع من الصلاة فيه، لأنه مما لا تتم به الصلاة. ومن ثم لا مخرج عما سبق.

ومنه يظهر ضعف ما في المنتهى من وجوب إزالة اللون إذا أمكن دون الرائحة. وما يظهر من نهاية الأحكام من وجوب ذلك حتى في الرائحة إلا أن يحمل على ما إذا رجع امكان الإزالة إلى بقاء شيء من العين عرفاً، بحيث يتحلل ويزول بالغسل.

لكن في نهاية الأحكام: «ولو بقيت الرائحة واللون وعسر إزالتهما ففي الطهارة إشكال» إلى غير ذلك مما يظهر منه الخروج عما سبق.

(1) أما مع الشك فالمتعين البناء على النجاسة استصحاباً لها.

(2) فإن نصوص التطهير بالماء القليل وإن وردت في الثوب والبدن ونحوهما، دون الأرض، إلا أن الظاهر إلغاء خصوصية مواردها عرفاً. ولاسيما بملاحظة ما أشرنا إليه في المسألة السابقة من حملها على ما يناسب الغسل المنظف عرفاً، حيث لا يفرق في ذلك بين الموارد.

(3) ليتحقق بذلك انفصال ماء الغسالة عن الموضع النجس. بل لو كانت الأرض رخوة كفى في انفصال ماء الغسالة رسوبه في باطنها.

وما في العروة الوثقى من الإشكال في صدق الانفصال بذلك، في غير محله، خصوصاً بناء على ما سبق من حمل أدلة التطهير على ما يناسب التنظيف عرفاً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 286

(287) (287) مجمع الغسالة يبقى نجساً (1).

(مسألة 17): لا يعتبر التوالي فيما يعتبر فيه تعدد الغسل (2)، فلو غسل في يوم مرة وفي آخر أخرى كفى ذلك. نعم الأحوط وجوباً المبادرة إلى العصر فيما يعصر (3).

(مسألة 18): إذا جرى ماء الغسالة من الموضع النجس إلى ما اتصل به المواضع الطاهرة لم يتنجس، فلا يحتاج إلى تطهير (4)، من غير فرق بين البدن والثوب وغيرهما من المتنجسات، والماء المنفصل من الجسم محكوم

نعم يتجه الإشكال فيما إذا لم يرسب الماء في باطن الأرض بل بقي في ظاهرها وصيرها موحلة كالأرض الترابية إذا صب عليها الماء فلم ينفذ فيها، بل صيَّر ظاهرها طيناً ووحلاً.

(1) لتنجسه بماء الغسالة.

(2) للإطلاق.

(3) لأن المتيقن من زوال الاستقذار عرفاً بانفصال ماء الغسالة إنما هو مع المبادرة لفصله بالنحو المتعارف في التنظيف، وحيث كانت أدلة التطهير محمولة على الغسل بالنحو الموجب للتنظيف عرفاً أشكل ثبوت الإطلاق لها بنحو يقتضي عدم اعتبار الفورية، سواءً في ذلك أدلة الغسل أم العصر.

وكذا لو كان المنشأ لوجوب العصر هو لزوم انفصال ماء الغسالة النجس، لأن المتيقن من طهارة الموضع بانفصال ماء الغسالة عنه ما إذا كان بالنحو المتعارف في التنظيف. ومنه يظهر العموم لغير موارد العصر من موارد انفصال ماء الغسالة.

(4) لما هو المعلوم من غلبة سريان ماء الغسالة للمواضع المتصلة بالموضع النجس في البدن والثياب وغيرها، وندرة الاقتصار فيه على الموضع النجس أو

ص: 287

بالنجاسة (1).

تعذر ذلك، مع ما هو المعلوم من السيرة - تبعاً للمرتكزات الشرعية، بل العرفية في

التنظيف - من عدم نجاسة تلك المواضع وعدم وجوب تطهيرها بسبب ذلك من دون فرق في ذلك بين غسالة الغسلة المتعقبة بطهارة المحل وغيرها.

وما يظهر من بعض مشايخنا (قدس سره) من نجاسة ملاقي الأولى دون الثانية حتى على القول بنجاستها. غير ظاهر الوجه بعد ملاحظة السيرة والمرتكزات.

نعم لابد من اتصال المواضع بعضها ببعض، بحيث يكون الانتقال بنحو السيلان والجريان، لا بنحو الطفرة، لخروجه عن المتيقن من السيرة والمرتكزات.

بل لا يبعد الاقتصار في التعدي إليه من المواضع القريبة دون المواضع البعيدة، لخروجها أيضاً عن المتيقن منهما.

كما أنه لابد من انفصال ماء الغسالة بالنحو المتعارف. فلو كان قليلاً فنفذ في المواضع الطاهرة ولم ينفصل عنها تنجست.

خلافاً لما عن البرهان القاطع من الجزم بالطهارة تبعاً، لأجل الحرج، نظير البلة المتخلفة في الموضع النجس بعد انفصال ماء الغسالة.

لكن الحرج الاتفاقي النادر لو تم لا يوجب الحكم بالطهارة كما تقدم غير مرة، والحرج النوعي الموجب للهرج والمرج وكثرة السؤال وانكشاف الحال غير حاصل، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف (قدس سره). ومنه يظهر الفرق بين البلل المذكور والبلل المتخلف بعد انفصال ماء الغسالة بالنحو المتعارف.

بل لابد من كثرة الماء المنفصل، بحيث يعد غسالة لتمام الموضع الذي أصابه، ولا يكفي انفصال القليل بحيث، يحمل الموضع المجاور أكثر ماء الغسالة. كل ذلك للاقتصار على المتيقن من السيرة والمرتكزات.

(1) كما هو الحال في ماء الغسالة في سائر الموارد. ومجرد عدم تنجيسه للموضع

ص: 288

(289) (مسألة 19): الأواني الكبيرة المثبتة يمكن تطهيرها بالقليل (1)، بأن يصب الماء فيها ويدار حتى يستوعب جميع أجزائها (2)، ثم يخرج حينئذٍ ماء

الطاهر الذي مرّ عليه لا يستلزم طهارته.

(1) لإطلاق أدلة غسل الإناء وتطهيره. واختصاص موثق عمار بالإناء غير المثبت الذي يمكن أن يحرك فيه الماء. غير مهمّ بعد ما سبق في المسألة الثانية عشرة من إلغاء خصوصية التحريك، وأن المقصود إيصال الماء بأي وجه اتفق.

(2) الظاهر أن المراد بالإدارة صب الماء مستديراً بنحو يستوعب جميع الأجزاء، لا إدارة الماء بعد صبه. إذ إدارته بعد صبه بتحريك الإناء متعذرة بعد فرض كون الإناء مثبتاً. وإدارته بالآلة موجب لنجاسة الآلة وتنجيسها للماء والإناء، ولا دليل على العفو عنه بحيث يبقى الماء صالحاً للتطهير.

ولا مجال لقياسها بآلة إخراج الماء التي يأتي العفو عنها، للاضطرار لآلة الإخراج المستلزم للعلم بالعفو عنها، بخلاف المقام، لإمكان صب الماء بنحو الاستدارة. بل لعله المتعارف في تطهيرها، لأنه الأيسر.

وحينئذ يشكل لزوم التثليث في المقام، لأن موثق عمار المتضمن للتثليث في الإناء مختص بصورة ما إذا كان استيعاب الماء لتمام سطح الإناء بتحريك الإناء، الموجب لكون التطهير بماء الغسالة المتنجس بصبه في الإناء، حيث يناسب ذلك احتياج التطهير للعناية بتكرار الغسل وتجديده حتى تخف نجاسته ويقوى على التطهير.

ولا مجال للتعدي منه لمثل المقام، حيث لا يعود الماء المصبوب لتطهير باقي سطوح الإناء، بل يطهر كل منها بماء جديد طاهر، كما هو الحال في سائر موارد التطهير بصب الماء على الجسم وإجرائه عليه. نعم قد يتجه الحاجة للتعدد في قعر الإناء الذي يجتمع فيه ماء الغسالة. فلاحظ.

ص: 289

الغسالة المجتمع في وسطها بنزح أو غيره (1)، والأحوط وجوباً المبادرة إلى إخراجه (2)، ولا يقدح الفصل بين الغسلات، ولا تقاطر ماء الغسالة حين الإخراج على الماء المجتمع نفسه (3)، والأحوط وجوباً تطهير آلة الإخراج كل مرة (4).

(1) كسحبه بخرق تمتصه.

(2) نظير ما تقدم في المسألة السابعة عشرة من المبادرة للعصر.

(3) فإن الماء المذكور وإن كان نجساً ومقتضى القاعدة تنجيسه للماء الذي يقع عليه وللإناء الذي هو فيه كما يأتي في آلة الإخراج. إلا أنه لو لا العفو عن ذلك يلزم تعذر تطهير الأواني المذكورة غالباً بالقليل، لغلبة حصول التقاطر المذكور، وحيث لا إشكال في إمكان تطهيرها بالقليل الذي لم يكن التطهير بغيره ميسوراً في العصور السابقة يتعين البناء على العفو عن ذلك.

(4) كما في الروضة وعن جماعة. عملاً بمقتضى القاعدة، لنجاسة الآلة المذكورة بملاقاة الماء المقتضية لتنجيسها للماء وللإناء بعودها إليه ثانياً.

ودعوى: عدم تنجس المغسول بماء غسالته أو بما تنجس بها. إنما تتم قبل انفصال ماء الغسالة فراراً من تعذر التطهير لولا ذلك، أما بعد انفصال ماء الغسالة والمتنجس به فللازم البناء على تنجسه عملاً بمقتضى القاعدة.

ومثلها دعوى: أن مقتضى إطلاق الموثق العفو عن النجاسة المذكورة. لاندفاعها بعدم سوق الموثق لذلك - كما في الجواهر - لأنه بصدد لزوم التفريع في نفسه من دون نظر لكونه بالآلة، ليلزم العفو عن نجاسة آلة التفريغ. ولذا لا إشكال في عدم العفو عن نجاستها لو استندت لأمر آخر غير التفريغ. كما لا مجال لقياسه بتقاطر ماء الغسالة عند الإخراج الذي سبق العفو عنه. للفرق بتعذر التطهير لولا العفو هناك، ولا يتعذر التطهير لولا العفو هنا، غايته أنه يحتاج إلى عناية وكلفة، ولا

ص: 290

(291) (مسألة 20): الدسومة التي في اللحم أو اليد لا تمنع من تطهير المحل (1)، إلا إذا بلغت حداً تكون جرماً حائلاً، ولكنها حينئذ لا تكون دسومة بل شيئاً آخر.

(مسألة 21): إذا تنجس اللحم أو الأرز أو الماش أو نحوها، ولم تدخل النجاسة في عمقها (2)، يمكن تطهيرها بوضعها في طشت وصب

دليل على سقوطها.

نعم لو ورد دليل خاص في تطهير الأواني المثبتة بالقليل فقد يكون السكوت فيه عن التنبيه للعناية المذكورة شاهداً بعدم لزومها، وبالعفو عن هذه النجاسة. إلا أن الدليل لم يرد فيه، بل في الأواني الصغيرة التي يحرك الماء فيها ويفرغ منها بلا حاجة إلى آلة غالباً، ولا مجال لاستفادة العفو منه في المقام.

هذا وقد يدعى غفلة العرف عن تطهير الآلة، خصوصاً بالإضافة إلى ماء الغسالة الواحدة لو أحتيج لإعادة الآلة لتفريغه. ولعله لذا صرح في العروة الوثقى ومحكي نجاة العباد بالعفو في المقام.

لكن في بلوغه حداً يصلح للاستدلال والخروج عن مقتضى القاعدة إشكال، خصوصاً بعد عدم شيوع الابتلاء سابقاً بتطهير الأواني المذكورة، بحيث يعلم كيفية التطهير منها من السيرة. وإن كان من القريب جداً الاستغناء عن التطهير لإعادة الآلة لماء الغسلة الواحدة لمناسبته للمرتكزات المتشرعية والعرفية جداً. فلاحظ.

(1) لعدم مانعيتها من صدق الغسل، ولاسيما مع شيوع الابتلاء بها في المتنجسات، فلو كان البناء على مانعيتها للزم الهرج والمرج ولكثر السؤال والبيان بنحو يظهر الحال.

(2) أما إذا دخلت في عمقها ففي امكان تطهيرها كلام تقدم في المسألة الأولى.

ص: 291

الماء عليها (1) على نحو يستولي عليها، ثم يراق الماء ويفرغ الطشت مرة واحدة (2) فيطهر النجس، وكذا الطشت تبعاً (3). وكذا إذا أريد تطهير

(1) ولا يهم اتصال بعض أجزائها ببعض حال الغسل ونجاسة ماء الغسالة حينئذ، لوحدة الغسل عرفاً، بحيث يكون ماء الغسالة غسالة للكل وملاقاة بعضها لبعض، كملاقاة بعض أجزاء الثوب لبعض عند جمعه في الإناء حين الغسل.

(2) إذا كانت نجاستها بغير البول، أما إذا كانت نجاستها بالبول فلابد من مرة ثانية، نظير ما يأتي في الثوب، بناء على ما سبق في المسألة الرابعة من عموم لزوم التطهير من البول مرتين لجميع المتنجسات وعدم اختصاصه بالثوب والبدن.

(3) فإنه وإن كان ينجس بماء الغسالة - بناء على ما سبق من نجاسة مائها - إلا أن منصرف دليل غسل الإناء ثلاثاً عند تطهيره ما إذا كان نجساً بنفسه، دون ما إذا كان نجساً تبعاً للغسل فيه، بل يكفي غسله مع ما غسل فيه كسائر آلات الغسل، نظير اليد التي يغسل بها الثوب أو يدلك بها البدن عند تطهيره، لغفلة العرف عن تطهير الآلات مع كثرة الابتلاء به.

ولاسيما مع ما في صحيح محمد بن مسلم المتقدم في المسألة العاشرة من الأمر بغسل الثوب الذي يصيبه البول مرتين إذا كان في المركن، من دون تنبيه إلى تطهير المركن، خصوصاً بين المرتين، حيث يتوقف عليه تطهير الثوب فيه بالغسلة الثانية لو لم يطهر بغسله في الأولى تبعاً. لقوة ظهوره حينئذ في طهارة المركن تبعاً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من اختصاص الصحيح بالمركن، وليس هو من الأواني، لأن الأواني هي الظروف المعدة للأكل والشرب، وليس كل ظرف إناء.

ففيه أولاً: أن المركن هو الإجانة، وهي من الأواني، حيث قد يعجن فيها ويؤكل.

وثانياً: أن المناسبات الارتكازية قاضية بأن حكم الإناء في التطهير يجري في

ص: 292

الثوب، فإنه في يوضع في الطشت، ويصب الماء عليه، ثم يعصر ويفرغ الماء مرة واحدة، فيطهر ذلك الثوب والطشت أيضاً (1). وإذا كانت النجاسة محتاجة إلى التعدد - كالبول - كفى الغسل مرة أخرى على النحو المذكور (2). والأحوط استحباباً تطهير الإناء بعد ذلك (3) ثلاثاً.

(مسألة 22): الحليب النجس لا يمكن تطهيره وإن صنع جبناً ووضع الكثير حتى وصل الماء إلى أعماقه (4).

(مسألة 23): إذا غسل ثوبه النجس ثم رأى بعد ذلك فيه شيئاً من الطين أو دقائق الأشنان أو الصابون الذي كان متنجساً لا يضر ذلك في

كل ما كان بهيئته بحيث يجتمع فيه الماء عند التطهير، كما تقدم في المسألتين الرابعة والعاشرة.

(1) لعين ما سبق.

(2) كما تضمنه صحيح محمد بن مسلم.

(3) أما تطهيره بين الغسلتين فالاحتياط فيه ضعيف جداً لقوة ظهور صحيح محمد بن مسلم في عدم الحاجة لتطهيره لعدم التنبيه فيه لذلك، مع أنه لو وجب تطهيره لتَوقفَ عليه تطهير الثوب الذي ورد الصحيح لبيانه، فعدم التنبيه فيه له كالصريح في عدمه.

(4) لأن وصول الماء لأعماقه لا يقتضي استيلاء الماء على جميع مواضع النجاسة بعد كون المتنجس هو الحليب المنجمد بتمامه لا ببعض سطوحه، غاية الأمر نفوذ الرطوبة غير المسرية، أو صيرورة الماء مضافاً باختلاطه بأجزاء الحليب الدقيقة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن ذلك غسل له، وغسل كل شيء بحسبه. فهو كما ترى، لعدم تحقق الغسل في المقام بعدما سبق من عدم استيلاء الماء بوصف

ص: 293

(294) طهارة الثوب (1)، بل يحكم أيضاً بطهارة ظاهر الطين أو الأشنان أو الصابون (2) الذي رآه بل باطنه (3) إذا نفذ فيه الماء على الوجه المعتبر.

(مسألة 24): الحلي الذي يصوغها الكافر (4) إذا لم يعلم ملاقاته لها مع الرطوبة يحكم بطهارتها (5). وإن علم ذلك يجب غسلها ويطهر ظاهرها

الإطلاق على تمام أجزاء النجس. ويأتي نظير ذلك في المسألة الخامسة والعشرين.

(1) إلا إذا كان الطين أو نحوه لاصقاً بموضع من الثوب، بحيث يمنع من وصول الماء المطلق إليه، فيتعين حينئذ بقاء الموضع المذكور نجساً مع طهارة بقية مواضع الثوب التي وصل إليها الماء.

(2) إذا كان له تماسك بحيث يستولي عليه الماء ويغسله، أما إذا كان مائعاً بحيث لا يستولى عليه الماء المطلق فيتعين نجاسته ونجاسة ما يتصل به من أجزاء الثوب.

(3) بناءً على ما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الأولى من إمكان تطهير الباطن. وتقدم منّا الكلام فيه.

(4) يعني المحكوم بنجاسته. وتجري الأحكام الآتية في كل من يحتمل ملاقاتها عنده للنجاسة مع الرطوبة.

(5) لأصالة الطهارة، بل استصحابها. ومجرد صيرورته عند الكافر لا يقتضي رفع اليد عن الأصل المذكور والخروج عن إطلاق دليله. ولاسيما مع ما ورد من عدم وجوب غسل الثوب الذي يستعيره الكافر(1).

نعم قد يستفاد مما تضمن الأمر بغسل الثوب إذا كان عند من يتعرض للنجاسة(2) المحمول على الاستحباب عموم الاستحباب لغير الثوب، كما في المقام.

********

(1و2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73، 74 من أبواب النجاسات.

ص: 294

ويبقى باطنها على النجاسة (1)، وإذا استعملت مدة وشك في ظهور الباطن وجب تطهيره (2).

(1) هذا إنما يتم إذا علم بملاقاته برطوبة لجميع سطوحها الظاهر والباطنة، بحيث تنجس بتمامها، وهو كالمتعذر. نعم لو قيل بكفاية ذوبان الفلزات في سريان النجاسة فيها يتعين نجاستها بتمامها فيما إذا لاقت النجاسة حال ذوبانها، كالدهن السائل لو تنجس ثم جمد. لكن تقدم منه (قدس سره) ومنا في المسألة التاسعة عشرة في أول الفصل الثاني في كيفية سراية النجاسة المنع من سريان النجاسة فيها بذوبانها.

وحينئذ تكون ملاقاتها للنجاسة برطوبة قبل التذويب أو حاله موجبة لنجاسة بعض سطوحها المردد بين الظاهر والباطن، فيترتب أثر نجاستها في الجملة، دون نجاسة خصوص الظاهر، فضلاً عن الباطن معه، بل يحكم ملاقي الظاهر بالطهارة كسائر أفراد ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، بل غير المحصورة، لخروج نجاسة الباطن عن الابتلاء غالباً.

(2) يظهر الإشكال فيه مما سبق. نعم يتجه ذلك لو فرض نجاستها بتمامها كما هو الحال في نجاسة الدهن أو الشمع الذائب لو انجمد. لاستصحاب نجاسة السطح الظاهر فعلاً، للعلم بنجاسته سابقاً، والشك في تطهيره، بسبب تردده بين السطح الأول الذي طهر والسطح الباطن الذي لم يطهر.

نظير ما لو ابتلي الرجل بامرأة مرددة بين زوجته ومطلقته، أو بامرأة مرددة بين زوجته والأجنبية عنه، حيث يجري في حقه استصحاب زوجية الأولى وعدم زوجية الثانية.

وأما الإشكال فيه تارة: بأنه من استصحاب الفرد المردد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع. وأخرى: بأن احتمال انطباق السطح الظاهر فعلاً على السطح الظاهر سابقاً المعلوم الطهارة مساوق لاحتمال كون رفع اليد عن اليقين بالنجاسة فيه

ص: 295

(296) (مسألة 25): الدهن المتنجس لا يمكن تطهيره بجعله في الكر الحار ومزجه به (1)، وكذلك سائر المائعات المتنجسة فإنها لا تطهر إلا بالاستهلاك (2).

باليقين بالطهارة لا بالشك فيها، فيكون التمسك فيه بعموم دليل الاستصحاب من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

فهو كما ترى، لإندفاع الأول بأن المستصحب نجاسته ليس هو أحد السطحين على تردده، مع كون الأثر لكل منهما بعينه، والاستصحاب للمردد بينهما، بل المستصحب نجاسته هو السطح الظاهر فعلاً المردد واقعاً بينهما، من دون أن يكون لتردده أثر في مقام العمل، وإنما تمام الأثر له بعينه، لأنه هو الذي يلاقى ويحكم بنجاسة ملاقيه.

واندفاع الثاني بأن احتمال كون السطح الظاهر فعلاً هو السطح الظاهر سابقاً المعلوم الطهارة لا يستلزم احتمال كونه معلوم الطهارة، بل هو بواقعه الخارجي الذي هو موضوع الأثر مشكوك الطهارة قطعاً، فلا يجوز رفع اليد عن اليقين بالنجاسة فيه، لأنه رفع اليد عن اليقين بالشك لا غير. ومن ثم لا إشكال في جريان الاستصحاب.

(1) لعدم استيلاء الماء على جميع أجزائه النجسة مهما دقت، وإنما يتم ذلك فيما إذا لم يكن النجس هو الأجزاء الصغيرة بتمامها بل بسطوحها الظاهرة لا غير، كحبات الرمل، حيث يمكن استيلاء الماء عليها حينئذ وتطهر وقد تقدم نظير ذلك في المسألة الثانية والعشرين.

(2) بأن لا يبقى لها وجود عرفي يكون موضوعاً للنجاسة، لغلبة ما تستهلك فيه عليها، بحيث ينفرد عنوانه بالصدق على المجموع، ولا يصدق معه عنوانها حتى بنحو الاشتراك والامتزاج.

ص: 296

(297) (297) (مسألة 26): إذا تنجس التنور يمكن تطهيره بصب الماء من الإبريق عليه (1) ومجمع ماء الغسالة يكون نجساً (2) وإذا تنجس بالبول وجب تكرار الغسل مرتين (3).

(الثاني) من المطهرات: الأرض (4)، فإنها تطهر باطن القدم وما توقي به (5)

(1) يعني مرة واحدة، ولا يحتاج للتعدد، لعدم كونه إناء ولا ملحقا به لعدم تجمع ماء الغسالة فيه، بل في خارجه.

(2) فلو فرض امتصاص التراب والرماد له كفى إخراجهما ولا حاجة إلى غسل شيء.

(3) بناءً على ما سبق من عموم وجوب الغسل من البول مرتين لجميع المتنجسات، وعدم اختصاصه بالثوب والبدن.

(4) كما هو مقتضى إطلاق أكثر الفتاوى والإجماع وإطلاق النصوص الآتية. لكن اقتصر في المقنعة والشرايع ومحكي التحرير على التراب. ويناسبه الاقتصار عليه في حديث أبي هريرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «قال: إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور»(1) وفي نبوي آخر: «إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب»(2).

لكن لا مجال للخروج بهما عما سبق، المعتضد بإطلاق نبويين آخرين مرويين للعامة(3). ومن ثم قد ينهض ذلك قرينة إلغاء خصوصية التراب في كلامهم، وكون مرادهم مطلق الأرض.

(5) إجماعاً كما في جامع المقاصد، وفي المدارك وعن الدلائل أنه مقطوع به في كلام الأصحاب، وزاد في المدارك أن ظاهرهم الاتفاق عليه. لكن في الخلاف في المسألة

********

(1و2) التاج ج: 1 ص: 90.

(3) صحيح ابن حبان ج: 4 ص: 250 حديث: 1403. سنن البيهقي ج: 2 ص: 252 حديث: 1280.

ص: 297

الخامسة والثمانين بعد المائة من كتاب الطهارة: «إذا أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه بالأرض حتى زالت تجوز الصلاة فيه عندنا. وبه قال الشافعي قديماً. وقال: عفي له عن ذلك مع بقاء النجاسة... دليلنا: أنا بينا فيما تقدم أن ما لا تتم الصلاة فيه بانفراده جازت الصلاة فيه وإن كانت فيه نجاسة، والخف لا تتم الصلاة فيه بانفراده».

وظاهره بقاء النجاسة، وأن العفو عن الصلاة في الخف لأنه مما لا تتم به الصلاة. وما في حاشية المدارك للوحيد من التأمل في الظهور المذكور واستظهار الغفلة منه في الاستدلال. غريب.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) في تقريب الغفلة المذكورة من أن العفو عما لا تتم به الصلاة لا يناسب القيود المذكورة في كلامه، لعدم اختصاص العفو بصورة إصابة اسفل الخف، ولا بزوال عين النجاسة. ولا بصورة كون الإزالة بالدلك بالأرض.

فهو كما ترى لأن الإشكال عليه في ذكر هذه القيود أو حملها على عدم كونها احترازية، أهون من رفع اليد عن ظهور كلامه في بقاء النجاسة. ولاسيما بملاحظة ما حكاه عن الشافعي. مؤيداً ذلك باقتصاره في النهاية والمبسوط على العفو عن نجاسة ما لا تتم به الصلاة، من دون تعرض لمطهرية الأرض. ومن ثم نسب في المفاتيح الخلاف للخلاف، ورماه بالشذوذ. اللهم إلا أن يكون مراد عدم تطهيره بالدلك والمسح، وإن كان يطهر بالمشي.

هذا وفي المنتهى وعن التحرير الإشكال في مطهرية الأرض للقدم وأن المتيقن مطهريتها لما يتوقى به، مع الاعتراف في الأول بأنه مقتضى صحيح زرارة. كما قد يستفاد أيضاً من الاقتصار على ما يتوقى به القدم في المقنعة والمراسم والوسيلة وإشارة السبق من دون ذكر للقدم.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في مطهرية الأرض لباطن القدم. لصحيح الحلبي: «نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر، فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)

ص: 298

فقال: أين نزلتم؟ فقلت: نزلنا في دار فلان، فقال: إن بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً، أو قلنا له: إن بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً. فقال: لا بأس، إن الأرض تطهر بعضها بعضاً. قلت: والسرقين الرطب أطأ عليه؟ فقال: لا يضرك مثله»(1).

ومعتبره المروي في مستطرفات السرائر عنه (عليه السلام): «قلت له: إن طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه، فربما مررت فيه وليس عليّ حذاء، فيلتصق برجلي من نداوته. فقال: أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى، فقال: لا بأس، إن الأرض يطهر بعضها بعضاً. قلت: فأطأ على الروث الرطب. قال: لا بأس، أنا والله ربما وطئت عليه ثم أصلي ولا أغسله»(2).

ومعتبر المعلى بن خنيس: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء أمر عليه حافياً، فقال: أليس وراءه شيء جاف؟ قلت: بلى، قال: لا بأس، إن الأرض يطهر بعضها بعضاً»(3).

هذا وقد يستدل بنصوص أخر منها: موثق عمار عنه (عليه السلام) في جملة مسائله له: «وعن الرجل يتوضأ ويمشي حافياً ورجله رطبة. قال: إن كانت أرضكم مبلطة أجزأكم المشي عليها. وقال: أما نحن فيجوز لنا ذلك، لأن أرضنا مبلطة، يعني مفروشة بالحصى»(4).

بناء على ما هو الظاهر من أن منشأ السؤال عن المشي حافياً تنجس الرجل بملاقاة الأرض، وأن المراد بإجزاء المشي على الأرض المبلطة استمرار المشي عليها بعد تنجسها.

نعم يشكل التقييد فيه بتبليط الأرض، حيث لا قائل باعتبار ذلك في مطهريتها، كما لا مجال لحمل النصوص السابقة عليه، لعدم تبليط أرض الطريق أو ندرة تبليطه، وذلك قد يوجب إجماله.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 4، 9.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 3، 8.

ص: 299

ومنها: صحيح الأحول عنه (عليه السلام): «في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف، ثم يطأ بعده مكاناً نظيفاً. قال: لا بأس إذا كانت خمسة عشر ذراعاً أو نحو ذلك»(1).

وفيه: أنه لا يظهر منه السؤال عن طهارة الرجل بعد تنجسها بوط ء الموضع النجس، ليدل على طهارتها بوط ء المكان النظيف، وينفع فيما نحن فيه، بل السؤال عن تنجس المكان النظيف بملاقاة الرجل المتنجسة سابقاً، فالحكم بعدم البأس إنما يدل على عدم تنجسه لا غير.

ولا يخفى أن عدم تنجسه لا يستلزم طهارة الرجل إلا في فرض كون الموضع النظيف رطباً مسبوقاً بموضع جاف من الأرض قد جفف الرجل وطهرها بمرورها عليه ومن الظاهر صعوبة حمل الصحيح على ذلك، لاحتياجه لعناية خاصة.

ولعل الأقرب حمله على التنبيه لجفاف الرجل بسبب المشي بالمسافة المذكورة، فهي لا تنجس الموضع النظيف وإن بقيت نجسة.

ومنها: صحيح زرارة: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها، أينقض ذلك وضوءه؟ وهل يجب عليه غسلها؟ فقال: لا يغسلها إلا أن يقذرها، ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي»(2).

وفيه: ان ظاهره عدم الفائدة من الغسل إلا رفع الاستقذار، وهو يناسب عدم تنجس الرجل بالعذرة، وإن لزم إزالتها عن الرجل لا غير، كما يناسبه إطلاق المسح حتى يذهب الأثر من دون تقييد بالأرض.

نعم حيث لا مجال للبناء على ذلك فقد يلزم حمله على مجرد عدم تعين الغسل وإن كان مشروعاً للتطهير، مع تقييد المسح بالأرض من أجل مطهريتها، فيناسب المدعى.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 41، 7.

ص: 300

إلا أن الإشكال في كون الحمل المذكور مقتضى الظهور الثانوي الذي يقتضيه الجمع العرفي، ليكون دليلاً في المقام، بل لعله من باب التأويل الذي هو أولى من الطرح، من دون أن يكون الصحيح حجة فيه، لينهض بالاستدلال. غاية الأمر أن يكون مؤيداً، من دون أن يبلغ مرتبة الاستدلال.

ومنها: صحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «قال: جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان ولا يغسله. ويجوز أن يمسح رجليه ولا يغسلهما»(1) بناء على حمل مسح الرجلين فيه على المسح بالأحجار، بقرينة ذكرها في الاستنجاء من الغائط.

ولكنه يشكل أولاً: بأنه حيث لم يفرض فيه بدواً نجاسة باطن القدم فالمنصرف منه إرادة مسح الرجلين مما يصيبهما من الغائط عند التخلي في بعض الحالات، والغالب إصابة أسفل الساق دون باطن القدم.

وثانياً: بأن حمل مسح الرجلين على مسحهما بالأحجار بقرينة ذكرها في الاستنجاء من الغائط قد يتجه لو حمل ذكرها على التقييد. أما بعد البناء على عدم التقييد بها، وأنه يجوز في الاستنجاء المسح بكل قالع للنجاسة فيشكل الحمل المذكور.

وثالثاً: بأن مجرد عدم البناء على مقتضى ظهوره الأولي لا يكفي في حمله على ما نحن فيه بنحو يصلح للاستدلال، نظير ما تقدم في صحيحه الأول. ولاسيما مع امكان حمله على المسح في الوضوء في قبال قول العامة بوجوب غسلهما فيه. فالعمدة في المقام الصحاح الثلاث الأول.

هذا وفي حديث الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الرجل يطأ في العذرة أو البول، أيعيد الوضوء؟ قال (عليه السلام): لا، ولكن يغسل ما أصابه»(2) وظاهره انحصار تطهير باطن القدم بالغسل. لكن لابد من رفع اليد عن الظهور المذكور، وحمله على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 30 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 301

بيان الاكتفاء بالغسل في مقابل الحاجة معه للوضوء، من دون أن يتعين، جمعاً مع ما سبق.

وأما تطهيرها لما يوقي به القدم كالنعل وغيره فقد استدل عليه بأمور:

الأول: إطلاق حديث الحلبي الأول، لعدم التقييد فيه بالحفاء.

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بقرب إتحاده مع حديثه الثاني المصرح فيه بالحفاء، وحكايتهما عن واقعة واحدة، للتقارب بين مضمونيهما، فيكون العمل على الثاني لا غير، لأن نسبته للأول نسبة المبين للمجمل، لا نسبة المتعارضين، لينظر في الترجيح بينهما، ولا نسبة المطلق للمقيد، ليتعين العمل على المطلق بعد عدم منافاة المقيد له، لكونهما مثبتين.

وما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من عدم استبعاد تعدد الواقعة، غير ظاهر بعد ملاحظة متن الحديثين وتقارب مضمونيهما.

نعم من الظاهر أن ذلك لا يقتضي اتحاد الحديثين، بل حكايتهما عن واقعة واحدة، فلو تم ذلك، وكان الثاني منهما هو المطابق للواقع، فإهمال الحلبي في الحديث الأول التقييد بالحفاء مع ابتنائه على العناية مناسب لفهمه إلغاء خصوصيته لصورة الانتعال ولبس الخف. وإن كان في بلوغ ذلك مرتبة الاستدلال إشكال.

الثاني: إطلاق صحيح الأحول، لكن سبق الإشكال في نهوضه بالاستدلال في المقام، ليتمسك بإطلاقه.

الثالث: الموثق عن حفص بن أبي عيسى: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن وطئت على عذرة بخفي، ومسحته حتى لم أرَ فيه شيئاً، ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال: لا بأس»(1).

وربما حاول بعضهم تقريب اعتبار سنده، لأن في طريقه صفوان بن يحيى،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 302

الذي هو من أصحاب الإجماع.

لكنه يشكل بمنع الكبرى، كما ذكرنا ذلك في مباحث الكر من المياه. غاية الأمر أن صفوان لا يروي إلا عن ثقة، وهو لم يرو عن حفص المذكور بلا واسطة، وإنما روى هنا عن عبد الله بن بكير عنه، وذلك لا يشهد بوثاقته.

وأما الدلالة فمن الظاهر أن مجرد جواز الصلاة في الخف لا يستلزم طهارته بعد أن كان مما لا تتم به الصلاة.

وما قد يظهر من الجواهر من أن إطلاق نفي البأس فيه يقتضي الطهارة. كما ترى! إذ هو إنما يتم لو كان موضوع نفي البأس فيه الخف بنفسه، أما حيث كان موضوعه الصلاة في الخف فلا منشأ لاقتضائه الطهارة بعد العفو عن الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه.

هذا ولكن أصرّ (قدس سره) هو وغير واحد على ظهوره - مع قطع النظر عن ذلك - في سوق السؤال والجواب لبيان الطهارة. بل زاد بعض مشايخنا (قدس سره) أن الإمام (عليه السلام) قرر ما ارتكز في ذهن السائل من عدم جواز الصلاة في الخف على تقدير عدم إزالة العين عنه، وذلك لا يتم إلا بلحاظ الطهارة، لعدم اشتراط زوال العين في العفو عما لا تتم به الصلاة.

ولم يتضح الوجه فيما ذكروه بعد أن كان موضوع السؤال هو جواز الصلاة في الخف الذي هو أعم من طهارته. غاية الأمر أن تعرض السائل لإزالة العين قد يظهر في تخيله عدم جواز الصلاة مع بقائها، وعدم ردع الإمام (عليه السلام) عن ذلك قد يشعر بتقريره له فيه، من دون أن يبلغ مرتبة الظهور الحجة، كما هو الحال في سائر موارد التقييد في كلام السائل، وبعد ثبوت جواز الصلاة مطلقاً لابد من البناء على عدم إرادة مقتضى الإشعار المذكور، لا أنه يلزم البناء على إرادته وصرفه للطهارة التي هو غير مسؤول عنها.

ولاسيما مع إطلاق المسح فيه، وعدم تقييده بالأرض، فإن حمله على خصوص المسح بالأرض ليس بأولى من حمله على كون الغرض منه إزالة العين للاستقذار، أو

ص: 303

لتخيل توقف العفو عما لا تتم به الصلاة على زوال عين النجاسة، ولو في مثل العذرة ما له جرم ظاهر.

الرابع: النبويان المتقدمان، بدعوى انجبارهما بعمل الأصحاب. لكنها ممنوعة لعدم ظهور اعتماد الأصحاب عليهما، بل على نصوصهم المثبتة في كتبهم. ومجرد موافقة فتوى الأصحاب للخبر لا توجب انجباره ما لم يظهر منهم الاعتماد عليه.

الخامس: عموم التعليل في الأحاديث الثلاث الأول بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً. وقد وقع الكلام بينهم في مفاد التعليل المذكور. وما قيل أو يمكن أن يقال فيه وجوه:

الأول: أنه إذا تنجس موضع من الأرض طهر بباقيها بسبب المشي عليه والعبور من الطاهر للنجس، ولو لكونه موجباً لانتقال بعض أجزاء الأرض من كل منهما للآخر.

الثاني: أنه حيث كان مسح الموضع النجس من القدم بالأرض يوجب انتقال بعض الأجزاء المتنجسة من الأرض للقدم، فالمراد بالتعليل أن هذه الأجزاء تطهر بالمشي على الأرض الطاهرة بملاقاتها لها واختلاطها بها، ولا يبقى في الرجل شيء نجس.

الثالث: أن المراد به أن الأرض يطهر بعضها البعض الآخر بمعنى أنه يزيل أثر ملاقاته ونجاسة ما تنجس به، نظير قولنا: الماء مطهر للبول والدم لو صح التعبير المذكور.

الرابع: أن بعض الأرض يطهر المتنجس ببعضها. وهو راجع إلى الثالث مصداقاً وإن خالفه مفهوماً.

الخامس: ما عن التوحيد من أن المراد أن بعض الأرض - وهو الطاهر منها - بطهر بعضاً من المتنجسات، وهو أسفل القدم والنعل مثلاً.

السادس: ما عن الوافي من حمله على بيان أمر خارجي، وهو أن النجاسة التي تقع على موضع من الأرض تستهلك وتضمحل في مواضع أخر منها، لتفتت أجزائها

ص: 304

وانتشارها بسبب المشي على الأرض.

والإنصاف أن المعنى الأول هو الظاهر من التعليل. ولو فرض إرادته كان التعليل به راجعاً إلى بيان ارتفاع المانع بعد المفروغية عن مطهرية الأرض ذاتاً للمتنجس الخارج عنها، فهو وارد لبيان أنه بعد الفراغ عن مطهرية الأرض ذاتاً للقدم، لا مجال لتوهم مانعية نجاستها من مطهريتها له، لأن ما تنجس منها يطهر بباقيها.

ولو تم ذلك لم ينهض عموم التعليل بالتعدي عن القدم، لأنه ليس بصدد إثبات مطهريتها للمتنجسات، بل بصدد بيان ارتفاع المانع منها بعد الفراغ عن ثبوتها ذاتاً من دون تحديد لمورد الثبوت، بل لابد من الرجوع فيه لدليل آخر.

لكن الظاهر عدم بنائهم على مطهرية بعض الأرض لبعضها بالمعنى المذكور، فلابد من حمل التعليل على معنى آخر. والمعاني الأخرى المتقدمة غير مفهومة منه، ولا مناسبة لتركيبه الكلامي عرفاً. وذلك موجب لإجماله، وعدم نهوضه بالاستدلال، بل يرد علمه لأهله.

ولاسيما مع وروده فيما لا يناسب شيئاً منها، كما في صحيح محمد بن مسلم: «كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) إذ مرّ على عذرة يابسة، فأصابت ثوبه. فقلت: جعلت فداك قد وطئت على عذرة فأصابت ثوبك. فقال: أليس هي يابسة؟ فقلت: بلى؟ قال: لا بأس، إن الأرض يطهر بعضها بعضاً»(1).

على أن المعنى الثاني راجع إلى مطهرية الأرض للأجزاء المتنجسة منها العالقة بالرجل، ولا نظر فيه لعموم المطهرية لبقية المتنجسات، ليتمسك بعمومه. والمعنى الخامس راجع إلى قضية جزئية لا عموم فيها. والمعنى السادس لا نظر فيه للتطهير الشرعي.

فلم يبق إلا المعنى الثالث والرابع، فإنهما راجعان إلى عموم مطهرية الأرض

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 305

للمتنجس بالنجاسة الحاصلة منها، فلو تم حمل التعليل على أحدهما نفع في المقام.

إلا أنه حيث يعلم بعدم عموم التعليل لكل متنجس بالأرض، وإنما الكلام في العموم لخصوص يتوقى به القدم لا غير، تعين إجمال التعليل وعدم نهوضه بالاستدلال على المدعى، كما ذكر سيدنا المصنف (قدس سره). وما يظهر من شيخنا

الأستاذ (قدس سره) من أن ذلك لا يقتضى سقوط العموم، بل البناء عليه في غير مورد الإجماع على تخصيصه. كما ترى للزوم تخصيص الأكثر.

هذا تمام ما استدل به على عموم مطهرية الأرض لما يوقى به القدم، وقد ظهر عدم نهوض شيء منه بذلك.

نعم من القريب جداً البناء على العموم له، لإلغاء خصوصية القدم في الحكم. لما هو المرتكز من أن المطهرية في المقام تعبدية تخفيفية بلحاظ كثرة ابتلاء الماشي بالنجاسة، خصوصاً في الصدر الأول يوم كان قضاء الحاجة في الطرقات مألوفاً، ومن الظاهر أن ذلك يناسب عموم المطهرية لما يتوقى به القدم، لشيوع الابتلاء به، بل هو أشيع من القدم.

بل المرتكز أنه أولى بالاكتفاء بالطهارة المذكورة من القدم. لما هو المعلوم من أن البدن أولى بالطهارة الكاملة، ومن ثم كان المستفاد عرفاً من التنبيه على الحفاء في بعض النصوص أنه تنبيه على الفرد الا خفى الأولى بعدم العفو. ولعله لذا توقف في القدم من توقف، كما سبق.

وكأنه إلى هذا يرجع ما عن المعالم، فإنه بعد أن ذهب إلى أن عمدة النصوص في المقام هو صحيح زرارة الأول المتقدم، قال عن بقية النصوص: «وهذه الأخبار وإن لم تكن نقية الأسانيد فإنها معتضدة بالحديث الأول الصحيح. وكونه مختصاً بالقدم غير ضائر، فإن ثبوت الحكم فيه يقتضي ثبوته في غيره بطريق أولى. ألا ترى أن الخف والنعل لا توقف لأحد من الأصحاب في حكمها على ما يظهر، وحصل في القدم نوع توقف».

ص: 306

(307) (307)ويؤيد ما ذكرنا ما سبق في ذيل الكلام في حديثي الحلبي من ظهور حال الحلبي في فهم عدم الخصوصية للقدم لو تم حكاية الحديثين عن واقعة واحدة.

مضافاً إلى ظهور شهرة القول بالطهارة شهرة تكاد تلحق بالإجماع، مع شيوع الابتلاء بالمسألة، بنحو يبعد جداً خطأ المشهور فيها. ولاسيما مع وجود أقوال للعامة فيه، فإن ذلك كله مؤيد لما ذكرنا.

بقي شيء: وهو أن المعروف بين الأصحاب كون المطهر هو الأرض، بل سبق من بعضهم التعبير بالتراب. لكن عن ابن الجنيد أنه قال: «وإذا وطئ الإنسان برجله أو ما هو وقاء لها نجاسة... فوطأ بعدها نحواً من خمسة عشر ذراعاً أرضاً طاهرة يابسة طهر ما ماس النجاسة... ولو مسحها حتى يذهب عين النجاسة وأثرها بغير ماء، أجزأ إذا كان ما مسحها به طاهراً».

ومقتضى إطلاق ذيل كلامه العموم لغير الأرض من الأجسام الطاهرة، وعن الذخيرة أنه لا يخلو عن قوة، وجزم به في المستند، وفي نهاية الأحكام الإشكال في المسألة.

وكأن وجه العموم لغير الأرض إطلاق المسح في صحيحي زرارة وحديث حفص المتقدمين، وإطلاق المكان النظيف في صحيح الأحول المتقدم. وما في الحدائق من انصراف المسح للمسح بالأرض غير ظاهر. نعم سبق الإشكال في كون النصوص المذكورة من أدلة المسألة.

مضافاً إلى أن المراد بذلك إن كان هو التفريق بين المشي والمسح، فيراد بالمشي المشي على خصوص الأرض، وبالمسح المسح مطلقاً ولو بغيرها، فهو أمر غير عرفي يصعب تنزيل الأدلة عليه جداً بعد مشاركة المشي للمسح في إزالة العين وانتقالها للممسوس.

وإن كان المراد هو تعميم المشي للمشي على غير الأرض بقرينة إطلاق المسح،

ص: 307

كالنعل والخف والحذاء وغيره (1)

فالظاهر أن العكس هو الأولى عرفاً، لأن ظهور أدلة المشي في خصوصية الأرض أقوى من إطلاق أدلة المسح.

ولاسيما بلحاظ اشتمالها على أن الأرض يطهر بعضها بعضاً، فإنها كالصريحة في خصوصية الأرض في التطهير، لا بلحاظ هيئة التعليل، ليتجه ما ذكره سيدنا

المصنف (قدس سره) من أن التعليل إذا لم يكن مقروناً باللام يضعف ظهوره في الانحصار، والانتفاء عند الانتفاء، بل لأن عنوان الأرض مناسب للمطهرية بمقتضى الارتكازات المتشرعية، فإلغاء خصوصيته صعب جداً. ومن ثم يتعين الاقتصار على الأرض.

(1) كما هو معقد الإجماع المدعى في جامع المقاصد، وبه صرح جماعة. واقتصر في المقنعة والمراسم والشرايع والتذكرة والمنتهى ونهاية الأحكام على الخف والنعل، وفي إشارة السبق والنافع والإرشاد والقواعد والدروس على النعل، وفي الوسيلة على الخف.

ولا يبعد إرادة الكل التعميم، إلغاء لخصوصية ما ذكروه من العناوين. ولاسيما مع التعليل في بعضها - كالمنتهى - بأن الخف والنعل لا ينفكان عن ملاقاة النجاسة، فلو اقتصرنا في إزالتها عنهما على الماء كان حرجاً، والتراب من طبعه إحالة ما يلاقيه، فإذا زالت العين زالت النجاسة.

بل قد يظهر من بعضهم عموم النعل للكل، وإن كان في حيز المنع. إلا أن يرجع إلى ما في الذكرى، حيث قال: «وحكم الصنادل حكم النعل، لأنها مما ينتعل».

وكيف كان فالتعميم هو المناسب للوجه المتقدم منّا دليلاً على مطهرية الأرض لما يوقى به القدم. وكذ لو كان الدليل عليه إطلاق صحيحي زرارة والأحول المتقدمين، أو عموم التعليل بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً. وأما لو كان الدليل عليه حديث حفص بن أبي عيسى أو النبويين فلإلغاء خصوصية الخف والنعل فيها عرفاً.

ص: 308

(309) (309) بالمسح بها أو المشي عليها (1)، بشرط زوال عين النجاسة بهما (2) ولو زالت

(1) كما تقدم عن ابن الجنيد. وهو مقتضى تصريح جماعة وظاهر آخرين.

أما المشي فهو المصرح به في حديث الحلبي الثاني وموثق عمار وصحيح الأحول لو كانا من أدلة المسألة. كما أنه المنصرف أو المتيقن من حديث الحلبي الأول ومعتبر المعلى.

وأما المسح فهو المصرح به في صحيحي زرارة وحديث حفص، بناء على أنها من أدلة المسألة. لكن سبق الإشكال في ذلك. ومن ثم يشكل الاجتزاء به.

ودعوى: استفادته من أدلة المشي، إما بإلغاء خصوصية المشي، لأن المستفاد منها أن مطهرية الأرض بلحاظ إزالتها لعين النجاسة وأثرها الظاهر، وإما بلحاظ عموم التعليل بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً.

ممنوعة لأن مطهرية الأرض ليست عرفية، بل تعبدية، فيقتصر فيها على مورد الأدلة. والتعليل قد عرفت الإشكال فيه. مع أنه لو دل على عموم مطهرية الأرض فلا ينهض ببيان كيفية حصول التطهير بها.

(2) لأنه المنصرف من أدلة التطهير. ولاسيما أن المستفاد منها مطهرية الأرض للقدم ولما يوقى به، لا للنجاسة التي يحملانها، و مع بقاء عين النجاسة كيف يطهر القدم أو ما يوقى به مع ما هو المرتكز من أن ملاقاة النجاسة موجبة للتنجس حدوثاً وبقاءً؟!. أما لو كان للنجاسة جرم مانع من مماسة القدم وما يوقى به للأرض فالأمر أظهر. هذا مضافاً إلى صحيح زرارة الأول لو كان من أدلة المسألة.

ومما سبق يظهر العموم للمتنجس لو كان القدم أو ما يوقى به قد تنجس به لا بعين النجاسة.

هذا قد سبق من ابن الجنيد اعتبار كون المشي خمسة عشر ذراعاً. وكأنه لصحيح الأحول. لكن سبق الإشكال في الاستدلال به في المقام. ويزيد الإشكال بناء على

ص: 309

عين النجاسة قبل ذلك كفى مسمى المسح بها أو المشي عليها (1). ويشترط على الأحوط وجوباً كون النجاسة حاصلة بالمشي على الأرض (2).

عموم المطهرية للمسح الذي يكون المدار فيه على زوال عين النجاسة. ومن ثم لا يبعد حمله على بيان المقدار الذي من شأنه أن تزول معه عين النجاسة. فلاحظ.

(1) أما كفاية المشي فظاهر لإطلاق أدلته، الشامل لصورة عدم علوق عين النجاسة. وأما المسح لو قيل بكفايته في مطهرية الأرض فلا يخلو عن إشكال لو كان دليله صحيح زرارة الأول، لاختصاصه بإزالة عين النجاسة بالمسح، ولا يشمل صورة زوالها قبله. نعم لو كان دليله صحيحه الثاني فلا يبعد ثبوت الإطلاق له. وأشكل من ذلك ما في الروضة من الاكتفاء بالإمساس حينئذ. حيث لا دليل عليه قطعاً.

(2) لأنه مورد النصوص المتقدمة. ودعوى: إلغاء خصوصية مورد النصوص عرفاً، لارتكاز عدم خصوصية المشي في المقام، كما قد يرجع إليه ما عن الفقيه

الهمداني (قدس سره). مدفوعة بأن ذلك يتم لو كانت مطهرية الأرض عرفية، أما حيث كانت تعبدية تخفيفية، بلحاظ كثرة الابتلاء بالنجاسة - كما سبق - فاللازم الاقتصار على مورد النصوص الذي هو الأكثر شيوعاً.

ومثلها الاستدلال على العموم بإطلاق صحيح زرارة الثاني. لاندفاعه بما سبق من عدم نهوض الصحيح المذكور بالاستدلال في المقام. مضافاً إلى أنه لا يمكن البناء على إطلاقه من حيثية التنجيس بعد شموله لنجاسة غير أسفل القدم وما يوقى به، فلابد من البناء على إجماله، والاقتصار فيه على المتيقن، وهو التنجس بالأرض.

هذا ومقتضى مورد النصوص المتقدمة ما إذا كان التنجيس بسبب ملاقاة القدم أو ما وقي به للنجاسة حال المشي، ولا يشمل ما إذا كان التنجيس بسبب آخر، كما إذا جرحت الرجل حال المشي، فتنجست بالدم الخارج منها. وحينئذ لا مجال للبناء على مطهرية الأرض حينئذ لعين ما سبق.

ص: 310

(311) (مسألة 27): المراد من الأرض مطلق ما يسمى أرضاً (1) من حجر أو تراب أو رمل ولا يبعد عموم الحكم للآجر والنورة (2). والأقوى اعتبار

(1) عملاً بإطلاق النصوص المتقدمة. ولا يجزي غير الأرض مما تفرش به الأرض، كالزفت الذي تعارف في عصورنا. لظهور قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي الثاني: «أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة» في لزوم المشي على الأرض، وعدم الاجتزاء بغيرها. بل هو مقتضى التعليل المتقدم في الصحاح الثلاث، لظهوره في خصوصية الأرض في المطهرية، كما سبق.

ودعوى: أنه يصدق عليه الأرض عرفاً بعد فرشها به وتبعيته لها. مدفوعة بأن صدق الأرض عليه تسامحي لا يكفي في شمول الإطلاق له.

(2) قبل الإحراق بلا إشكال. وبعد الإحراق على الظاهر، لأن الظاهر عدم خروجها عرفاً بالإحراق عن عنوان الأرض، كما تقدم في مبحث التيمم.

ويناسبه حديث السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): «أنه سئل عن التيمم بالجص، فقال: نعم، فقيل: بالنورة؟ فقال: نعم، فقيل: بالرماد؟ فقال: لا، إنه ليس يخرج من الأرض، إنما يخرج من الشجر»(1) وقد تقدم اعتبار سنده وقريب منه مسند الراوندي(2). لظهورهما في عموم الأرض للجص والنورة المطبوخين. وقد تقدم في التيمم ما ينفع في المقام.

هذا وقد يستدل أيضاً باستصحاب مطهريتهما أو كونهما أرضاً. لكن الأول من الاستصحاب التعليقي، لرجوعه إلى استصحاب ترتب الطهارة على تقدير المشي أو المسح، والثاني من استصحاب المفهوم المردد، وهما لا يجريان على التحقيق.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 6 من أبواب أحكام التيمم حديث: 2.

ص: 311

طهارتها (1).

(1) كما في الذكرى وجامع المقاصد والمسالك والحدائق، ونفي عنه البأس في المدارك وتقدم في المحكي من كلام ابن الجنيد، وفي الحدائق أنه ظاهر فحاوى جملة من عباير الأصحاب. خلافاً لظاهر الروضة والرياض من القول بالطهارة، وحكاه في الحدائق عن جماعة من الأصحاب، وفي الروضة أنه مقتضى إطلاق النص والفتوى.

وقد استدل لاعتبار الطهارة بوجوه:

الأول: النبوي المشهور: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(1). فقد استدل به في الحدائق بدعوى: أن الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره.

وفيه: أن الطهور هو المطهر، كما ذكرناه في أول كتاب الطهارة، واعتبار طهارته مبني على شرطية الطهارة في الطهور التي هي محل الكلام. على أنه لو سلم فالنبوي ونحوه إنما يدل على أن الأرض طاهرة مطهرة، لا على اعتبار طهارتها في مطهريتها، كما تقدم نظيره في مسألة اعتبار طهارة ما يتيمم به من مبحث التيمم.

الثاني: صحيح الأحول فقد استدل به بعض مشايخنا (قدس سره) بدعوى: أن التقييد بالنظيف وإن أخذ في كلام السائل، إلا أن قول الإمام (عليه السلام): «لا بأس» راجع إلى نفي البأس عما ذكره السائل في كلامه وتقريره للقيود التي أخذها.

مضافاً إلى أن تقييده (عليه السلام) الجواب بخمسة عشر ذراعاً راجع إلى التقييد فيما إذا أخذه السائل في كلامه وهو المكان النظيف، فكأنه (عليه السلام) قال: لا بأس إذا كان المكان النظيف خمسة عشر ذراعاً. والتقييد بالخمسة عشر ذراعاً وإن كان محمولاً على الغالب من توقف زوال عين النجاسة على ذلك، فيدل على لزوم كون المكان النظيف بمسافة تزول بالمشي عليها عين النجاسة، وعلى كل حال يدل على المدعى من لزوم المشي في المكان النظيف.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم.

ص: 312

وفيه - بعد الغض عما سبق من عدم كونه الصحيح من أدلة المسألة -: أن نفي البأس عن مورد القيود التي ذكرها السائل لا يقتضي إناطة نفي البأس بها، بحيث يثبت البأس مع انتفائها إلا بناء على مفهوم اللقب أو ما دونه.

كما أن التقييد بخمسة عشر ذراعاً إنما يدل على لزوم المسافة المعينة، من دون نظر لموضوعها. وكون موضوعها المكان النظيف تبعاً لفرض السائل لا يدل على التقييد به بنظر المجيب. ولاسيما بعد البناء على أن ذكر المسافة ليس للتحديد بها، بل لغلبة زوال عين النجاسة بها. لظهور عدم توقف زوال عين النجاسة على طهارة موضع المشي.

الثالث: أنه مقتضى الأصل، لعدم وضوح شمول الإطلاق للأرض النجسة. وفيه أنه لا مجال للتوقف في الإطلاق. خصوصاً مع قوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي الثاني: «أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟»، وقوله (عليه السلام) في صحيح المعلى: «أليس وراءه شيء جاف؟».

فالعمدة في المقام المناسبات الارتكازية القاضية بأنه لابد من طهارة المطهر، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

ودعوى: أن ذلك إنما يتم لو كانت مطهرية الأرض ارتكازية عرفية، أما حيث كانت تعبدية شرعية فاللازم الجمود فيه على مفاد الأدلة، ولا مجال لتحكيم الارتكازيات فيها.

مدفوعة بأن الارتكاز المذكور يوجب انصراف الإطلاق للطاهر لابتناء الطهورية على إفاضة الطهور من طهارته على النجس ما يغلب نجاسته ويزيلها، فلا يبقى للمطلق ظهور في الإطلاق، بل قد يكون ظاهراً في التقييد بالطهارة.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): «الرجوع إلى العرف في قاعدة الفاقد لا يعطي ليس من باب الرجوع إليهم في كيفية التطهير، لأجل الإطلاق المقامي، بل من جهة أن القاعدة المذكورة توجب دلالة الكلام على اعتبار الطهارة في المطهر، كما توجب دلالته على اعتبار نجاسة المنجس، ولذلك استدل الفقهاء على نجاسة جملة من الأعيان

ص: 313

(314) والأحوط وجوباً اعتبار جفافها (1).

النجسة، بما دل على نجاسة ملاقيها، فلولا أن المتنجس يجب أن يكون نجساً لما كان وجه لذلك الاستدلال. والفرق بينه وبين ما نحن فيه غير ظاهر...».

اللهم إلا أن يقال: إن الاقتصار في حديث الحلبي الثاني ومعتبر المعلى على التقييد بالجفاف من دون تنبيه للنجاسة، مع تعرض الطريق لها غالباً، خصوصاً مع التنبيه في الأول إلى أنه يبال فيه، يوجب قوة ظهورهما في الإطلاق من حيثية الطهارة، وكذا الاقتصار في صحيح الحلبي الأول على وصف الطريق بالقذر من دون تنبيه إلى المرور بموضع طاهر منه. ويصعب مع ذلك رفع اليد عن الإطلاق المذكور من أجل الارتكاز المتقدم، خصوصاً مع ما هو المعلوم من كون الطهارة في المقام تخفيفية لا عرفية.

نعم لو تم الوجه الأول الذي ذكرناه في معنى التعليل بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً كان الغالب طهارة الطريق، وحينئذ لا يقوى الإطلاق على رفع اليد عن الوجه الارتكازي المذكور. لكن سبق عدم تماميته. فالأمر لا يخلو عن إشكال.

(1) فقد ذهب لاعتبار الجفاف في جامع المقاصد والمسالك والحدائق، ونفى عنه البأس في المدارك وتقدم في المحكي من كلام ابن الجنيد. وخلافاً لنهاية الأحكام والروضة والرياض وعن الذخيرة.

ويدل على الاشتراط ما تقدم من حديث الحلبي الثاني ومعتبر المعلى. وما في الرياض من الإشكال في سندهما في غير محله، إذ ليس في سند الأول إلا توهم الإرسال، لروايته في مستطرفات السرائر عن نوادر البزنطي مع جهالة طريق ابن إدريس إلى نوادر البزنطي غير قادح بعد قرب اشتهار كتاب النوادر في زمن ابن إدريس بحيث يكون نقله عنه عن حس أو حدس قريب من الحس كما هو الأصل في الحكاية والنقل. والمفضل قد ثبت وثاقته. وكذا المعلى بن خنيس لتظافر الروايات

ص: 314

(315) (مسألة 28): في إلحاق ظاهر القدم (1) وعيني الركبتين

بمدحه، معتضداً بعدّ الشيخ إياه في كتاب الغيبة من السفراء الممدوحين، وبكونه من رجال كامل الزيارات وتفسير القمي، بنحو يلزم لأجله رفع اليد عن تضعيف النجاشي وابن الغضائري، حيث قد يكون منشؤه توهم نسبة الغلوّ له.

ومثله ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من احتمال كون المراد بالأرض اليابسة في حديث الحلبي الثاني ما يقابل الندية بالبول، وبالشيء الجاف في معتبر المعلى ما يقابل المبتل بما يسيل من الخنزير. إذ فيه: أن الاحتمال المذكور مخالف للظاهر جداً، فلا يمنع من الاستدلال بالحديثين.

هذا وأما ما في مفتاح الكرامة من الإشكال في ذلك بأن لازمه انتفاء فائدة التطهير، ولزوم الحرج والمشقة العظيمة في أيام المطر.

فهو كما ترى! لوضوح فائدة التطهير مع الجفاف. كما أن الحرج مع المطر ليس بحدّ يصلح لتعميم المطهرية لحال عدم الجفاف.

ثم إنه حيث تضمن معتبر المعلى اعتبار الجفاف، وحديث الحلبي الثاني اعتبار اليبوسة التي هي أخص من الجفاف، تعين اعتبار اليبوسة وعدم الاكتفاء بالجفاف مع بقاء الرطوبة غير المسرية.

(1) كما قواه في العروة الوثقى، وتبعه جملة من شراحها ومحشيها، وقد استدل عليها تارة: بإطلاق النصوص المتضمنة لعنوان الوط ء والمشي ونحوهما. وأخرى: بعموم التعليل بأن الأرض يطهر بعضها بعضاً.

ويظهر اندفاع الأول مما سبق من عدم نهوض ما تضمن عنوان المشي وغيره بالاستدلال إلا حديث الحلبي الثاني، وهو كالحديثين الآخرين المستدل بهما في المقام قد ورد في مشي السائل، وقضية خارجية لا إطلاق له يشمل مشي غيره إذا كان خارجاً عن الوضع الخارجي.

ص: 315

واليدين (1) إذا كان المشي عليها. وكذلك ما توقى به (2) - كالنعل، وأسفل خشبة الأقطع، وحواشي القدم القريبة من الباطن (3) - إشكال.

كما يظهر اندفاع الثاني مما سبق من أن التعليل إنما يكون له عموم إذا حمل على المعنى الثالث أو الرابع، وهما غير ظاهرين منه، على أنه لو كان ظاهراً في أحدهما فحيث يعلم بعدم عموم التعليل، فلابد من إجماله وعدم نهوضه بالاستدلال.

فالعمدة في المقام فهم عدم الخصوصية للمشي على باطن القدم بلحاظ ما ذكرناه في وجه عموم التطهير لما يوقى به القدم.

نعم المتيقن من ذلك ما إذا كان المشي على ظاهر القدم لآفة لازمة، كما اقتصر عليه في العروة الوثقى، ولا يشمل ما إذا كان نادراً اعتباطاً، أو لعارض موقت.

(1) فقد استشكل فيه في العروة وأقره جملة من محشيها، وسبقه إليه في ظاهر محكي الدلائل. وظاهر شيخنا الأستاذ (قدس سره) الميل لعموم المطهرية لذلك، عملاً بعموم التعليل، بناء على ما سبق منه (قدس سره) من الاقتصار في الخروج عنه على المتيقن. وقد سبق ضعفه. فراجع.

وأما ما سبق من فهم عدم الخصوصية، فهو وإن كان محتملاً. إلا أن في بلوغه حدّ الاستدلال إشكال. نعم هو قريب فيما إذا كان مقطوع الرجلين يمشي منتصباً على موضع القطع منهما. فلاحظ.

(2) مما تقدم يظهر اشتراك الموقى والواقي في وجه المطهرية، وفي وجه

الإشكال فيها.

(3) إن كان المراد بذلك ما إذا كان المشي عليها، فيجرى فيه الكلام المتقدم في المشي على ظاهر القدم، بل لعله عموم المطهرية هنا أظهر.

وإن كان المراد بذلك ما إذا تنجست تبعاً لباطن القدم عند المشي عليه - كما لعله الظاهر - فالظاهر البناء على المطهرية بالمقدار الذي يقتضيه طبيعة المشي على الموضع

ص: 316

(317) (317) (317) (مسألة 29): إذا شك في طهارة الأرض يبنى على طهارتها، فتكون مطهرة حينئذٍ (1). إلا إذا كانت الحالة السابقة نجاستها.

(مسألة 30): إذا كان في الظلمة ولا يدري أن ما تحت قدمه أرض أو شيء آخر من فرش ونحوه لا يكفي المشي عليه في حصول الطهارة (2) بل لابد من العلم بكونه أرضاً.

(الثالث): الشمس، فإنها تطهر (3) الأرض

القذر. لفهمه من النصوص السابقة تبعاً، لشيوع الابتلاء به. بل تقدم قوله في صحيح زرارة: «فساخت رجله فيها». وهو يعمّ ما زاد على ذلك. إلا أنه تقدم الإشكال في الاستدلال به.

(1) لأصالة طهارة الأرض الحاكم على استصحاب نجاسة الرجل.

(2) يعني: ظاهراً. لعدم المحرز لكون ما يمشي عليه أرضاً، فلا مخرج عن استصحاب نجاسة الرجل.

(3) كما هو المعروف بين الأصحاب الذي حكى شهرتهم عليه غير واحد وعن الوحيد أنها شهرة تكاد تبلغ الإجماع، بل في الخلاف والسرائر وعن ظاهر كشف الحق الإجماع عليه.

وعن الراوندي جواز السجود عليها من دون أن تطهر وبه قال في الوسيلة والبهائي في الحبل المتين، وحكاه عن والده، وما إليه في المفاتيح، واستجوده في المعتبر، وإن كان الظاهر من بقية كلامه الميل للطهارة، بل صرح بها في مسألة كيفية تطهير الأرض. وفي المدارك. وعن ظاهر ابن الجنيد التوقف في الطهارة وإن جاز السجود مع الجفاف.

وكيف كان فيدل على الطهارة صحيح زرارة: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن

ص: 317

البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلي فيه فقال: إذا جففته الشمس فصل عليه، فهو طاهر»(1). وما في المدارك من احتمال حمل الطاهر فيه على الطهارة بالمعنى اللغوي، موهون جداً.

ورواية أبي بكر الحضرمي عنه (عليه السلام): «يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر»(2) ، ونحوها أو عينها روايته الأخرى(3) ، بعد حملهما على الإشراق المجفف، جمعاً مع صحيح زرارة.

وقد يستدل أيضاً بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنه قد يبس الموضع القذر. قال: لا يصلى عليه، وأعلم موضعه حتى تغسله. وعن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال: إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس، ثم يبس الموضع، فالصلاة على الموضع جائزة، وإن أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطباً فلا يجوز الصلاة حتى ييبس. وإن كانت رجلك رطبة وجبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع حتى ييبس، وإن كان غير الشمس أصابه حتى ييبس، فإنه لا يجوز ذلك»(4).

بدعوى: أن المراد بقوله (عليه السلام): «فالصلاة على الموضع جائزة» بيان طهارة الموضع لأمور:

الأول: لزوم مطابقة السؤال للجواب وفيه: أن مطابقة الجواب للسؤال لا ينهض قرينة على حمل بيان جواز الصلاة على الكناية عن الطهارة بعد اختلاف التعبير بينهما حيث قد يناسب اختلاف المراد بهما، إذ لو كان المراد بيان الطهارة لكان الأنسب أن يقول: «نعم إذا جففته» فإنه أخصر وأفيد، فالعدول عن ذلك للعبارة الطويلة التي تضمنها الجواب مناسب لاختلاف المراد جداً.

********

(1و2) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5.

(3و4) ، وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 6، 4.

ص: 318

الثاني: الإجماع على اعتبار الطهارة في مسجد الجبهة. وفيه: أنه لا معنى لدعوى الإجماع المذكور مع دعوى الخصم جواز السجود على الموضع الذي تجففه الشمس وإن بقي نجساً.

الثالث: عدم الأمر بإعلام الموضع وغسله كما سبق في صورة يبس الموضع بغير الشمس، حيث يناسب ذلك طهارة الموضع. وفيه: أن إعلام الموضع وغسله إذا كان نجساً غير واجب لنفسه، والأمر به في صورة اليبس بغير الشمس قد يكون من أجل عدم جواز الصلاة عليه الذي تضمنته الفقرة الأولى، فلا حاجة له مع الجفاف بالشمس بعد أن تضمنت الفقرة الثانية جواز الصلاة عليه.

نعم لو كان الإعلام والغسل من أجل تجنب النجاسة بملاقاته برطوبة لم ترتفع الحاجة إليه مع جواز الصلاة على الموضع إلا إذا كان جواز الصلاة ملازماً للطهارة، وحينئذ يكون عدم التنبيه عليه مع التجفيف بالشمس مشعراً بالطهارة. لكن لا قرينة على ذلك.

على أن من القريب كون الفقرة الأولى حديثاً آخر في مجلس آخر، لأن ذكر (عن) يناسب تعدد السؤال، كما اشرنا إليه غير مرة. ويناسبه الموثق نفسه، حيث تضمن مسائل متباينة لا يفصل بينها إلا (عن). وحينئذ لا تصلح إحدى الفقرتين للقرينية على الثانية.

الرابع: قوله (عليه السلام) في ذيل الموثق: «وإن كان رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك حتى ييبس» فإن جواز الصلاة إذا يبس الموضع بالشمس مع رطوبة البدن الذي يصيبه ملازم لطهارة الموضع إذ لو كان نجساً لتنجس به البدن وبطلت الصلاة.

لكنه موقوف على كون فاعل (ييبس) ضميراً عائداً للموضع الذي جففته الشمس من الأرض أما إذا كان عائداً للعضو الرطب من البدن فلا ينفع في المقام. والأول وإن كان هو المناسب لكون الموضع هو الأقرب ولياء المضارعة، إلا أن الثاني

ص: 319

هو الأنسب بكون الشرط الملحوظ بالأصل هو رطوبة الجبهة ونحوها. ومن ثم يصعب تعين الوجه الأول، ليتم الاستشهاد بالفقرة المذكورة على المدعى. فتأمل.

فالعمدة في وجه دلالة ما تضمنه الموثق من الترخيص في الصلاة على الموضع النجس على الطهارة هو ما دلّ على شرطية طهارة مسجد الجبهة من النصوص، ومنها صحيح زرارة السابق، وغيره مما تقدم التعرض له في مسألة وجوب طهارة مسجد الجبهة من فصل أحكام النجاسة. ولا يضر معه ما تقدم من عدم تمامية الإجماع في المقام.

هذا وقد يستشكل في الاستدلال به بلحاظ ما في الحبل المتين وعن الوافي من أن الموجود في النسخ الموثوق بها بدل قوله في ذيل الموثق: «وإن كان غير الشمس أصابه» قوله: «وإن كان عين الشمس أصابه» وعليه يتعين كون (إن) وصلية، وكون فاعل (ييبس) التي قبلها ضمير يعود للرجل وغيرها من أجزاء البدن، وكون فاعل (ييبس) التي بعدها ضمير يعود للموضع من الأرض، وكون «فإنه لا يجوز ذلك» تأكيداً لما قبله لا جواباً للشرط. وحينئذ يكون صريحاً في عدم طهارة الموضع بتجفيف الشمس له، حيث لا تجوز الصلاة عليه مع إصابة بعض البدن له برطوبة.

ويندفع بما ذكره غير واحد من استبعاد صحة النسخة المذكورة، لعدم مألوفية التعبير بعين الشمس بعد أن كانت الإصابة دائماً بشعاعها لا غير، وعدم مناسبته لتذكير الضمير في (أصابه)، ولاستلزامه ركاكة التعبير بوجه ظاهر. ولاسيما مع استدلال الشيخ - الذي هو الراوي له - به على مطهرية الشمس، حيث لا يناسب النسخة المذكورة جداً.

لكن الإنصاف أن في الاكتفاء بذلك في إثبات صحة النسخة الأولى إشكال بعد اختلاف نسخ التهذيبين، ففي الطبعة الحديثة من الاستبصار ونسخة الأصل من الطبعة القديمة للتهذيب في مبحث المطهرات (عين)، وفي الطبعة القديمة للاستبصار (غير)، وهو المثبت في نسخة الهامش من الطبعة القديمة للتهذيب والوسائل الحديثة.

ص: 320

نعم في مبحث مكان المصلي من التهذيب حذفت الجملة بتمامها، حيث وردت العبارة: «وإن كانت رجلك رطبة، أو جبهتك رطبة، أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر، فلا تصل على ذلك الموضع حتى ييبس فإنه لا يجوز ذلك».

وهو لو تم لا ينافي الصدر، حيث يتعين حمل الصدر على صورة الجفاف بالشمس، وحمل الذيل على صورة عدم الجفاف بالشمس، بل الجفاف بعد ذهابها.

لكن لا طريق لإثبات صحة النسخة المذكورة بعد هذا الاضطراب في نقل الحديث واختلاف نسخه. على أنه بعد أن تضمن ذيل الحديث جواز الصلاة على الموضع مع الجفاف بغير الشمس يتعين حمله على الصلاة في المكان دون سجود عليه، وحينئذ يصعب حمل الفقرة المستدل بها على صورة السجود على المكان مع أنهما في سياق واحد.

ودعوى: أن ذلك لا يناسب ما تضمنه الصدر من النهي عن الصلاة على المكان مع جفافه من دون أن تصيبه الشمس. مدفوعة بما سبق من قرب تعدد السؤال، فالاختلاف بينهما نظير الاختلاف بين روايتين، لا نظير تدافع فقرات الرواية الواحدة.

على أنه قد يحمل الصدر على الكراهة في فرض عدم السجود على الموضع، ويكون لإصابة الشمس ولو من دون تجفيف دخل في ارتفاعها. وكيف كان فيشكل الاستدلال بالموثق على المدعى بملاحظة ما سبق من السياق المذكور واختلاف النسخ.

ثم إنه قد يستدل أيضاً بصحيح زرارة وحديد: «قلنا لأبي عبد الله (عليه السلام): السطح يصيبه البول أو يبال عليه ويصلى في ذلك المكان؟ فقال: إن كان تصيبه الشمس والريح وكان جافاً فلا بأس، إلا أن يكون يتخذ مبالاً»(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 321

لكنه موقوف على حمله على الجفاف بالشمس، وعلى أن ذكر الريح لمجرد غلبة وجودها مع الشمس لا لدخلها في التطهير، وعلى أن المراد بالصلاة في المكان ما يساوق السجود عليه. والكل غير ظاهر، لظهور الحديث في اعتبار الجفاف حين الصلاة، ودخل الريح في التجفيف كالشمس، وأن المسؤول عنه هو الصلاة في المكان، لا الصلاة عليه. فلعل الأولى حمله على بيان عدم كراهة الصلاة في المكان النجس بالبول مع جفافه، إلا أن يتخذ مبالاً، فيكون كالكنيف. وعلى كل حال فهو أجنبي عن المقام. وكفى فيه النصوص الأول.

هذا وقد يستدل للقول بعدم الطهارة - مضافاً للأصل - بصحيح إسماعيل بن بزيع: «سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه، هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال: كيف يطهر من غير ماء؟»(1).

لكن يمكن الجمع بينه وبين النصوص السابقة بحمله على ما إذا جف البول قبل إصابة الشمس، فإن الشمس حينئذ لا تطهره إلا إذا صب الماء عليه، واستند جفافه لها. وهو أولى من حمل صحيح زرارة على الطهارة اللغوية، كما تقدم من المدارك، أو على عدم كفاية تجفيف الشمس للبول، بل لابد من إضافة الماء له لتجففه الشمس معه، وتكون نتيجة ذلك عدم مطهرية الشمس إلا مع إراقة الماء ولو بنحو لا يستقل بالتطهير، بل يكون شرطاً في مطهرية الشمس، لأن صحيح زرارة كالصريح في كفاية تجفيف الشمس للبول وحده.

ولو فرض استحكام التعارض فالترجيح للنصوص الأول، لتعاضدها واعتماد المشهور عليها، وهجرهم لهذا الصحيح. ولاسيما في مثل هذه المسألة الشائعة الابتلاء. وخصوصاً مع موافقته للمشهور بين العامة، حيث لم يذهب للطهارة إلا أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي في القديم فيما حكاه عنهم في الخلاف والتذكرة. نعم ذكر في الخلاف أن المطهر عندهم الجفاف ولو بغير الشمس، فتكون كلتا الطائفتين

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 7.

ص: 322

(323) وكل ما لا ينقل (1) من الأبنية وما اتصل بها من أخشاب وأعتاب وأبواب

مخالفتين لهم. لكن نسبه في المنتهى لأبي يوسف ومحمد، يعني ابن الحسن، مع نسبة عدم الطهارة غلا بالماء لمالك وأحمد وأبي ثور وزفر والشافعي في القول الآخر.

ثم إن صحيح زرارة مختص بالتنجيس بالبول، إلا أنه لا يظهر من الأصحاب الخلاف في العموم لغيره وإن كان قد يوهمه اقتصار بعضهم عليه، بل هو كالصريح من المنتهى.

بل قد ينسب للمبسوط، لاقتصاره فيه على ذكر البول ثم الحكم بعدم مطهريتها مع تنجس الأرض بالخمر، وإن إلحاق الخمر بالبول قياس. لكنه صرح في فصل ما يجوز السجود عليه من المبسوط بالعموم لكل نجاسة مائعة مثل البول وما أشبهه. وقريب منه ما يأتي - عند الكلام في مطهرية الجفاف بغير الشمس - من الخلاف.

ولعل الوجه في العموم فهم عدم الخصوصية للبول. بل قد يكون غيره من النجاسات والمتنجسات التي لا جرم لها أولى بذلك عرفاً.

هذا مضافاً إلى إطلاق حديثي الحضرمي، بناء على نهوضهما بالاستدلال، على ما يأتي الكلام فيه، والى التعميم في موثق عمار بناء على أنه من أدلة المسألة، وإن سبق الإشكال في ذلك.

نعم لا ينبغي الإشكال في قصور الأدلة عما له جرم ظاهر لا يزول بالشمس عرفاً. وبه وجه بعضهم ما سبق من المبسوط في الخمر، ولو لاستفادته ذلك مما سبق في موثق عمار المتقدم في المسألة الثالثة عشرة المتضمن دلك الإناء الذي يصيبه الخمر عند غسله. فلاحظ.

(1) كما هو المشهور مطلقاً أو بين المتأخرين. أما الأرض فهي المتيقن من النصوص والفتاوى، بل هي مذكورة في معاقد الإجماعات المتقدمة.

وأما غيرها فقد اختلفت فيه عباراتهم، حيث اقتصر بعضهم على ذكر الأرض

ص: 323

والحصر والبواري، بل في المعتبر أن فيما عدا ذلك من غير المنقول تردد.

وصرح جماعة بالعموم لكل ما لا ينقل، كما في الشرايع والمنتهى والذكرى وغيرها. ويقتضيه عموم وإطلاق روايتي الحضرمي.

ودعوى: أنه حيث لا يمكن البناء على عمومهما، إذ لا إشكال في عدم مطهريتها لغير الحصر والبواري وما ألحق بها من المنقول، فلابد من البناء على إجمالهما، فلا يمكن الاستدلال بهما في مورد الشك.

مدفوعة بأنه يمكن حملهما بقرينة ذلك على غير المنقول. ولاسيما بلحاظ أنهما لم يتضمنا التعبير برؤية الشمس للشيء، أو إصابتها له، بل إشراقها عليه، المناسب لكونها هي الواردة عليه، دون ما إذا كان هو منقولاً إليها.

وذلك وإن كان يشمل لفظاً المنقول لو أشرقت عليه الشمس من دون أن ينقل إليها، إلا أن العلم بعدم اختلاف حاليه في التطهير بالشمس وعدمه يلزم بحمله على ما ليس من شأنه النقل للشمس لثباته، بل لا يراها إلا إذا أشرقت عليه ووصلت هي إليه.

نعم قد يستشكل في الاستدلال بهما، لأن في طريقهما عثمان بن عبد الله الحضرمي، وهو مجهول لم يوثق. لكن لا يبعد انجبارهما بعمل الأصحاب، لظهور اعتمادهم عليهما في المسألة وفي التعميم المذكور.

مع اعتضادهما في الجملة بإطلاق صحيح زرارة، لأن المكان يعمّ غير الأرض مما تفرش به ويثبت فيها أو عليها، ويتعدى منه لغيره مما لا ينقل بفهم عدم الخصوصية أو بعدم الفصل. وهذا بخلاف ما لو كان الموضوع هو الأرض، فإن التعدي لغيرها يحتاج للدليل، لا مكان خصوصيتها في ذلك، كخصوصيتها في المطهرية من الحدث في التيمم، ومن الخبث للقدم وما يوقى به.

ثم إن مقتضى الحديث - بناء على الوجه المتقدم - اعتبار فعلية عدم النقل، وعدم

ص: 324

وأوتاد. وكذلك الأشجار والثمار والنبات والخضروات (1) وإن حان قطفها (2) وفي تطهير الحصر والبواري بها إشكال (3).

الاكتفاء بكون الشيء مما لا ينقل بالأصل وإن طرأه النقل، كالأخشاب المقطوعة والآلات المتخذة من النبات وحجر الرحى ونحوها، خلافاً لما عن الفخر.

هذا وقد يلحق به السفينة، كما عن الموجز الحاوي. ولا يخلو عن إشكال، لكونها من المنقول حقيقة، وإن كان بعض أفرادها - وهو السفن الكبيرة - قد يلحق بغير المنقول تسامحاً.

وأما الاستدلال له بإطلاق المكان في صحيح زرارة. فهو لا يخلو عن إشكال، لقرب انصرافه عن ذلك. ويأتي ما ينفع في المقام.

(1) كما صرح به في الشرايع وغيره. ويقتضيه ما سبق.

(2) كما هو صريح الروضة وعن ظاهر جماعة لإطلاق حديث الحضرمي المتقدم. ومنه يظهر ضعف ما في نهاية الأحكام من إطلاق استثناء الثمرة، وما عن المعالم والذخيرة من أن الأولى إلحاقها بالمنقول إذا صارت في محل القطع.

(3) فقد صرح جماعة بإلحاقها بالأرض وفي الرياض أنه الأشهر، وهو داخل في معقد نفي الخلاف المحكي عن التنقيح.

وقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: إطلاق حديث الحضرمي. وفيه: أنه حيث لا يمكن البناء على العموم المذكور، حيث لا إشكال في عدم مطهرية الشمس للمنقول عدا الحصر والبواري وما ألحق بها، فالأقرب حمله على غير المنقول لما سبق.

وبعبارة أخرى: بعد العلم بعدم عموم الحكم للمنقول فإخراجه رأساً عن موضوع الحديث بلحاظ ما سبق أقرب عرفاً من إبقائه على عمومه والاقتصار في تخصيصه على مورد الإجماع، وهو ماعدا الحصر والبواري وما ألحق بها.

ص: 325

ودعوى: أنها حيث تفرش على الأرض فهي ملحقة بها عرفاً، كما لو فرشت بالرمل أو الحصى أو الزفت. مدفوعة إن الإلحاق بها تسامحي لا حقيقي، بخلاف الرمل والحصى، لأنهما من سنخ الأرض. وأما الزفت فلأنه إذا فرشت به الأرض صار من غير المنقول عرفاً، وليس كذلك الحصر والبواري. ولولا ذلك للزم البناء على مطهرية الأرض للبسط ونحوها من الفراش المنسوج.

الثاني: النصوص الواردة في البواري كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا جفت من غير غسل؟ قال: نعم لا بأس»(1). ونحوه صحيحه الآخر(2) ، وموثق عمار(3). وهي وإن كانت مختصة بالبواري، ولذا اقتصر عليها في محكي النزهة، إلا أن من القريب إلحاق الحصر ونحوها من الفراش المصنوع من نبات الأرض بها. بل عن غير واحد من اللغويين أن الحصير هو البارية.

هذا وأما ما عن بعضهم من العموم لكل ما يصنع من نبات الأرض، كالسلال ونحوها. فهو لا يخلو عن إشكال بعد خروجه عن موضوع هذه النصوص. ولعل مراد القائلين بذلك خصوص ما يفرش، فيرجع للأول.

لكن يشكل الاستدلال بهذه النصوص بأن ظاهر التعبير بالصلاة على المكان وإن كان هو الصلاة مع السجود عليه المستلزم للطهارة، إلا أنه حيث لم يقيد الجفاف فيها بالشمس، ولا إشكال في عدم كفاية مطلق جفاف الموضع النجس في جواز الصلاة مع السجود عليه، فكما يمكن توجيهها بتقييد الجفاف فيها بالجفاف بالشمس، لتدل على مطهرية الشمس للبواري، كذلك يمكن بحملها على الصلاة في الموضع من دون سجود عليه، ولا مرجح للأول. بل لعل الثاني أقرب، لبعد إهمال القيد المذكور لو كان مراداً لتقوم المطهرية به.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 29 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5.

ص: 326

(327) (مسألة 31): يشترط في الطهارة بالشمس - مضافاً إلى زوال عين النجاسة (1) وإلى رطوبة المحل (2) - اليبوسة المستندة إلى الإشراق عرفاً (3)

ولاسيما مع ورود التعبير بالصلاة على المكان من دون إرادة السجود عليه في بعض النصوص، كخبر ابن أبي عمير: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلي على الشاذكونة وقد أصابتها الجنابة فقال: لا بأس»(1) وغيره.

الثالث: الاستصحاب، لأن البواري والحصر من نبات الأرض الذي كان بالأصل غير منقول، وكانت الشمس تطهره، فيُستصحب الحكم المذكور له بعد جعله بارية أو حصيراً.

وفيه أولاً: أنه بعد قطعه قبل جعله بارية أو حصيراً لم تكن الشمس مطهرة له عندهم، فلو جرى الاستصحاب لكان مقتضاه عدم مطهريتها له بعد جعله بارية أو حصيراً. نعم لا مجال للإشكال المذكور بناء على ما سبق عن الفخر من أن المعيار في مطهرية الشمس كون الشيء بالأصل غير منقول وإن طرأه النقل.

وثانياً: أن الاستصحاب المذكور تعليقي، وهو لا يجري على التحقيق.

(1) كما صرح به غير واحد، واستظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، بل في المدارك وعن اللوامع والمستند الإجماع عليه. لأنه المنصرف من أدلة التطهير، نظير ما تقدم في مطهرية الأرض. فراجع.

(2) لتوقف التجفيف على سبق الرطوبة.

(3) فلا يكفي الإشراق من دون تجفيف، لمفهوم الشرطية في صحيح زرارة. وبه يرفع اليد عن إطلاق روايتي الحضرمي لو تم ولم ينصرف لصورة التجفيف بلحاظ ما سبق من انصراف الأدلة لصورة زوال عين النجاسة.

كما لا يكفي الجفاف من دون أن يستند للإشراق، لظهور حديث الحضرمي في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 327

خصوصية الإشراق، بل الظاهر انصراف نسبة التجفيف للشمس في صحيح زرارة إلى ذلك دون ما إذا كان مستنداً لحرارتها من دون أن تصيب الموضع.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يكن التجفيف مستنداً للشمس، بل للهواء أو النار أو غيرها، حيث لا يطهر عندنا قولاً واحداً، كما في المنتهى، وإجماعاً، كما في التذكرة وظاهر نهاية الأحكام ومحكي السرائر والتحرير.

لكن في الخلاف في المسألة السادسة والثمانين بعد المائة من كتاب الطهارة: «الأرض إذا أصابتها نجاسة - مثل البول وما أشبهه - وطلعت عليها الشمس أو [و خ. ل] هبت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة فإنها تطهر... دليلنا: إجماع الفرقة...» وظاهره الطهارة بالجفاف بالريح من دون شمس أو معها على اختلاف النسختين، بل الإجماع على ذلك.

اللهم إلا أن يحمل كلامه على ما إذا كانت الريح تابعة للشمس غير مستقلة بالتجفيف ولا مشاركة للشمس فيه عرفاً، كما يناسبه ما ذكره في المسألة المائتين والست والثلاثين من كتاب الصلاة قال: «إذا بال على موضع من الأرض وجففته الشمس طهر الموضع، وإن جفف بغير الشمس لم يطهر. وكذلك الحكم في البواري والحصر سواء. دليلنا: إجماع الفرقة...».

وكيف كان فيكفي في الحكم بعدم الطهارة صحيح زرارة وصدر موثق عمار المتقدم، مؤيداً بإشعار روايتي الحضرمي بخصوصية الشمس. بل الأمر أظهر من أن يحتاج للاستدلال.

ثم إن المعيار في المقام على الجفاف الذي تضمنه صحيح زرارة، لا على اليبس وإن تضمنه موثق عمار. لما سبق من عدم نهوضه بالاستدلال في المقام. وأما الاستصحاب فهو محكوم للصحيح.

ص: 328

(329) وإن شاركها غيرها في الجملة (1).

(مسألة 32): الباطن النجس يطهر تبعاً لطهارة الظاهر بالإشراق (2).

(1) لغلبة الابتلاء بذلك، فيلزم تنزيل الإطلاق على ما يعمه. أما إذا لم يصح عرفاً نسبة التجفيف للشمس - بسبب قوة الريح بالنحو غير المتعارف أو ضعف شعاع الشمس - فالمتعين عدم الطهارة، لمنافاته لصحيح زرارة.

(2) كما في التذكرة وجامع المقاصد والروض وعن غيرها، لفهمه من النصوص تبعاً، لغفلة العرف عن نجاسة الباطن حينئذ، فعدم التنبيه على بقاء النجاسة في الباطن مع غلبة نفوذها إليه ظاهر في طهارة تمام ما تنجس إذا جف.

هذا وقد استدل بإطلاق النصوص في المقام، حيث تضمنت طهارة المكان والموضع المتنجس إذا أشرقت عليه الشمس وجف بها، والإشراق على الموضع إنما هو بالإشراق على ظاهره لا غير.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن مناسبة الحكم والموضوع في باب التطهير تقتضي اقتصار الطهارة على الموضع الذي يصيبه المطهر، وهو الإشراق في المقام. ولذا صرحوا بعدم طهارة الباطن لو تنجس وحده وجف بإشراق الشمس على الظاهر، مع أنه يصدق الإشراق على المكان بالمعنى المتقدم.

فالعمدة في المقام ما سبق فهمه من النصوص تبعاً، وهو مختص بما إذا تنجس الباطن تبعاً للظاهر، وجف مع الظاهر بسبب الإشراق على الظاهر.

كما أنه لا يبعد اختصاصه أيضاً بما يتعارف نفوذ النجاسة له من العمق القريب من الظاهر، دون العمق البعيد، كما ذكر ذلك في الجملة شيخنا الأستاذ (قدس سره). وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في ضعف ما عن ظاهر المنتهى من اختصاص الطهارة بالظاهر.

ص: 329

(330) (330) (مسألة 33): إذا كانت الأرض النجسة جافة وأريد تطهيرها صب عليها الماء الطاهر أو النجس، فإذا يبس بالشمس طهرت (1).

(مسألة 34): إذا تنجست الأرض بالبول فأشرقت عليها الشمس حتى يبست طهرت من دون حاجة إلى صب الماء عليها (2). نعم إذا كان

(1) وفي الحدائق أنه الظاهر من كلام جملة من المتأخرين، وعن الذخيرة أنه المشهور بينهم. وهو يبتني - كما في الحدائق - على عموم المطهرية لنجاسة غير البول، إذ الشمس وإن لم تجفف البول، إلا أنها جففت الماء المتنجس بصبه على الارض، فتطهر الأرض بجفافه.

ودعوى: أن ذلك إنما يقتضي طهارتها من نجاسة الماء المتنجس الذي جففته الشمس لا من نجاسة البول الذي جف بغير الشمس.

مدفوعة بأن الظاهر التداخل بين النجاستين في المقام، وإلا لزم عدم طهارة الأرض لو أصابها البول فجف بغير الشمس ثم أصابها البول مرة أخرى فجففته الشمس، ولا يمكن البناء على ذلك، ولا حمل النصوص عليه.

بل قد يستفاد التطهير حينئذ من إطلاق روايتي الحضرمي الظاهر في مطهرية الإشراق من كل نجاسة، إذ المتيقن تقييده بما إذا كان الإشراق مجففاً للمتنجس، أما تقييده بعدم جفاف النجاسة بغير الإشراق - بحيث لو جف المتنجس بغيره لم يطهره الإشراق بعد ذلك وإن جففه من رطوبة أخرى - فلا دليل عليه. وصحيح زرارة إنما يقتضي بقاء النجاسة مع بقاء رطوبة البول أو جفافه بغير الشمس، لعدم المطهر، لا لامتناع التطهير، فكما يمكن أن يطهر بالماء لأدلة مطهريته، يمكن أن يطهر بتجفيف رطوبة أخرى كما هو مقتضى إطلاق حديث الحضرمي. فتأمل جيداً.

(2) بلا إشكال لصحيح زرارة. ولا مجال لحمله على صورة صب الماء، كما سبق عند الكلام في الجمع بينه وبين صحيح ابن بزيع.

ص: 330

(331) البول غليظاً له جرم لم يطهر جرمه بالجفاف (1). بل يشكل طهارة سطح الأرض الذي عليه الجرم (2).

(مسألة 35): الحصى والتراب والطين والأحجار المعدودة جزءاً من الأرض بحكم الأرض في الطهارة بالشمس وإن كانت في نفسها منقولة (3). نعم لو لم تكن معدودة من الأرض كقطعة من اللبن في أرض مفروشة بالزفت. أو بالصخر. أو نحوهما فثبوت الحكم حينئذ لها محل إشكال (4).

(مسألة 36): المسمار الثابت في الأرض أو البناء بحكم الأرض. فإذا

(1) إذ ليس مفاد النصوص إلا مطهرية الشمس للمتنجس، وهو الأرض وجميع ما لا ينقل، لا لعين النجاسة. وقد يحمل عليه قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة وحديد المتقدم: «إلا أن يكون يتخذ مبالاً»، بناء على أن الصحيح من أدلة مطهرية الشمس، وإن سبق الإشكال في ذلك.

(2) لما سبق من اعتبار زوال عين النجاسة في التطهير. ولا يظهر الوجه في توقفه (قدس سره) بعد ما سبق منه من الجزم باعتبار زوال عين النجاسة.

(3) لأن نقلها في نفسها لا ينافي صدق كونها من غير المنقول بلحاظ اتحادها عرفاً مع الأرض التي هي عليها، فإن الأرض كثيراً ما تكون مكونة من أجزاء منقولة، ومع ذلك تعد عرفاً من غير المنقول، ولا تختص بالصخور الثابتة.

(4) بل منع، لعدم الاتحاد عرفاً. نعم إذا ثبت فيما هو عليه ببناء ونحوه جرى عليه حكم غير المنقول، فيطهر بالشمس حتى لو كانت نجاسته قبل تثبيته، لإطلاق حديث الحضرمي. وتوقف شيخنا الأستاذ (قدس سره) فيه، أو ميله لعدم مطهرية الشمس له، في فرض نجاسته قبل تثبيته في غير محله.

ص: 331

(332) قلع لم يجر عليه الحكم. فإذا رجع رجع حكمه (1) وهكذا.

(الرابع): الاستحالة إلى جسم آخر (2).

(1) لعين ما سبق.

(2) كما هو المعروف في الجملة المدعى عليه الإجماع من غير واحد في الموارد المختلفة التي يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى.

وحيث لم تشتمل النصوص على عنوان الاستحالة فلا يهم تحديد مفهومها أو مصاديقها، بل ينبغي الكلام في ضوابط المطهرية بسبب تحول النجس وتبدل صورته، فقد اختلفت كلماتهم في ذلك كثيراً.

ولا ينبغي التأمل في الطهارة أو النجاسة مع تبدل حال المنجس أو المتنجس إلى عنوان كان مقتضى إطلاق دليل أو عمومه طهارته أو نجاسته، عملاً بالدليل المذكور بغض النظر عن خصوصية التبدل.

وكذا لو قام الدليل على أن تبدل حال الشيء موجب لارتفاع نجاسته - كما يأتي في انقلاب الخمر خلاً - أو غير موجب لذلك. وإنما الكلام فيما إذا شك في ذلك من دون دليل على أحد الأمرين.

والظاهر حينئذ أنه لا يكفي في الطهارة تبدل عنوان النجس المأخوذ في الحكم بنجاسته مع حفظ ذاته عرفاً، كما لو ورد أن الجلال نجس، فخرج الحيوان عن الجلل بالاستبراء. لأن النجاسة لما كانت من صفات الذات الخارجية التي لا تقبل التقييد، والتي هي محفوظة في حالتي وجود القيد وعدمه، فلابد من كون جميع القيود المأخوذة في الحكم بها تعليلية لا تقييدية، فإذا شك في ارتفاعها بارتفاع القيد أمكن استصحابها، لاتحاد موضوع القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة، وهو الذات المعروضة للنجاسة والمحفوظة في حالتي وجود القيد وعدمه.

وأما ما يأتي من طهارة الخمر بإنقلابه خلاً مع عدم تبدل الذات عرفاً. فهو لا

ص: 332

يبتني على الاستحالة، بل على الأدلة الخاصة، كما أشرنا إليه آنفاً.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يكن العنوان مأخوذاً في الحكم بالنجاسة، كما لو لاقى العنب النجاسة ولم يطهر حتى صار زبيباً، لما هو المعلوم من أن النجاسة إنما وردت عليه بعنوان كونه جسيماً ملاقياً للنجس من دون دخل لكونه عنباً في ذلك.

ومن هنا لابد في الطهارة في محل الكلام من كون التبدل موجباً لتعدد الذات عرفاً، بحيث لا تكون الذات الثانية بقاء للأولى، بل متولدة منها، لانعدام الأولى عرفاً، وتجدد الثانية بعدها خلفاً عنها وإن كانا متحدين دقة. كالبيضة والفرخ، والنظفة والجنين، والحبة والدود ونحوها.

حيث لا مجال مع ذلك لاستصحاب النجاسة، لتعدد الموضوع، لما تقرر في محله من أن المعيار في تعدد موضوع الاستصحاب ووحدته على النظر العرفي لا الدقي. ومع عدم جريان استصحاب النجاسة يكون المرجع قاعدة الطهارة.

إن قلت: ذلك لا يناسب ما هو كالمفروغ عنه بينهم من بقاء الشيء في ملك مالكه الأول، فما لك الفرخ هو مالك البيضة، ومالك الدود هو مالك الحب.

قلت: ليس ذلك مبنياً على بقاء الملكية لبقاء الموضوع، بل على قضية عرفية، وهي تبعية الأمر المتحول إليه للأمر المتحول منه في الملكية، مع تعددهما وتعدد ملكيتهما. نظير تبعية النماء للأصل في الملكية مع عدم الإشكال في تباينهما وتباين ملكيتهما.

ومن هنا لا مخرج عما سبق من أنه لابد في الاستحالة في محل الكلام من تبدل الموضوع عرفاً، بحيث لا يكون الثاني بقاء للأول بنظر العرف، بل مبايناً له. والى هذا يرجع ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

بل يكفي حينئذ الشك في الاتحاد، بحيث لا يتيسر للعرف الجزم به وإن لم يجزم بالتعدد. لأن المعتبر في الاستصحاب هو اليقين باتحاد الموضوع، بحيث يصدق كان

ص: 333

(334) فيطهر ما أحالته النار رماداً (1)

هذا كذا فهو كما كان.

(1) على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً شهرة كادت تكون إجماعاً. كذا في الجواهر. وادعى الإجماع عليه في الخلاف وجامع المقاصد ومحكي السرائر واللوامع، وظاهر المبسوط. نعم قد يظهر من المعتبر التردد فيه.

والوجه في الطهارة ما سبق في معيار الاستحالة المطهرة، فإن الرماد عرفاً ليس بقاء للجسم المحترق، بل هو متولد منه. ولا أقل من عدم وضوح كونه بقاء له عند العرف.

مضافاً إلى السيرة التي أشار إليها في كشف اللثام قال: «وأيضاً فالناس مجمعون على عدم التوقي من رماد النجاسات وأدخنتها وأبخرتها»، ونحوه ما في المنتهى في الرماد. وهو قريب جداً، بل لا ينبغي الريب فيه.

هذا وقد استدل في الخلاف - مضافاً إلى الإجماع - بصحيح الحسن بن محبوب: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، ثم يجصص به المسجد، أيسجد عليه؟ فكتب إليّ بخطه: إن الماء والنار قد طهراه»(1). وقريب منه صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن بيت قد كان الجص يطبخ فيه بالعذرة أتصلح الصلاة فيه؟ قال: لا بأس. وعن الجص يطبخ بالعذرة أيصلح أن يجصص به المسجد؟ قال: لا بأس»(2).

لكن الاستدلال بهما مبني على أن السؤال إنما هو بلحاظ ملاقاة الجص قبل الإيقاد للعذرة الرطبة والعظام المشتملة على الأجزاء الدهنية، واختلاطه بعد الإيقاد برماد العذرة والعظام، وأن المراد بالماء ماء المطر، فيرجع الجواب حينئذ إلى أن النار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 81 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 65 من أبواب أحكام المساجد حديث: 3.

ص: 334

أو دخاناً (1)،

قد طهرت العذرة والعظام باستحالتهما رماداً، وماء المطر قد طهر الجص المتنجس بملاقات العذرة والعظام قبل الإيقاد. وهو بعيد جداً مبتن على تكلف لا مجال للبناء عليه، بل الظاهر أن الوقود منفصل عن الجص. ومن ثم يكون الصحيح الأول مجملاً، كما سبق عند الكلام في دليل اعتبار طهارة مسجد الجبهة.

وأما الثاني فما تضمنته من جواز الصلاة في البيت وتجصيص المسجد بالجص لا ينافي القواعد، وهو أجنبي عما نحن فيه.

ومثله ما في المنتهى ونهاية الأحكام من أن النار أقوى إحالة من الماء، فكما أن الماء مطهر فالنار أولى. إذ فيه أن مطهرية الماء ليس بملاك الإحالة، لتنفع الأولوية. فالعمدة في وجه الطهارة ما سبق.

(1) على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً شهرة كادت تكون إجماعاً. كذا في الجواهر. وادعى الإجماع عليه في جامع المقاصد وظاهر التذكرة والمنتهى. وتقدم من كشف اللثام دعوى السيرة على ذلك، كما صرح بها في المعتبر والذكرى.

ويقتضيه - مضافاً إلى ذلك - ما تقدم في معيار الاستحالة المطهرة، بل هو في الدخان أظهر منه في الرماد عرفاً.

مع أن أثر النجاسة ينحصر في مانعية النجس من بعض الأمور - كمانعية الميتة من الصلاة - أو تنجيسه لما يلاقيه برطوبة من الأجسام الطاهرة، والظاهر انصراف أدلة الحكمين عن مثل الدخان مما لا تكثف فيه وليس له وجود مستقر، كالهواء والبخار ونحوهما. ومن ثم تنصرف أدلة النجاسة عنه.

بل هو خارج عرفاً عن موضوع النجاسة والطهارة، لعدم الأثر لاعتبارهما فيه. ولذا لا ريب بملاحظة سيرة المتشرعة ومرتكزاتهم في عدم تنجس الدخان وتنجيسه بمروره على المتنجس الرطب ثم على الجسم الطاهر الرطب.

ص: 335

أو بخاراً (1)، سواء أكان نجساً أم متنجساً (2).

هذا وربما يستفاد الخلاف مما صرح به جماعة من عدم جواز الاستصباح بالدهن المتنجس تحت الظلال، معللاً بأنه لابد من تصاعد الدهن المتنجس مع الدخان، فينجس الظلال.

لكن ذلك إنما يقتضي نجاسة أثر الدخان المتخلف المتكثف في الظلال، لا نجاسة نفس الدخان - بحيث إذا مر على جسم رطب نجسه - بل لا يظن من أحد البناء على ذلك وإن صرح به في نهاية الأحكام.

وأما الكلام في الأثر المذكور فيظهر مما يأتي في المسألة السابعة والثلاثين إن شاء الله تعالى.

(1) قال سيدنا المصنف (قدس سره): «والمعروف الطهارة، بل ظاهر بعض أنه لا كلام فيه». ويقتضيه ما تقدم في الدخان من السيرة القطعية في مثل بخار الحمامات وبخار البول وغيرهما، كما سبق من كشف اللثام. مضافاً إلى الأصل بعد تحقق معيار الاستحالة، وانصراف أدلة النجاسة والانفعال نظير ما تقدم في الدخان.

لكن في كشف اللثام: «وحكم في المنتهى بنجاسة ما يتقاطر من بخار النجس، إلا أن يعلم تكونه من الهوائية. وكذا في المدنيات إن غلب على الظن تصاعد الأجزاء المائية معه بالحرارة. ويدفعه عدم خلو البخار من ذلك عادة مع اتفاق الناس على عدم التوقي. ولا يفترق الحال بين نفسه وما يتقاطر منه وهو واضح». وما ذكره متين جداً.

(2) فإن عبارات جملة منهم - كمعاقد بعض الإجماعات - وإن اختصت بالنجس، إلا أن مقتضى إطلاق بعضهم وصريح آخرين العموم، كعموم معقد بعض الإجماعات. وفي مفتاح الكرامة: «قال الأستاذ أيده الله تعالى: ولعله الظاهر من إطلاق الفقهاء، بل يستفاد منهم الإجماع عليه».

ص: 336

(337) وكذا يطهر ما استحال بخاراً بغير النار (1). أما ما أحالته خزفاً أم آجراً (2)

بل لو فرض اختصاص معاقد الإجماعات بالنجس أمكن التعدي للمتنجس بالأولوية بمقتضى ارتكاز المتشرعة. على أنه يجري فيه جميع ما تقدم في النجس.

لكن عن جماعة الاختصاص بالنجس، لأن الاستحالة فيه توجب ارتفاع الموضوع، لارتفاع العنوان المأخوذ في لسان أدلته، كالكلب والميتة والدم، فيمتنع الاستصحاب، بخلاف المتنجس، لأن الموضوع فيه هو الجسم، وهو باق.

وفيه: أنه إن كان المدعى بقاء الجسم بعينه، بحيث يكون الجسم بعد الاستحالة عين الجسم قبلها، لم ينفع تبدل العنوان في امتناع الاستصحاب في النجس، لما سبق من أن النجاسة لما كانت من عوارض الجسم الجزئي الخارجي، وهو غير قابل للتقييد، فلابد من كون العناوين المأخوذة فيه تعليلية غير مقومة للموضوع ولا يمنع ارتفاعها من جريان الاستصحاب في النجس.

وإن كان المدعى أن الباقي بعد الاستحالة جسم كما كان الموجود قبلها جسماً، فهو لا ينفع في جريان الاستصحاب في المتنجس. ما لم يكن الجسمان متحدين عرفاً، وقد عرفت المنع منه في مورد الاستحالة، وأن الاتحاد بين الجسمين دقي لا عرفي، وهو لا يكفي في جريان الاستصحاب. على أن كون الباقي جسماً يقبل الحكم بالنجاسة عرفاً، لتستصحب فيه، يختص بالرماد، دون الدخان والبخار، كما ذكرناه آنفاً.

(1) لعين الوجوه المتقدمة في البخار الحاصل بسبب النار. ومنه يظهر أيضاً العموم لغير البخار من الأجسام المتحللة، كالغازات.

(2) فقد صرح بالطهارة فيهما في الخلاف ومحكي نهاية الأحكام والبيان والمعالم وموضع من المنتهى وغيرها وقد يرجع إليه الاقتصار على الآجر في المبسوط والتذكرة، حيث لا يبعد أنهما من سنخ واحد، بل الأمر في الخزف أوضح.

لكن توقف في ذلك غير واحد فيما حكي. بل صرح بالنجاسة في المسالك

ص: 337

والروضة والروض وإن اقتصر فيه على ذكر الآجر، وحكاه في الروضة عن الشهيد في غير البيان وجرى عليه غير واحد من المتأخرين وهو المتعين. للاستصحاب.

وقد يستدل على الطهارة - مضافاً إلى الإجماع المدعى في الخلاف - بتحقق الاستحالة. لكن الإجماع المذكور ليس بنحو يعتد به في إثبات حكم شرعي. والاستحالة غير حاصلة بالنحو المتقدم الذي عليه مدار الطهارة، لوضوح أن الخزف والآجر ليسا عرفاً وجوداً مبايناً لأصلهما، وهو الطين، بل التحول إليهما تبدل في حال الموجود الواحد. ولذا سبق منا ومن جماعة جواز التيمم بهما، كما يجوز السجود عليهما أيضاً.

هذا وقد يبتني القول بالطهارة على مطهرية النار التي قد يستدل عليها بوجهين:

الأول: أنها أولى بالمطهرية من الشمس. ولعله بلحاظ أنها أشد حرارة وتأثيراً في الجسم الذي تسخنه، فتحلل النجاسة بها أشد.

وفيه: أنه لم يتضح الوجه في الأولوية بعد كون مطهرية الشمس تعبدية لا عرفية، وعدم الإشارة في الأدلة لعلتها. ولاسيما مع اختصاص مطهريتها بغير المنقول، وبما إذا استند التجفيف لها، ولم يتحقق قبل إصابتها للموضع النجس، من دون أن يقتصر على ذلك القائلون بالطهارة في المقام.

الثاني: النصوص الواردة في الموارد المتفرقة، كصحيح ابن محبوب المتقدم، وصحيح ابن أبي عمير عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في عجين عجن وخبز، ثم علم أن الماء كانت فيه ميتة. قال: لا بأس أكلت النار ما فيه»(1). ورواية الزبيري: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البئر يقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال: إذا أصابته النار فلا بأس بأكله»(2) ، وخبر زكريا بن آدم: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير. قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب. واللحم اغسله وكله.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب أحكام الماء المطلق حديث: 18، 17.

ص: 338

قلت: فإن قطر فيه الدم قال: الدم تأكله النار إن شاء الله. قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم. فقال: فسد، قلت: أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال: نعم، فإنهم يستحلون شربه. قلت والفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شيء من ذلك؟ فقال: أكره أنا أن آكله إذا قطر في شيء من طعامي»(1) ، وصحيح سعيد الأعرج: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قدر فيها جزور وقع فيه قدر أوقية دم أيؤكل؟ قال: نعم، فإن النار تأكل الدم»(2) ، وصحيح علي بن جعفر: «سألته عن قدر فيها ألف رطل ماء يطبخ فيها لحم وقع فيها أوقية دم هل يصح أكله؟ فقال: إذا طبخ فكل، فلا بأس»(3).

لكن هذه النصوص - على كثرتها - لا تنهض بإثبات مطهرية النار في المقام. أما صحيح ابن محبوب فقد تقدم الإشكال في مضمونه، وأن المتعين البناء على إجماله.

وأما بقية هذه النصوص فهي لا تنهض ببيان عموم مطهرية النار، بل هي صريحة في التفصيل بين النجاسات، بل والمتنجسات.

بل لا يظن بأحد البناء على عموم مطهرية النار، إذ لو كان ذلك ثابتاً لظهر وبان، وشاع القول به والعمل عليه، وكثرت الأسئلة عنه وعن فروعه، لشدة الحاجة له، وكثرة الابتلاء به.

وغاية ما يمكن دعواه هو الاقتصار على موارد النصوص لو نهضت بإثبات مضامينها واستفيد منها مطهرية النار في تلك الموارد، وحيث كان المقام خارجاً عن جميع تلك الموارد فالمتعين البناء فيه على النجاسة، لما سبق.

هذا والمناسب التعرض لمفاد هذه النصوص والنظر في نهوضها بإثبات الطهارة في مواردها فنقول:

أما حديث ابن أبي عمير فيظهر من الشيخ في مياه النهاية العمل به، بل التعدي لجميع موارد العجن بالماء النجس، وعدم الاقتصار على الماء الذي وقعت فيه الميتة،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 44 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 44 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 3.

ص: 339

وعن الذخيرة الميل إليه. وقد يتجه بلحاظ ما هو المختار من حجية مراسيل ابن أبي عمير، وقرب إلغاء خصوصية الماء المذكور.

لكنه معارض بصحيحه الآخر عن بعض أصحابنا - وما أحسبه إلا حفص بن البختري -: «قيل لأبي عبد الله (عليه السلام) في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: يباع ممن يستحل أكل الميتة»(1) ، وصحيحه الثالث عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام):

«قال: يدفن ولا يباع»(2). وحمل الحديثين المذكورين على الاستحباب بعيد جداً، خصوصاً الثاني، لما في الدفن من تضييع المال.

وعليه إن أمكن حمل الأول على ماء البئر - كما يظهر من الفقيه والوسائل - فهو، وإلا فكما يمكن الجمع بينه وبين هذين الحديثين بتقييدهما به بحملهما على الماء النجس بغير الميتة، كذلك يمكن الجمع بتقييده بهما بحمله على الميتة الطاهرة.

بل لعل الثاني أقرب، لشيوع الابتلاء بالميتة الطاهرة، ولاستبعاد كون التنجس بالميتة أخف من سائر أنحاء التنجس. ولا أقل من التكافؤ والتساقط، والرجوع للأدلة الأخر المقتضية للنجاسة.

ولعله لذا يظهر منه (قدس سره) في أطعمة النهاية التردد في ذلك، حيث قال: «وإذا نجس الماء بحصول شيء من النجاسات فيه ثم عجن به وخبز منه لم يجز أكل ذلك الخبز. وقد رويت رخصة في جواز أكله. والأحوط ما قدمناه». ونحوه في المبسوط. بل صرح في التهذيب بالعمل بالخبرين الأخيرين، دون الأول.

وأما حديث الزبيري فقد أفتى بمضمونه في الفقيه والمقنع. وهو - مع ضعف سنده - إنما ينفع بناء على انفعال ماء البئر. أما بناء على المختار من اعتصامه فهو إنما يدل على ارتفاع الكراهة بإصابة النار، فيكون أجنبياً عما نحن فيه، ولا مانع من الالتزام به.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الأسئار حديث: 1، 2.

ص: 340

وأما نصوص القدر التي يقع فيها الدم فيظهر العمل بها من جماعة، كالمفيد في المقنعة وسلار في المراسم، وكذا الشيخ في النهاية والقاضي في المهذب، بعد تقييدهما الدم بالقليل. بل عن القاضي التعميم لغير الدم من النجاسات.

وربما يستشكل في النصوص المذكورة بضعف السند، ففي المختلف أن سعيد الأعرج لا أعرف حاله، وفي أطعمة الدروس: «ولو وقع دم نجس في قدر تغلي على النار غسل الجامد وحرم المايع عند الحليين، وقال الشيخان: يحل المايع إذا علم زوال عينه بالنار. وشرط الشيخ قلة الدم. وبذلك روايتان لم يثبت صحة سندهما. مع مخالفتهما للأصل». وكأنه يريد بالروايتين حديثي زكريا بن آدم وسعيد الأعرج.

لكن الظاهر صحة الثاني، وأن سعيد الأعرج ثقة، لرواية صفوان عنه، ولأن الظاهر أنه ابن عبد الرحمن الذي نص النجاشي على وثاقته. على أن صحيح ابن جعفر كاف في المقام.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من معارضتها بصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «وسألته عن رجل رعف وهو يتوضأ، فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا»(1). وبعد تساقطهما فالمرجع الأصل.

إذ فيه: أن الصحيح وإن تضمن عدم جواز الوضوء بالماء الملاقي للدم كما تضمن ذلك نصوص أخر(2) ، إلا أن من السهل حملها على بيان تنجس الماء من دون نظر إلى بقاء النجاسة وكيفية التطهير منها، فلا تنافي تطهيره بالطبخ أو باتصاله بماء معتصم أو بغيرهما، فليس التعارض بينها وبين نصوص المقام مستحكماً، ليصل الأمر للتساقط والرجوع للأصل، الذي هو استصحاب النجاسة على التحقيق.

نعم قد يقال: إن التعبير في حديثي زكريا وسعيد بأن النار تأكل الدم قد يناسب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 8 من أبواب أحكام الماء المطلق حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 82 من أبواب أحكام الماء المطلق حديث: 8، وج: 2 باب: 8 من أبواب أحكام الماء المطلق حديث: 2.

ص: 341

أم جصاً أم نورة (1)، فهو باق على النجاسة، وفيما أحالته فحماً

كون منشأ السؤال حرمة أكل الدم الواقع لا تنجيسه، وإلا كان الأنسب التعبير بأن النار تطهره. وحينئذ ربما يسهل حمل نصوص المقام على الدم الطاهر المحرم الأكل، ويرجع الجواب إلى استهلاك الدم واضمحلاله بسبب الطبخ.

أو يقال: إن صحيح ابن جعفر قد تضمن أن القدر فيها ألف رطل من الماء، وكما يمكن أن يراد بالرطل العراقي، فينقص عن الكر مائتي رطل، يمكن أن يراد به المدني، فيزيد على الكر أربعمائة رطل. بل لعل الثاني أنسب بكون المخاطب والمخاطب مدنيين. كما أن صحيح سعيد قد تضمن أن القدر فيها جزور، والمعروف أنه الناقة، ومثل القدر المذكورة قد تسع كراً أو أكثر.

فلم يبق إلا خبر زكريا، وهو ضعيف السند، ويسهل حمله على الكرّ، وحمل صدره على الاستحباب، كحمل ما تضمنته النصوص من اعتبار الطبخ والتعبير بأكل النار، على بيان استهلاك الدم واضمحلاله، فراراً عن حرمة أكله وإن لم ينفعل به ما في القدر.

هذا ولو فرض تعذر الحملين المذكورين، وتمامية دلالة النصوص، فيصعب جداً البناء على الحكم المذكور بعد غرابته واستنكاره بحسب المرتكزات المتشرعية، حيث تكون هذه النصوص من المشكل الذي يرد علمه لأهله صلوات الله عليهم. ونسأله سبحانه وتعالى العصمة والسداد.

(1) حيث لا يبعد جريان الخلاف السابق في الخزف والآجر فيهما، لأن تأثير النار فيهما ليس أقل من تأثيرها في الخزف والآجر. بل لا يبعد كون التأثير في النورة أشد. ولعله لذا قال في كشف اللثام: «وأما الاستحالة نورة أو جصاً فكأنها كالاستحالة رماداً أو تراباً أو خزفاً، والأولان أظهر في الأول كالأخير في الأخير» ومراده أن الأظهر إلحاق الاستحالة نورة بالاستحالة رماداً أو تراباً وإلحاق الاستحالة

ص: 342

(343) إشكال (1).

(مسألة 37): لو استحال الشيء بخاراً ثم استحال عرقاً فإن كان متنجساً فهو طاهر (2)، وإن كان نجساً، فإن عدّ العرق من تلك

جصاً بالاستحالة خزفاً.

وكيف كان فالظاهر عدم تحقق معيار الاستحالة المتقدم في النورة، فضلاً عن الجص، وأن المتعين فيهما النجاسة، للاستصحاب.

(1) فقد حكم بالطهارة في المفاتيح وغيره ومال إليه في الحدائق، واستظهره في جامع المقاصد، ومنع منها في المسالك، وظاهر كشف اللثام التوقف. وكأنه للشك في كونه من أفراد الاستحالة. ولكنه يقتضي البناء على الطهارة، لما سبق من أنه مع الشك فيه يشك في بقاء الموضوع ويمتنع جريان الاستصحاب. ومن ثم لم يستبعد سيدنا المصنف (قدس سره) في استدلاله الطهارة. لكن الأقرب عدم تحقق الاستحالة، وإن لم يسهل الجزم بذلك، حيث قد يتعين معه الاحتياط.

(2) ولا مجال لاستصحاب النجاسة فيه بعد مباينته للماء المتنجس عرفاً وإن كان عينه حقيقة. بل لو كان عينه عرفاً - كما لو فرض أن الماء الأول بنظر العرف قد وجد وانعدم - فلا مجال لاستصحاب نجاسته، إذ لابد في الاستصحاب - مضافاً إلى اتحاد الموضوع - من استمراره بحيث يكون الموجود في الزمان الثاني بقاء للموجود في الزمان الأول، ليكون مفاد الاستصحاب استمرار حكمه السابق. أما مع تخلل العدم بينهما فلا مجال لاستمرار الحكم الأول، بل غاية ما يمكن هو ثبوته في الحالين بنحو الطفرة، ولا ينهض بذلك الاستصحاب.

نعم لو كان لدليل تنجس الشيء قبل التبخر إطلاق يقتضي نجاسته بعد التبخر تعين البناء على نجاسته حينئذ، كما لو فرض دلالة الدليل على أن الماء المتغير بملاقاة النجاسة نجس، فإذا فرض أن الماء الحاصل بعد التبخر عين الماء الموجود قبل التبخر

ص: 343

الحقيقة (1) فالعرق نجس (2)، وإلا فطاهر (3)

عرفاً، وقد رجع حاملاً لصفة التغير، تعين نجاسته بمقتضى إطلاق الدليل المذكور، لا بمقتضى الاستصحاب.

وهذا بخلاف ما إذا كان مفاد الدليل حدوث النجاسة للماء بحدوث التغير له من دون نظر للبقاء، كما إذا كان الدليل بلسان: إذا تغير الماء بالنجاسة فإنه ينجس، وكان البناء على بقاء النجاسة ببقاء التغير لليقين أو للاستصحاب، إذ حينئذ لا ينفع اتحاد الماءين عرفاً في البناء عل نجاسة الماء بعد التبخر وإن رجع متغيراً، لعدم اليقين بنجاسته بعد تخلل العدم حال التبخر، كما لا مجال لاستصحابها، لما سبق.

وكذا لو لم يكن الماءان متحدين عرفاً بسبب تخلل العدم بينهما حال التبخر، حيث لا مجال للبناء على نجاسة الماء بعد التبخر إذا رجع حاملاً لصفة التغير حتى لو دل الدليل على أن الماء المتغير بملاقاة النجاسة نجس، لأن الماء الثاني بعد مباينته للأول لم يتغير بملاقاة النجاسة، بل بنفسه، لأن الملاقاة إنما حصلت للأول دون الثاني.

(1) كما لو صدق على عرق الخمر أو المسكر أو البول أنه خمر أو مسكر أو بول.

(2) لعموم أو إطلاق دليل نجاسة عنوان النجس الذي طرأ عليه التبخر. وكذا لو صدق عليه عنوان آخر نجس أيضاً، كما لو صدق على عرق الفقاع الخمر مثلاً.

(3) لأصالة الطهارة بعد عدم كونه بقاء للنجس، ليقتضي الاستصحاب أو إطلاق دليل نجاسة النجس نجاسته، وبعد عدم صدق عنوان المحكوم بنجاسته شرعاً عليه.

لكن في المنتهى الحكم بنجاسة ما يتقاطر من بخار النجس، إلا أن يعلم تكونه من الهواء، كما سبق، وسبق عن المدنيات ذلك إن غلب على الظن تصاعد الأجزاء المائية معه بالحرارة.

ص: 344

(345) وكذا لو شك (1).

(مسألة 38): الدود المستحيل من العذرة أو الميتة طاهر (2)، وكذا كل حيوان تكوّن من نجس أو متنجس (3).

(مسألة 39): الماء النجس إذا صار بولاً لحيوان مأكول اللحم أو عرقاً له أو لعاباً له فهو طاهر (4).

(مسألة 40): الغذاء النجس أو المتنجس إذا صار خرءاً لحيوان

ويظهر الإشكال فيه مما سبق. بل الظاهر من سيرة المتشرعة عدم التوقي عما يتقاطر. وكفى بها دليلاً على الطهارة يستغنى به عن الأصل.

نعم إن رجع ما عن المدنيات إلى فرض تصاعد أجزاء مائية دقيقة مع البخار نظير رذاذ الماء عند الرش بحيث يصدق على تلك الأجزاء الماء لا البخار، اتجه ما ذكره. لكن مع فرض العلم بذلك، ولا يكفي الظن، لعدم الدليل على حجيته.

(1) يعني: في عده من تلك الحقيقة. لأصالة الطهارة.

(2) كما لعله المعروف، بل لا يظن من أحد الخلاف به، ويكفي فيه السيرة على طهارة الدود من دون نظر لما يتكون منه. ولا أقل من تحقق معيار الاستحالة المتقدم.

(3) لعين ما سبق. نعم لو كان الحيوان نجس العين فهو نجس لخصوصية فيه، لا لبقاء نجاسة ما تكون منه.

(4) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه ما تضمن طهارة فضلات ما يؤكل لحمه، فإنه وإن كان وارداً لبيان طهارته من حيثية كونه مضافاً لمأكول اللحم، إلا أن عدم التنبيه على نجاسته بلحاظ أصله مع شيوع الابتلاء بذلك وغفلة العرف عنه موجب لظهوره في الطهارة مطلقاً حتى لو كان أصله نجساً. ولا أقل من تحقق معيار الاستحالة المتقدم. وإن كان الأمر أظهر من ذلك.

ص: 345

(346) مأكول اللحم أو لبناً له (1) أو صار جزءاً من الخضروات أو النباتات أو الأشجار أو الأثمار (2) فهو طاهر. وكذلك الكلب إذا استحال ملحاً (3). وكذا الحكم في غير ذلك مما يعد المستحال إليه متولداً من المستحال منه.

(الخامس): الانقلاب، فإنه مطهر للخمر إذا انقلبت خلاً (4)

(1) يجري فيه ما تقدم في المسألة السابقة.

(2) يجري فيه ما تقدم في المسألة السابقة. مضافاً إلى ما تضمن الترخيص في التسميد بالعذرة()1) ، وإن كان ضعيفاً سنداً وإلى قيام السيرة القطعية على ذلك.

(3) كما في الدروس وجامع المقاصد وكشف اللثام وعن الإيضاح والبيان وظاهر المدنيات، لتحقق معيار الاستحالة المتقدم.

وفي المنتهى ونهاية الأحكام عدم الطهارة. وكذا عن المعتبر، وإن لم أجده فيه. واستدل له بأن الأجزاء قائمة بالأجزاء النجسة وهي باقية. وفيه: أن بقاء الأجزاء دقة لا يستلزم بقاء النجاسة واقعاً، ولا يكفي في استصحابها ظاهراً. وبقاءها عرفاً ممنوع. فلا معدل عن القول بالطهارة لأصالتها.

نعم لابد من عدم تنجس الملح برطوبة الميتة قبل الاستحالة ولو لكون الاستحالة تدريجية، وإلا تعين البناء على نجاسة الملح وإن لم يكن عين النجاسة كالكلب.

(4) إجماعاً، كما في المنتهى والمهذب والبارع وكشف اللثام وما يأتي من السيد الطباطبائي (قدس سره) في منظومته. ويقتضيه النصوص الكثيرة وغيرها مما يأتي التعرض له.

ولا مجال للاستدلال عليه بالأصل، لزوال الحقيقة النجسة وحدوث حقيقة

********

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

ص: 346

(347)أخرى، كما في كشف اللثام. إذ فيه: أن مجرد تبدل العنوان لا يكفي جريان أصالة الطهارة مع اتحاد المتحول إليه مع المتحول عنه عرفاً، بحيث يرى العرف أنهما جسم واحد قد تغير حاله، بل يجري استصحاب النجاسة حينئذ.

نعم إذا بلغ الحال عدهما جسمين أحدهما متولد من الأرض - كالخشب والرماد والعذرة والدود - امتنع جريان الاستصحاب وكان المرجع أصل الطهارة، كما تقدم لكن لا مجال لدعواه هنا.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الخمر والخل حقيقيان عرفاً وإن لم يكونا حقيقتين عقلاً، وأن النجاسة والحرمة قائمتان بعنوان الخمر المفروض زواله. ولذا عدّ الانقلاب في المقام من أفراد الاستحالة. ففيه أن زوال حقيقة النجس وعنوانه عرفاً إنما يمنع من التمسك بإطلاق دليل النجاسة، ولا يمنع من التمسك باستصحابها بعد فرض اتحاد الجسمين عرفاً.

نعم بناءً على مختاره (قدس سره) من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية في الشبهات الحكمية فيتعين بعد عدم جريان الإطلاق الرجوع لأصالة الطهارة. لكن المبنى المذكور غير تام كما أوضحناه في محله. وقد تقدم في أوائل الكلام في الاستحالة ما ينفع في المقام.

بقي شيء: وهو أن المنساق من كلمات الأصحاب جريان ذلك في كل مسكر. ولاسيما مع ما يأتي من تعميمهم الطهارة بالانقلاب للخل لعصير العنب إذا غلا ولم يذهب ثلثاه. نعم قال في نهاية الأحكام: «انقلاب الخمر مطهر لها... أما النبيذ فإشكال، ينشأ من زوال علة التنجيس التي هي الإسكار، وعدم التنصيص عليه بالخصوصية».

لكن الظاهر إلغاء خصوصية الخمر وفهم العموم لكل مسكر من النصوص، لأن المنساق منها أن منشأ حل الخمر وطهارتها بالانقلاب هو زوال الإسكار الذي هو علة الحرمة والنجاسة، بل هو كالصريح من صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):

ص: 347

(348)بنفسها (1)، أو بعلاج (2).

«سألته عن الخمر يكون أوله خمراً، ثم يصير خلاً أيؤكل؟ قال: نعم إذا ذهب سكره فلا بأس». وذلك يجري في كل مسكر.

()()1

(1) كما هو المتيقن المدعى عليه إجماع المسلمين في المنتهى. وتقتضيه السيرة القطعية، حيث يتعارف في تصنيع الخل أن لا يصير المصنع خلاً إلا بعد أن يمر بحالة يكون فيها خمراً أو مسكراً. مضافاً إلى ما يأتي من النصوص.

(2) كما هو مقتضى إطلاق الفتاوى في الجملة، بل ظاهر المنتهى اتفاق علمائنا عليه ويقتضيه النصوص الكثيرة، كإطلاق صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن الخمر يكون خمراً ثم يصير خلاً يؤكل؟ قال: نعم إذا ذهب سكره فلا بأس» ونحوه خبره ، وخصوص صحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلاً، قال: لا بأس» وموثق عبيد بن زرارة: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام)

()()2()()3()()4

عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلاً، قال: لا بأس» ، وموثقه الآخر عنه (عليه السلام):

()()5

«في الرجل إذا باع عصيراً فحبسه السلطان حتى صار خمراً، فجعله صاحبه خلاً، فقال: إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس» ، وصحيح جميل: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

()()6

يكون لي على الرجل الدراهم، فيعطيني بها خمراً، فقال: خذها ثم أفسدها». وزاد في بعض طرق الحديث: «واجعلها خلاً» ، وغيرها مما يأتي.

()()7

نعم في موثق أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سئل عن الخمر يجعل فيها الخل، فقال: لا، إلا ما جاء من قِبَل نفسه». وروي عن الصدوق في عيون الأخبار بأسانيده عن الرضا (عليه السلام): «عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كلوا خل الخمر، فإنه يقتل الديدان في البطن، وقال: كلوا خل الخمر ما فسد، ولا تأكلوا ما أفسدتموه

()()8

********

ص: 348

(1)وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 10.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 1، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 1، 3.

(5) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 1، 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5، 6، 7.

(7) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5، 6، 7.

(8) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5، 6، 7.

أنتم». وقد حملهما غير واحد على الكراهة، جمعاً مع النصوص السابقة، لصراحة تلك النصوص في الحِل.

()()1

لكنه لا يخلو عن إشكال، لصعوبة البناء على الكراهة مع النصوص السابقة الكثيرة التي لا إشارة فيها للمرجوحية.

ولاسيما ما تضمن بيان فائدة خمر الخل، كحديث العيون المتقدم وموثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: خل الخمر يشد اللثة ويقتل دواب البطن ويشد العقل» وغيرهما. فإن الظاهر أن خلّ الخمر المشار إليه هو الذي ينقلب خلاً بعلاج، وإلا فكل خل لابد أن يمر بفترة يحمل بها عنصر الإسكار. كما أن الظاهر أن الخمر المستحكم لا ينقلب خلاً إلا بعلاج وأما حمله على الخل المتحول عن الخمر عند التخليل، في مقابل الخل المتحول عن غيره من أنواع المسكر، فبعيد، بل الظاهر أنه يطلق على ذلك خل العنب، لا خل الخمر. وحينئذ فمن الظاهر أن بيان الفوائد المذكورة لخل الخمر لا يناسب كراهة استعماله.

()()2

ولعله لذا كان الأظهر حمل موثق أبي بصير على التقية، لظهور بعض ما سبق من كلماتهم في أن حرمة ما ينقلب خلاً بعلاج هو قول العامة. نعم يبقى الإشكال في حديث العيون المتقدم.

وكيف كان فلا مجال للعمل بظاهر الحديثين، بل لابد من طرحهما لموافقتهما للعامة، أو لهجرهما عند الأصحاب، أو حملهما على الكراهة بقرينة النصوص الأول. فلاحظ.

هذا وفي المقام موثقان آخران لأبي بصير قد يظهر منهما التفصيل في المقام.

الأول: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخمر يصنع فيها الشيء حتى تحمض. قال:

********

ص: 349

(1)عيون أخبار الرضا ج: 2 باب: 31 حديث: 127 ص: 39.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 45 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 2.

إن كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فلا بأس به». ومقتضاه التفصيل بين كون المجعول في الخمر أكثر منها بحيث يغلب عليها وعدمه، فتحل في الأول وتحرم في الثاني.

()()1

لكنهم لم يتعرضوا للتفصيل بالوجه المذكور، ولا يظن من أحد البناء عليه، حيث يصعب جداً حمل النصوص المتقدمة عليه، لابتنائه على عناية تحتاج إلى تنبيه. بل هو لا يناسب صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه سئل عن الخمر تعالج بالملح وغيره لتحول خلاً. قال: لا بأس بمعالجتها». لما هو المعلوم من عدم كون الملح المعالج به أكثر من الخمر المعالجة.

()()2

ولعله لذا حمله الشيخ في التهذيبين على كون الغلبة بنحو لا توجب انقلاب الخمر، بل خفاء أثرها بسبب غلبة ما جعل فيها عليها، ثم حكم بأنه شاذ متروك الظاهر، لأن الخمر تنجس ما تقع فيه، فيحرم استعماله.

الثاني: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخمر يجعل خلاً، قال: لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يغلبها [يقلبها خ. ل]».

()()3

أما على نسخة (يقلبها) بالقاف - كما في الاستبصار وإحدى نسختي التهذيب -

فمقتضاه التفصيل بين أن يكون الانقلاب بجعل شيء يقلبها، وأن يكون بغيره كالإغلاء والخض.

لكن لا مجال لحمل نصوص الترخيص المتقدمة عليه بحيث يكون شاهد جمع بين الطائفتين لصعوبة حمل الطائفة الأولى على الانقلاب من دون وضع شيء فيها، لعدم معهوديته، بل لعله فرض لا واقع له.

ولخصوص صحيح أبي بصير المتقدم و صحيح عبد العزيز بن المهتدي: «كتبت إلى الرضا (عليه السلام): جعلت فداك العصير يصير خمراً فيصب عليه الخل وشيء يغيره حتى

********

ص: 350

(1)وسائل الشيعة ج: 17 باب: 45 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 11، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 11، 4.

يصير خلاً، قال: لا بأس به».

()()(1)

ومن ثم يتعين حمله على ما حمل عليه الحديثان الأولان - المقتصران في التحليل على ما إذا انقلب الخمر خلاً من قبل نفسه - من الكراهة - كما ذكره في الاستبصار - وغيرها مما تقدم.

وأما على نسخة (يغلبها) بالغين - كما في الكافي وإحدى نسختي التهذيب - فإن حمل على الغلبة من حيثية الأثر رجع إلى النسخة الأولى، وجرى فيه ما سبق.

وإن حمل على الغلبة في المقدار رجع إلى التفصيل بين ما إذا كان المحمول فيها أكثر منها بمقدار معتد به. بحيث يغلب عليه وتضمحل فيه وما إذا لم يكن كذلك، فتحلّ في الثاني دون الأول.

وقد حمله الشيخ (قدس سره) في التهذيب على ما إذا لم تنقلب خلاً حقيقة بوضع الشيء الكثير فيها، بل أوجب ذلك خفاء أثرها بسبب غلبة ما وضع فيها، مثل القليل من الخمر يطرح عليه كثير من الخل، فإنه يصير بطعم الخل من دون أن يصير خلاً، حيث لا يجوز استعماله، بعد فرض بقائه على الخمرية، بل ينجس ما وقع فيه.

ولا ينبغي الإشكال في التحريم حينئذ. لكن لا من أجل الموثق بعد عدم ثبوت النسخة المذكورة وعدم وضوح حملها على المعنى المذكور. بل من جهة القاعدة، إذ بعد فرض عدم الانقلاب فالخمر نجسة منجسة لما جعل فيها، فيحرمان معاً. وما عن أبي حنيفة من إجراء الاستحالة مجرى الانقلاب خال عن الشاهد، بل هو قياس مردود عليه.

نعم وقع الكلام بينهم في طهارة الخمر المذكورة وطهارة ما فيها إذا مر زمان تنقلب فيه تلك الخمر خلاً وعدمها. فقد صرح بالطهارة حينئذ الشيخ في النهاية والتهذيب والعلامة في المختلف، وحكي عن ابن الجنيد قال في النهاية: «وإذا وقع

********

ص: 351

(1)

وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 8.

شيء من الخمر في الخل لم يجز استعماله إلا بعد أن يصير ذلك الخمر خلاً».

وذكر في التهذيب أن علامة ذلك أن يصير ما بقي من ذلك الخمر ولم يصب في الخل خلاً. وعن المختلف تقريب ذلك بأن انقلاب الخمر الباقي الذي لم يصب في الخل خلاً يدل على تمامية استعداد الخل المذكور للانقلاب، المستلزم لانقلاب ما ألقي منه في الخل، لاتحاد مزاجهما. بل الثاني أولى بالإنقلاب بسبب ممازجته للخل.

وقد أنكر ذلك في السرائر والشرايع والنافع والدروس ومحكي التحرير والإرشاد وغيرها. وحمل في كشف اللثام ما ذكره ابن إدريس والفاضلين على أن ذلك منهم لعدم الطريق للعلم بانقلاب الخمر الملقى في الخل قال: «ولو فرض العلم به فالظاهر اتفاقهم على الحل والطهارة».

ولعل الوجه في عدم العلم بالانقلاب أن انقلاب الخمر غير المستهلك لا يستلزم انقلاب الخمر المستهلك، لامكان عدم تفاعل المستهلك بسبب تفرق أجزائه.

على أنه لو علم بانقلاب المستهلك أمكن الإشكال في الحل والطهارة من وجهين:

الأول: أن أدلة الإنقلاب مختصة لما إذا كان للخمر وجود عرفي، أما إذا لم يكن له وجود عرفي فلا موضوع للانقلاب ولا للحل والطهارة به. غاية الأمر أنه لا موضوع معه أيضاً للنجاسة والتحريم وذلك لا يكفي في دفع محذور تنجس الخل الذي وقع فيه وتنجس أوانيه وما يتعلق به، لانحصار دفع محذورها باستفادته من أدلة الانقلاب تبعاً، فمع فرض قصور أدلة الانقلاب لا دافع للمحذور المذكور.

الثاني: أنه لو فرض عموم مطهرية الانقلاب للخمر المستهلك في الخل، ولو لليقين بعدم الفرق، إلا أنه لا دليل على طهارة الخل المتنجس به وطهارة إنائه تبعاً. لاختصاص أدلة الطهارة بالتبع بما إذا كان المتنجس بالخمر تابعاً له، كالملح والخل الذين يعالجان به، والإناء الذي هو فيه، ولا تعم ما إذا لم يكن تابعاً له، فضلاً عما إذا كان الخمر تابعاً له ومستهلكاً فيه، كما هو المفروض في المقام.

ص: 352

(353)نعم لو تنجس بنجاسة خارجية، ثم انقلب خلاً لم تطهر (1)، على الأحوط وجوباً.

ودعوى القطع بعدم الفرق. مردودة على مدعيها، لأن مطهرية الانقلاب للخمر ولتوابعها تعبدية محضة، وليست عرفية، ليتسنى إدراك ملاكها بمقتضى المناسبات الارتكازية. ومن ثم يتعين البناء على بقاء النجاسة عملاً بالاستصحاب.

ثم إن مقتضى إطلاق نصوص علاج الخمر المتقدمة عدم الفرق بين العلاج بجسم يستهلك في الخمر قبل إنقلابها خلاً، والعلاج بجسم لا يستهلك، خصوصاً صحيح أبي بصير المتضمن العلاج بالملح، إذ كثيراً ما لا يذوب بعض الملح، فعدم التنبيه في النصوص للزوم استهلاك الجسم الذي يعالج به قبل الانقلاب يوجب ظهوره في طهارته تبعاً، كطهارة الإناء وآلات العلاج.

ومن ثم لا مجال لتنظر كشف اللثام في الطهارة حينئذ، ولا للتأمل فيها في محكي الكفاية ومجمع البرهان، فضلاً عن القول بعدم الطهارة، كما قد يحكي في المقام. بل قد يظهر من مجمع البرهان، حيث اعتبر في العلاج المطهر أن يكون بنحو الخل القليل. فلاحظ.

(1) كما في القواعد والدروس وعن الإرشاد والتحرير والمهذب البارع. لظهور النصوص في رفع الانقلاب لنجاسة الخمر به وحرمتها، من دون نظر للنجاسة والحرمة من جهة أخرى، كملاقاة النجس.

نعم ذكر غير واحد أن ذلك مبني على مضاعفة النجاسة، وأن الخمر تتنجس بملاقاة النجس. وقد أنكر ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) مدعياً أن الأعيان النجسة لا تتنجس بالملاقاة، ولا تقبل النجاسة العرضية. ومن ثم ذهب للطهارة في المقام.

لكنه يشكل بعدم الدليل على ذلك. بل الظاهر أنها تنجس. لعدم الفرق ارتكازاً في الانفعال بالنجاسة بين الطاهر والنجس، غاية الأمر أن النجاسة الذاتية أجلى وأتم،

ص: 353

فيغفل معها عن النجاسة العرضية، أما مع اختلاف النجاستين في الأثر فالمتعين ترتب أثر كل منهما. كما لو صلى في سراويل من جلد معتقداً تذكيته ناسياً ملاقاته للنجس، ثم ذكر ذلك وانكشف أنه ميتة، فإن المتعين بطلان الصلاة من جهة النجاسة المنسية وإن عفي عن مانعية الميتة للجهل بها.

بل ذلك منه (قدس سره) لا يناسب ما التزم به من أن إسلام الكافر إنما يطهره من نجاسة الكفر، دون النجاسة العرضية بسبب ملاقاته النجاسة حال كفره، وأنه لابد من تطهيره منها.

حيث لا يتم ذلك إلا بالبناء على أن نجاسة بدنه الذاتية بسبب الكفر لا تمنع من عروض النجاسة عليه بملاقاة النجاسة، نظير ما نحن فيه. بل يظهر منه ومن المفروغية عن ذلك، وإن الكلام إنما هو في استفادة الطهارة من النجاسة العرضية تبعاً للطهارة من نجاسة الكفر بالإسلام.

ويزيد في الإشكال ما ذكره من أن المتنجس إذا صار عين النجاسة ارتفعت نجاسته العرضية، وبقيت نجاسته الذاتية، وجرى حكمها لا غير.

إذ فيه: أنه لو كانت أقوائية النجاسة الذاتية موجبة لانصراف إطلاقات الانفعال، وقصورها عن الأعيان النجسة، بنحو يمنع من إثبات حدوث النجاسة العرضية لها، فلا مجال لذلك في المقام، لورود النجاسة العرضية على الطاهر، ودخوله في إطلاق أدلتها بالفرض، فيحتاج زوالها حين صيرورة المتنجس عين النجاسة إلى دليل، وهو مفقود، ويكفي في إحراز بقائها الاستصحاب.

ولا يظن منه دعوى امتناع اجتماع النجاستين بحكم العقل، ليتوجه عدم الفرق فيه بين الحدوث والبقاء، إذ لا مسرح للعقل في الأحكام الشرعية - كالطهارة والنجاسة - التي هي اعتبارات صرفة.

بل ذلك منه أيضاً لا يناسب ظهور مفروغيتهم عن بقاء نجاسة البدن بعد الموت، وإنما وقع الكلام بينهم في وجوب تطهيره منها قبل الشروع في التغسيل أو

ص: 354

يكتفى بإزالتها في أثناء الغسل.

وأشكل من ذلك ما رتبه عليه من طهارة العنب والتمر المتنجسين إذا صارا خمراً ثم انقلب الخمر خلاً، لأنهما بصيرورتهما خمراً ترتفع نجاستهما العرضية، وبانقلاب الخمر خلاً ترتفع نجاسة الخمرية. غاية الأمر أنه لابد من تبديل إنائهما حين صيرورتهما خمراً، لعدم الدليل على طهارة الإناء من النجاسة السابقة على الخمرية.

إذ فيه - مضافاً إلى ما سبق -: أن العنب والتمر إذا صارا خمراً يبقى بعض أجزائهما الكثيفة - كالنوى والقشور وغيرها - على حالتها الاصلية من دون أن تصير خمراً، فإذا فرض كونها متنجسة قبل صيرورتها خمراً تبقى على ذلك حال الخمرية، فتنجس الخل الذي ينقلب إليه الخمر، وأدلة الانقلاب إنما تقتضي طهارتها تبعاً من نجاسة الخمر، لا من النجاسة السابقة عليه المفروضة في المقام. إلا أن يقصر مفروض كلامه عن ذلك، بل يفرض فصلها عن الخمر قبل انقلابها خلاً، نظير ما ذكره في الإناء.

كما لا مجال لذلك في عصير العنب والدبس المتنجسين إذا صارا خمراً، ثم انقلب الخمر خلاً، حيث لا يبقى منهما شيء لا ينقلب خمراً.

لكن البناء على طهارتهما حينئذ - مع مخالفته للقاعدة التي سبق التعرض لها - من المستنكرات المتشرعية. ولو كان البناء عليه لظهر وبان، لشيوع الابتلاء بتنجس عصير العنب والدبس ونحوهما من السوائل السكرية، فلو كانا يطهران بذلك لشاع امكان الانتفاع بهما بالتخليل، لأنهما لا يصيران خلاً إلا بعد أن يصيرا خمراً. ومن ثم كان ما ذكره في غاية الإشكال.

هذا وقد استدل (قدس سره) على الطهارة في محل الكلام - مضافاً إلى ذلك - بإطلاق نصوص العلاج المتقدمة المقتضي لطهارة الخمر بالانقلاب وإن أصابتها نجاسة خارجية، لعدم التقييد فيها بأخذ الخمر من المسلم، بل يشمل ما إذا أخذت من كافر، مع ظهور أن الكافر - بل مطلق صناع الخمر - لا يتحفظ عليها من سائر النجاسات،

ص: 355

(356)وكما أن الانقلاب إلى الخل يطهر الخمر، كذلك العصير العنبي إذا غلا بناء على نجاسته (1)، فإنه يطهر إذا انقلب خلاً (2).

بل هي تتعرض عنده للنجاسة ولو من جهة الأواني أو يده النجسة أو المتنجسة.

لكن الاستدلال إن كان بإطلاق النصوص اللفظي، فمن الظاهر ورود النصوص لبيان أن الإنقلاب رافع للحرمة والنجاسة الخمرية، من دون نظر لما يقارنها، كالنجاسة العرضية والحرمة من حيثية الغصبية ونحوهما.

وإن كان بإطلاقها المقامي فهو موقوف على غلبة الابتلاء بالنجاسة العرضية مع غفلة العرف عنها، حيث يكون عدم التنبيه عليه حينئذ شاهداً بالطهارة منها تبعاً للنجاسة الخمرية، نظير ما يأتي في الأواني، ومن الظاهر عدم بلوغ الأمر هنا لذلك، حيث لا يغلب أخذ الخمر من الكافر وممن يتسامح في النجاسة، ولو تمت الغلبة فالغفلة عن النجاسة الحاصلة من الكافر بعد الإلتفات لنجاسته في غاية المنع. ولو تمت الغفلة فهي قد تبتني على الغفلة عن نجاسته، لا عن كونها سبباً في تنجس الخل الحاصل بالانقلاب، فلتجعل شاهداً على طهارة الكافر، لا على العفو عن النجاسة العرضية الحاصلة منه أو من غيره.

على أن ما ذكره يجري في الإناء أيضاً، لوضوح أن الكافر وصانع الخمر كما لا يتحفظان عليها من النجاسة العرضية لا يتحفظان على إنائها منها، مع أنه سبق منه التصريح بعدم العفو عن نجاسة الإناء من غير جهة الخمرية. ومن ثم كان ما ذكره من الاستدلال بالإطلاق في غاية الإشكال، بل المنع، ولا مخرج عما تقتضيه القاعدة المتقدمة.

(1) وإن كان الظاهر عدم تمامية المبنى المذكور، على ما تقدم في المسألة السابعة عشرة من فصل الأعيان النجسة.

(2) للإجماع بقسميه عليه، كما في الجواهر. وفي منظومة السيد الطباطبائي (قدس سره):

ص: 356

«والخمر والعصير إن تخللا

فباتفاق طهرا وحللا»

نعم في نهوض الإجماع المدعى بالاستدلال إشكال، بعد عدم تصريح جماعة من الأصحاب بذلك، بل ولا بنجاسة العصير، كما سبق، وبعد قرب ابتناء دعوى الإجماع على بعض الوجوه الاجتهادية في مبنى نجاسة العصير المذكور، ولم يتضح كونه إجماعاً تعبدياً مع قطع النظر عن ذلك. ومن ثم يتعين النظر في وجه الحكم المذكور مع قطع النظر عن الإجماع المدعى في المقام.

كما أن الظاهر أن الكلام في المقام لا يبتني على القول بالنجاسة، بل يجري حتى على القول بالحرمة مع الطهارة، لأن أدلة حرمة العصير بالغليان مع النجاسة أو بدونها قد تضمنت شرطية الحل بذهاب الثلثين، فيقع الكلام في أن صيرورة العصير خلاً هل تقوم مقام الغليان في تحليل العصير المستلزم لطاهرته لو كان نجساً، أو لا تقوم مقامه، بل يبقى على حرمته مع النجاسة أو بدونها. ولا يحتمل في المقام طهارة العصير بصيرورته خلاً من دون أن يحل، ليبتني الكلام في المقام على القول بالنجاسة.

إذا عرفت هذا فقد يستدل على طهارة العصير وحليته بالانقلاب خلاً بوجوه:

الأول: أن حرمة العصير ونجاسته لو قيل بها من سنخ حرمة الخمر أو متفرعة عليها، كما قد يظهر من الأدلة التي سيقت لبيان وجه نجاسة العصير، فكما أن حرمة الخمر ونجاسته ترتفع بانقلابه خلاً كذلك حرمة العصير ونجاسته لو قيل بها.

لكن ذلك غير ظاهر كما يظهر بمراجعة ما سبق منّا عند الكلام في دفع أدلة النجاسة التي سبق التعرض لها.

الثاني: أن طهارة الخمر وحليته بانقلابه خلاً تقتضي طهارة العصير وحليته بانقلابه خلاً بالأولوية، لأن الخمر أشد نجاسة وحرمة من العصير.

ويندفع بعدم وضوح منشأ الأولوية بعد عدم ثبوت كون نجاسة العصير وحرمته من سنخ حرمة الخمر ولا متفرعة عليها.

ص: 357

الثالث: ما دل من النصوص على طهارة الخل وحليته مما تضمن بيان فوائده وآثاره. فقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن الخل حيث لا يصير إلا بعد أن ينش العصير بنفسه ويغلي فالنصوص المذكورة تدل على أن صيرورة العصير خلاً رافعة لحرمته ونجاسته الحاصلتين من غليانه ونشيشه بنفسه، وحيث كانت الحرمة والنجاسة المذكورتان أكد من الحرمة والنجاسة الحاصلتين بالغليان بالنار تعين ارتفاع الحرمة والنجاسة الحاصلتان من الغليان بالنار بصيرورة العصير خلاً أيضاً.

()()1

وفيه: أن مجرد أشدية النجاسة والحرمة مع غليانه بنفسه من النجاسة والحرمة مع غليانه بالنار لا يقتضي زوال الأخيرتين بما تزول به الأوليان، وهو الانقلاب للخل، بل يمكن اختصاص كل منهما بمزيل إذا اقتضت ذلك الأدلة، فتزول الأوليان بالانقلاب للخل، لأنهما تابعان للإسكار الذي ينحصر التطهير معه بذهابه، وتزول الأخيرتان بذهاب الثلثين، عملاً بما دلّ على انحصار حله بذلك، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه». وبعبارة أخرى: ما ذكره (قدس سره) يرجع للاستدلال بالأولوية التي أنكرها.

()()2

نعم لو كان هناك دليل يقتضي حل الخل مطلقاً كان الإطلاق المذكور معارضاً للحصر المستفاد من مثل صحيح ابن سنان، وبعد تساقطهما يكون المرجع الأصل.

فإن قلنا بنجاسة العصير بالغليان كان مقتضى الاستصحاب بقاءه على النجاسة بعد صيرورته خلاً، فيحرم. وإن لم نقل بنجاسة العصير بالغليان - كما سبق أنه الحق - فمقتضى الأصل الحل، بناء على ما هو التحقيق من عدم جريان استصحاب الحرمة في مثل ذلك، لتعدد الموضوع، لأن موضوع الحرمة - كسائر الأحكام التكليفية - هو فعل المكلف، كاستعمال العصير في المقام، وهو كلي قابل للتقييد، والشك في بقاء الحكم

********

ص: 358

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 43، 44، 45 من أبواب الأطعمة المباحة.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(359) (السادس): ذهاب الثلثين بحسب الكم (1)، لا بحسب الثقل. فإنه

ملازم للشك في أخذ الحال السابق قيداً في الموضوع، ومع عدم جريان استصحاب الحرمة فالمرجع أصل الحل.

لكن يصعب تحصيل إطلاق يقتضي حل الخل في المقام، فإن النصوص التي أشار إليها بعض مشايخنا (قدس سره) ليست واردة لبيان حلية الخل، بل لبيان فوائده، والحث عليه من أجلها، وهي إنما تقتضي حليته في الجملة، نظير ما تضمن الحث على أكل اللحم والبيض وشرب الماء وغيرها من الأطعمة والأشربة ومن ثم لا مخرج عن مقتضى الحصر المتقدم.

اللهم إلا أن يقال: الحصر المذكور منصرف لبيان ما يحل به العصير بما هو عصير يطلب شربه من أجل حلاوته، فلا ينافي حلية المايع من دون أن يذهب ثلثاه إذا خرج عن كونه عصيراً وصار خلاً، ومع قصور الحصر المذكور عن ذلك يكون المرجع فيه أصل الحل بعد فرض طهارته. فلاحظ.

(1) يعني: الحجم والكيل. هذا ومن الظاهر أن ذهاب الثلثين بحسب الحجم والكيل أسبق من ذهابهما بحسب الوزن، لأن الذاهب بالنار والتبخير هو الأجزاء المائية، وهي أخف من الأجزاء السكرية الباقية.

وحينئذ لا مجال لاحتمال التحديد بالأعم من المساحة والكيل والوزن، كما في الجواهر والعروة الوثقى، إذ لا أثر للاحق مع تحقق السابق. ولأن المراد بالمساحة إن كان هو الحجم فهي عين الكيل، وإن كان خصوص السطح - كمساحة الثياب والأرض - فلا إشكال في عدم الاعتبار بها.

مضافاً إلى أن اختلاف التثليث باختلاف الجهات المذكورة ليس من سنخ اختلاف أفراد المفهوم الواحد، ليكون مقتضى الإطلاق الاكتفاء بأحدها، بل من باب اختلاف الأمر الإضافي باختلاف الجهة الملحوظة في الإضافة، وحيث يمتنع عرفاً

ص: 359

تعدد الجهة الملحوظة، فلابد من كون الملحوظ تعيينها إحدى هذه الجهات، واللازم الكلام في تعيينها لا غير.

ولا ينبغي التأمل في أن المنصرف من إطلاق التحديد بذهاب الثلثين في المقام هو التحديد بحسب الحجم والكيل، لأنه الذي يتيسر لعامة الناس التحديد به في مثل العصير المطبوخ، حيث يسهل معرفة مقدار عمق ثلثه قبل غليانه ثم يغلى كله حتى يبلغ ذلك العمق. وكذا إذا طبخ في مثل القدر، حيث يسهل غالباً معرفة المقدار الباقي فيه بقياس عمقه حتى في حال غليانه من أجل إنهاء تسخينه. ولا يسهل معرفة وزنه، لعدم تيسر الميزان لعامة الناس، خصوصاً في الكميات الكبيرة، ولصعوبة الوزن حال الغليان.

كما يناسب ذلك أيضاً ورود التحديد بالحجم والكيل في عصير العنب في غير واحد من النصوص ، إذ من البعيد جداً اختلاف المراد بذهاب الثلثين في المقام.

()()1

لكن قد يستفاد أن المعيار على الوزن من بعض النصوص منها: خبر منصور بن حازم عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: إذا زاد الطلاء على الثلث أوقية فهو حرام». فإن فرض زيادة الأوقية التي هي من الأوزان يناسب كون المعيار في التثليث الوزن.

()()2

وفيه - بعد تسليم عدم استعمال الأوقية في الكيل -: أن فرض الزيادة على الثلث أوقية لا ينافي كون المعيار في التثليث على الكيل.

على أنه روي بسند آخر عن منصور عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أيضاً: «قال: إذا زاد الطلاء على الثلث فهو حرام» ، بحذف (أوقية)، ومن القريب جداً كونهما رواية واحدة قد اختلف نقلها، والترجيح للثاني، لصحة سنده دون الأول. ولو فرض عدم المرجح تعين التوقف، وعدم ثبوت لفظ (أوقية)، المدعى قرينيته على إرادة الوزن.

()()3

********

ص: 360

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 27 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 27 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9، 8.

ومنها: صحيح عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في رجل أخذ عشرة أرطال من عصير العنب فصبّ عليه عشرين رطلاً ماء، ثم طبخهما على حتى ذهب منه عشرون رطلاً وبقي عشرة أرطال، أيصلح شرب تلك العشرة أم لا؟ فقال: ما طبخ على الثلث فهو حلال». لوضوح أن الرطل من الأوزان.

()()1

وفيه: أن الرطل وإن شاع استعماله في الوزن، إلا أنه قد يستعمل في الكيل - بل قد يدعى أنه الأصل له - كما تقدم في مسألة تحديد الكرّ بالوزن، ومن القريب إرادته في المقام، لعدم سهولة الوزن في الماء ونحوه من السوائل، نظير ما سبق.

ولو سلم إرادة الوزن منه فهو مذكور في كلام السائل، ولا إشكال في الحل معه، لما عرفت من أن ذهاب الثلثين بالوزن متأخر عن ذهابهما بالكيل، فظهور الحديث في الحلّ في مورد السؤال لا ينحصر بكون المعيار على الكيل. غاية الأمر أن يكون التعبير بالثلث في كلام الإمام (عليه السلام) مشعر بكونه من سنخ الثلث المفروض في السؤال من دون أن يبلغ مرتبة الحجة، فضلاً عن أن يخرج به عما سبق.

ومنها: خبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف ثم يترك حتى يبرد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه» فإن التحديد بالدانق يناسب كون المعيار في التثليث على الوزن.

()()(2)

وفيه: أن الدانق لا ينحصر بالوزن، بل الظاهر أنه السدس من كل شيء، كما يناسبه ما ذكره غير واحد من اللغويين من أنه سدس الدرهم والدينار، حيث لا جامع عرفي بينهما إلا مطلق السدس، ولأنه معرب كما عن المصباح. وذكر غير واحد من مشايخنا كما عن البرهان القاطع أنه معرب عن كلمة (دانك) بالفارسية، بمعنى السدس. بل هو المتعين بلحاظ مورد السؤال، لعدم فرض مقدار خاص فيه.

هذا مضافاً إلى ما تقدم في مبحث النجاسات عند الكلام في حل العصير

********

ص: 361

(1)

وسائل الشيعة ج: 17 باب: 8 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 9.

(362)مطهر للعصير العنبي إذا غلا بناءً على نجاسته (1). لكن تقدم أن ما طبخ بالنار طاهر وإن كان حرام الشرب، وما نش أو غلا بغيرها الأحوط وجوباً فيه النجاسة. والأحوط وجوباً في طهارته أن ينقلب خلاً كالخمر (2).

(السابع): الانتقال (3). فإنه مطهر للمنتقل إذا أضيف إلى المنتقل إليه وعدّ جزءاً منه (4)، كدم الإنسان الذي يشربه البق والبرغوث والقمل (5).

نعم لو لم يعد جزءاً منه أو شك في ذلك - كدم الإنسان الذي يمصه العلق -

بذهاب الثلثين من ضعف الخبر المذكور في نفسه، وظهور إعراض الأصحاب عن مضمونه. ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا أن المعيار في التثليث على الكيل.

(1) أما بناء على طهارته فهو محلل له بعد حرمته بالغليان، كما تقدم ذلك مفصلاً في المسألة السابعة عشرة من فصل الأعيان النجسة.

(2) تقدم الكلام في وجه ذلك مفصلاً في المسألة المذكورة.

(3) بلا خلاف أجده فيه ولا إشكال، كما في الجواهر، وفي الحدائق: «مما لا خلاف فيه ولا إشكال يعتريه»، وقريب من ذلك ما عن غيرهما، بل في الجواهر أنه في الجملة من الضروريات ويأتي تمام الكلام في وجهه.

(4) حيث يشمله إطلاق دليل طهارة المنتقل إليه، الشامل لهذا الجزء. وبه يخرج عن استصحاب نجاسة ذلك الأمر المنتقل.

نعم لو كان هناك إطلاق يقتضي نجاسة الأمر المنتقل حتى بعد الانتقال كان معارضاً للإطلاق المذكور، وبعد تساقطهما يكون المرجع استصحاب النجاسة. وكذا لو لم يكن هناك إطلاق يقتضي طهارة الأمر المنتقل إليه، فإن المرجع حينئذ إما إطلاق النجاسة أو استصحابها.

(5) حيث ينسب عرفاً للحيوان الذي امتصه لا للإنسان الذي أُمتص منه،

ص: 362

فيشمله ما تضمن من النصوص طهارة دم البق والبرغوث. بل لا ينبغي التأمل في طهارته في الجميع بمقتضى السيرة القطعية.

()()1

ثم إن هذا متجه إذا كان الدم الذي امتص قد خرج عن الإنسان أو نحوه بجرح أو نحوه، لنجاسته حينئذ، فيطهر بالانتقال المذكور. أما إذا امتصه الحيوان من جسد الإنسان رأساً فالظاهر خروجه عن محل الكلام، لعدم الدليل على نجاسة الدم في الباطن، ليكون الانتقال مطهراً له، بل من البعيد ذلك، إذ لازمه كون تخلف الدم في الذبيحة مطهراً له، وهو بعيد جداً، بل الأقرب طهارة الدم في الباطن وعدم نجاسته إلا بخروجه بجرح أو نحوه، وأن الدم المتخلف باق على الطهارة.

نعم إذا كان الدم دماً لنجس العين فهو نجس مطلقاً وإن لم يخرج، وتتوقف طهارته على إلحاقه عرفاً بالحيوان الذي امتصه.

هذا وقد قرب شيخنا الأستاذ (قدس سره) قصور الأدلة عن إثبات طهارة الدم الذي تمتصه في جوفها من دون أن يدخل في دورتها الدموية، لاختصاص النصوص بالدم الذي يدخل في دورتها الدموية، لأنه الذي يصح عرفاً نسبته لها، أما الذي تمتصه ويبقى في جوفها فهو منسوب للذي امتص منه، كما لو امتص أو أكل غيرها من الحيوانات دماً فإنه لا يصح أن ينسب له حتى يتحلل ويدخل في دورته الدموية، ولذا يحكم بنجاسته إذا قاءه.

وفيه: أنه ليس لهذه الحيوانات في عروقها دم ظاهر يطلق عليه عرفاً أنه دم، بل هي سوائل لا يصدق عليها الدم، فلابد من حمل النصوص المتقدمة على الدم الذي تمتصه حيث يكثر الابتلاء به إذ كثيراً ما تقتل وهو في جوفها، وهو مورد السيرة بسبب ذلك.

نعم لا يبعد عموم دم البراغيث في النصوص لما تفرزه بصورة الدم وهو في الحقيقة من فضلاتها، بل هو المتيقن من صحيح ابن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

********

ص: 363

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب النجاسات.

(364)(364)فهو باق على النجاسة (1).

(الثامن): الإسلام (2)، فإنه مطهر للكافر بجميع أقسامه (3)، حتى

ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس قلت إنه يكثر ويتفاحش. قال: وإن كثر». لكن يكفي إطلاق المطلق منها.

()()1

والحاصل: أن ما ذكره (قدس سره) يتم في الحيوانات الكبيرة إذا امتصت الدم كبعض الكواسر والحيات. ولا مجال لهذه الحيوانات عليها. فلاحظ.

(1) للاستصحاب الذي يجري حتى مع الشك في عدّ الدم من أجزاء الحيوان المنتقل إليه، حيث لا إطلاق حينئذ يحرز طهارته ليمنع من جريان الاستصحاب.

لكنه موقوف أولاً: على نجاسة الدم قبل الامتصاص، وثانياً: على اليقين بعدم استحالته، ولا إشكال في الثاني في دم العلق. وأما الأول فقد عرفت الكلام فيه، وأن المتعين التفصيل. وحينئذ لا مجال لاستصحاب النجاسة في صورة امتصاص الدم حال طهارته.

بل يتوقف البناء على النجاسة على عموم دليل نجاسة دم ما له نفس سائلة لصورة خروجه بتوسط العلق، وهو غير بعيد، إذ لا يبعد كون العلق عرفاً من سنخ آلة إخراج الدم وكون الدم الخارج بسببه كدم الجروح. فلاحظ.

(2) بلا خلاف أجده فيه ولا إشكال. كذا في الجواهر وحكى فيه عن المنتهى والذكرى وغيرهما الإجماع عليه، قال: «بل هو في الجملة من الضروريات». ويكفي فيه السيرة القطعية من عصر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى يومنا هذا.

(3) يعني: ممن يحكم بنجاسته. أما الطاهر فإسلامه لا يقتضي إلا ارتفاع كراهة مساورته ومباشرته، لعين ما سبق في الطهارة.

********

ص: 364

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(365)المرتد عن فطرة (1)

(1) كما في الذكرى والروضة وحكاه في الجواهر عن العلامة الطباطبائي والمحكي عن التحرير والموجز. بل قد يستفاد من إطلاقهم مطهرية الإسلام للكافر.

إلا أن يستفاد من إطلاقهم أنه لا توبة له عدم تحقق الإسلام منه، فيبقى على النجاسة، لعدم المطهر. ولعله لذا نسب في الجواهر النجاسة لصريح بعضهم وظاهر المعظم أو صريحه، حيث لا منشأ له ظاهراً إلا تصريح المعظم بأنه لا توبة له، بل في الخلاف وكشف اللثام الإجماع عليه. ولعله لذا تردد في نهاية الأحكام في مطهرية الإسلام له.

وكيف كان فيشهد للطهارة إطلاق ما دل على شرح الإسلام، وأنه الشهادتان، فإن مقتضاه تحقق الإسلام من المرتد الفطري، ومع تحقق الإسلام منه لا ينبغي الإشكال في ترتب أحكامه، ومنها طهارته إلا ما دل الدليل على عدم ترتبه، لما هو المعلوم من أن نجاسة الكافر منوطة حدوثاً وبقاء بالحكم بكفره، ولا تسري لحال إسلامه.

ويناسب ذلك ما في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: من كان مؤمناً فعمل خيراً في إيمانه، ثم أصابته فتنة فكفر، ثم تاب بعد كفره كتب له وحسب بكل شيء كان عمله في إيمانه، ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره». وبذلك يخرج عن استصحاب النجاسة، وإن تم موضوعه، لعدم تبدل الذات المحكومة بالنجاسة بالإسلام قطعاً.

()()(1)

هذا وقد استدل في الجواهر على النجاسة بما دل على عدم قبول توبته من الإجماع المدعى ممن سبق والنصوص. لكن الإجماع - لو تم - ليس بنحو ينهض بنفسه بالاستدلال بعد العلم أو الوثوق بابتنائه على النصوص وإرادة مضمونها. فاللازم

********

ص: 365

(1)

الكافي ج: 2 باب إن الكفر مع التوبة لا يبطل العمل حديث: 1.

الكلام في النصوص.

وجملة منها قد تضمنت أنه لا يستتاب، بل يقتل، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام): «سألته عن مسلم تنصر. قال: يقتل ولا يستتاب. قلت: فنصراني أسلم ثم ارتد. قال: يستتاب، فإن رجع وإلا قتل» ، وصحيح الحسين بن سعيد: «قرأت بخط رجل إلى أبي الحسن (عليه السلام): رجل ولد على الإسلام، ثم كفر وأشرك وخرج عن الإسلام، هل يستتاب أو يقتل ولا يستتاب؟ فكتب (عليه السلام): يقتل» وموثق عمار الساباطي: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام): يقول: كل مسلم بين مسلمين ارتد عن الإسلام وجحد محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبوته وكذبه فإن دمه مباح لمن سمع ذلك منه، وامرأته بائنة منه يوم ارتد، ويقسم ماله على ورثته وتعتد امرأته عدة المتوفى عنها زوجها، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه».

()()1()()2()()3

وهي ظاهرة في أن عدم الاستتابة من أجل عدم إغناء التوبة في دفع القتل كما في المرتد الملي، فلا ينافي تحقق التوبة منه بل وجوبها عليه عقلاً ونقلاً، فضلاً عن الإسلام.

نعم في صحيح محمد بن مسلم: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المرتد. فقال: من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد إسلامه فلا توبة له، وقد وجب قتله وبانت منه امرأته، ويقسم ما ترك على ولده». وإطلاق نفي التوبة له - بعد حمله على المرتد الفطري - يقتضي بدواً عدم ترتب الأثر عليها مطلقاً. لكن من القريب تنزيله على عدم قبول الناس لتوبته، بحيث تغني في دفع القتل عنه، كما تضمنته بقية النصوص.

()()4

فإن أمكن ذلك فهو، وإلا فمن الظاهر أن أثر التوبة هو رفع تبعة العمل، وتبعة الارتداد بحدوثه إنما هو العقاب الأخروي، ووجوب القتل وبقية الأحكام المذكورة في الصحيح، وهي لا تستلزم عدم صحة الإسلام بحيث لا يترتب عليه الأثر شرعاً

********

ص: 366

(1و2و3و4)

وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب حد المرتد حديث: 5، 6، 3، 2.

في الدنيا بالطهارة واحترام المال المستجد وصحة النكاح وحل الذبيحة ونحوها، وفي الآخرة بالنجاة من الخلود في العقاب.

غاية الأمر أن الإسلام المذكور لا يسقط آثار الارتداد الدنيوية والأخروية، فتترتب الأحكام المتقدمة في الدنيا، ويستحق العقاب عليه في الآخرة، من دون أن يستحق به الخلود، لأن الخلود إنما يستحق مع الموت على الكفر.

وبعبارة أخرى: عدم قبول التوبة منه، وعدم سقوط آثار الارتداد بها، لا يستلزم عدم تحقق الإسلام منه وعدم ترتب أثره عليه. بل هو خلاف إطلاق أدلة شرح الإسلام، وأدلة أحكامه وآثاره، من دون مخرج عنها. ومجرد وجوب قتله من أجل الارتداد لا ينافي إسلامه، كما لا ينافيه سائر الحدود الثابتة على المسلم.

وأظهر من ذلك عدم رجوع زوجته وأمواله إليه. إذ ليس من آثار الإسلام رجوع الزوجة البائنة، ولا ملكية ما خرج عن الملك حال الكفر.

من ذلك يظهر الإشكال في حمل الإجماع المدعى على عدم قبول توبة المرتد على عدم قبول إسلامه وعدم ترتب الأثر عليه. ولاسيما مع قرب كون معقد الإجماع مأخوذاً من النصوص المتقدمة التي ظاهر أكثرها عدم إغناء التوبة عن القتل لا غير، كما عرفت.

وأشكل من ذلك ما قد يظهر من بعضهم من عدم قابلية المرتد للتملك. حيث لا منشأ له حتى لو قلنا بعدم قبول إسلامه، لوضوح عدم اختصاص القابلية المذكورة بالمسلم. ومجرد الحكم بقسمة أمواله بالارتداد على ورثته إنما يقتضي خروج أمواله التي ملكها قبل الارتداد عن ملكه، من دون أن ينافي ملكيته لما يحصل عليه بعد ذلك بأسباب الملكية الشرعية. كما لا ينافي احترام تلك الملكية لو أسلم، بناء على ما سبق من قبول إسلامه.

غاية الأمر أنه لو لم يسلم لا احترام لملكيته حينئذ، بل يحق لكل أحد أن يستلب منه المال من دون خصوصية للوارث، كل ذلك عملاً بالقواعد العامة التي لا شاهد

ص: 367

(368)على الأقوى ويتبعه أجزاؤه كشعره وظفره (1) وفضلاته من بصاقه ونخامته وقيئه وغيرها (2).

على الخروج عنها في شيء من ذلك.

(1) بلا إشكال، وفي الجواهر أنه ينبغي القطع به. لأن طهارته إنما هي بطهارة أجزائه وهما منها، ولذا حكم بنجاستهما عند الحكم بنجاسته حال كفره. ومنه يظهر التسامح في التعبير بالتبعية في المقام.

(2) كلبن المرأة. ولا ينبغي التأمل في جميع ذلك بملاحظة السيرة.

وأما في الجواهر من الاستدلال عليه بصدق إضافتها إلى المسلم. ففيه: أنه لا دليل على طهارة ما أضيف منها إلى المسلم، لينظر في شمول إطلاقه للمقام. غاية الأمر أن ما أضيف منها للمسلم لا موجب لنجاسته، فيبقى على أصل الطهارة. وذلك لا يجري فيما تكوّن منها حال الكفر، وتنجس بملاقاة البدن النجس، وبقي متصلاً به بعد إسلامه وطهارته، حيث تحتاج طهارته تبعاً للدليل المخرج عن استصحاب النجاسة.

ومثل ذلك الاستدلال بحديث: «الإسلام يجب ما كان قبله». لظهوره في رفع تبعات الأعمال الصادرة من الكافر، ونجاسة الفضلات ليست منها، بل هي من الآثار الوضعية لملاقاة بدنه كحرمة ذبيحته، وبطلان زواجه من المسلمة ونحوهما.

()()(1)

وأشكل من ذلك ما يظهر من شيخنا الأستاذ (قدس سره) من كون الفضلات المذكورة من سنخ الأجزاء كالشعر والظفر. لوضوح أن الفضلات مباينة للبدن، وليست كالشعر والظفر. فالعمدة ما ذكرنا.

بقي في المقام أمران:

********

ص: 368

(1)

كنز العمال ج: 1 ص: 17 رقم الحديث: 243 وغيره من المصادر.

الأول: هل يحكم بطهارة ثيابه التي باشرها برطوبة حال كفره، أو مطلق ما باشره من متعلقاته كأوانيه وفراشه ونحوها؟ وجهان. قرب العدم في الجواهر، لخروجه عن المتيقن من السيرة.

(369)

لكن قد تقرب الطهارة بملاحظة السيرة، حيث لم يعهد أمر الكافر عند إسلامه بتطهير متعلقاته مع غلبة مباشرته لها برطوبة.

وأما ما يظهر من شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم نهوض ذلك بالاستدلال، وأنه من سنخ الظنون والاستحسانات التي لا تنهض بالحجية.

فهو كما ترى! لرجوع ذلك إلى الاستدلال بالسيرة المتصلة بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم) التي هي من أقوى الأدلة.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من احتمال كون عدم أمره بالتطهير في عصر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعدم تشريع النجاسات وأحكامها بعد، وفي العصور المتأخرة للبناء على بيان الأحكام له تدريجاً.

إذ فيه: أن نجاسة الكافر لو كانت مشروعة فهي من عصر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولو في أواخره، ومن الظاهر أن إسلام المشركين وغيرهم كان محل الابتلاء في جميع أيامه. كما أن بيان الأحكام تدريجاً بعده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو تم يقتضي بيان الحكم المذكور، بل أهمية الآثار المترتبة على طهارة المتعلقات تقتضي المبادرة لبيانها.

نعم الحكم المذكور لا موضوع له في اليهودي والنصراني والمجوسي بعد ثبوت طهارتهم، كما سبق. وأما المشرك فقد تقدم الإشكال في نجاسته، لعدم وضوح الدليل عليها، بل تقدم احتمال قيام السيرة على عدم تجنبه التي هي نظير السيرة المدعاة في المقام، وينحصر وجه البناء على نجاسته بالإجماع المدعى، الذي لو نهض برفع اليد عن دعوى تلك السيرة لنهض برفع اليد عن دعوى هذه السيرة، لأن المقامين من باب واحد.

ص: 369

(370)(370) (التاسع): التبعية. فإن الكافر إذا أسلم يتبعه ولده في الطهارة (1)، أباً

ولا يتضح لنا فعلاً أنه لو تم بناء المسلمين في الصدر الأول على نجاسة الكافر فهم يبنون على عدم وجوب تطهيره لمتعلقاته عند إسلامه، للبناء على طهارتها تبعاً. بل هو بعيد جداً، لعدم وضوح وجه ارتكازي للفرق بين متعلقاته وغيرها مما يباشره حال كفره، التي لا ريب في عدم طهارتها تبعاً. فلاحظ.

الثاني: قال في الجواهر: «أما لو كان بدنه متنجساً بنجاسة خارجية لم تبق عينها ففي طهارته بالإسلام وعدمها وجهان، أقواهما الأول، بناء على عدم تأثر النجس بالنجس، بل وعلى غيره، للسيرة وخلو السنة عن الأمر بذلك مع غلبته». وافقه عليه السيد الطباطبائي في العروة الوثقى وغير واحد من محشيها.

وهو ظاهر بناء على عدم تنجس النجس، كما سبق من بعض مشايخنا (قدس سره). ومن ثم لا يناسب ذلك بناءه على النجاسة في المقام، كما أشرنا إليه في آخر الكلام في مطهرية الانقلاب للخمر.

لكن سبق هناك ضعف المبنى المذكور. وحينئذ يتعين البناء على بقاء النجاسة بعد عدم المطهر. ومجرد عدم ورود الأمر به بالخصوص لا يشهد بالطهارة تبعاً، لكفاية الأمر بالتطهير عموماً من النجاسات العرضية بعد ارتكاز انفعال بدن الكافر وإن كان نجساً ذاتاً، واقتضاء إسلام من يسلم بطبعه تعلم أحكام الإسلام وتطبيقها. ومن ثم لا مجال لدعوى قيام السيرة على عدم التطهير.

بل كيف يمكن البناء على مساعدة السيرة والارتكازيات على عدم استنجاء من يسلم أو عدم تطهيره من مثل المني ودم الحيض ونحوهما مما يشيع الابتلاء به ولا يغفل عنه وعن نجاسته في الإسلام. بل يكاد يقطع بالبناء على التطهير في ذلك. ولا أقل من الشك الذي يتعين معه الرجوع للاستصحاب.

(1) للحكم بإسلامه بلا خلاف أجده - كما اعترف به غير واحد - ولا إشكال.

ص: 370

كان الكافر (1)، أم جداً (2)

كذا في الجواهر. ويشهد له خبر حفص بن غياث: «سالت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب، فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك. فقال: إسلامه إسلام لنفسه ولولده الصغار. وهم أحرار...». وضعف سنده منجبر بعمل الأصحاب، حيث أفتوا بما تضمنه من الأحكام، ومنها الحكم المتقدم.

()()1

مضافاً إلى ما ورد في بعض أحكام المسلم، كإعطاء أولاد المسلم من الزكاة. لشموله لأولاد من كان كافراً فأسلم، مع وضوح اعتبار الإسلام في مستحق الزكاة. هذا كله مع ظهور الإجماع على ذلك، وقيام السيرة عليه.

()()2

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الاستدلال عليه بقاعدة الطهارة، لأن المتيقن من دليل نجاسة ولد الكافر - وهو الإجماع، وعدم القول بالفصل بين المميز المظهر للكفر وغيره - حال ما قبل إسلام أحد أبويه أو جده، فالمرجع مع إسلامهم قاعدة الطهارة.

فهو مبني على مختاره من عدم جريان استصحاب النجاسة في الشبهة الحكمية، وحيث كان الظاهر ضعف المبنى المذكور، فالمتعين للرجوع في المقام لاستصحاب النجاسة الحاكم على أصل الطهارة.

فالعمدة ما سبق. ومنه يظهر أن تبعية الولد في المقام لأبيه ليست في الطهارة ابتداء، بل في الإسلام الذي من أحكامه الطهارة.

(1) فإنه المتيقن من النص والإجماع والسيرة.

(2) كما في العروة الوثقى وجملة من حواشيها قال سيدنا المصنف (قدس سره): «لا تبعد دعوى إطلاق النص بنحو يشمل الأب والجد». لكنه لا يخلو عن إشكال، فإن

********

ص: 371

(1)

وسائل الشيعة ج: 11 باب: 43 من أبواب جهاد العدو حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 6 من أبواب المستحقين للزكاة.

أم أماً (1)

عموم الأب للجد في الجملة وإن كان مسلماً، ولذا تترتب عليه أحكامه في النكاح، إلا أن شيوع إطلاقه في مقابل الجد مانع من الجزم بالإطلاق في المقام.

ودعوى: إن لازم ذلك عدم التبعية لو اسلم الجد وكان الأب ميتاً أو مفقوداً، مع أنه لا يظن التزامهم به. مدفوعة بأن التبعية في الإسلام في ذلك - لو تمت - قد تكون بملاك آخر غير الأبوة، وهو التبعية الخارجية التي قد يتعدى منها لسائر الأرحام إذا كان الطفل تابعاً له منقطعاً عمن هو الأقرب منه لموت أو فقد أو نحوهما، نظير ما يأتي في الأسير. ولا يجري ذلك في صورة وجود الأب وتبعية الولد له.

كما لا يتضح عموم الإجماع المدعى للمقام، بعد كون معقده الأب، الذي عرفت عدم وضوح عمومه للجد. ولاسيما مع قرب ابتنائه على الخبر المتقدم الذي سبق خروج الجد عن المتيقن منه.

وقد ظهر مما سبق أنه لا مجال لأصالة الطهارة هنا، خلافاً لما سبق من بعض مشايخنا (قدس سره)، بل المرجع هو الاستصحاب، معتضداً بارتكاز تبعية الولد لأبيه في أمثال هذه الأحكام.

نعم إذا كان تابعاً لجده منقطعاً عن أبيه - بموت أو غيبة أو نحوهما - فالظاهر التبعية في الإسلام والطهارة، نظير ما يأتي في الأسير.

(1) بلا خلاف أجده فيه كما في الجواهر. ومن الظاهر قصور النصوص المتقدمة عنه. ومن ثم فقد يستدل عليه تارة: بالإجماع المدعى. وأخرى: بما في الجواهر من قاعدة أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ومن لحوق الولد بأشرف أبويه في الحرية، ففي الإسلام أولى.

لكن التعويل على الإجماع المذكور لا يخلو عن إشكال، لعدم وضوح حال الحكم عند القدماء، خصوصاً الذين لا فتاوى لهم إلا ما يستفاد من روايتهم للأخبار. وأما

ص: 372

والطفل المسبي للمسلم، فإنه يتبعه في الطهارة (1)

من تأخر عنهم فإجماعهم - لو تم - قد يستند لبعض الوجوه الاعتبارية أو الاجتهادية، مثل ما تقدم في الجواهر.

وأما أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فهو - مع إرساله - أجنبي عن المقام، فإن العلو إنما يكون بالغلبة الظاهرة، أو بقوة الحجة، والمقام خارج عن الأمرين. على أن الغلبة فرع إحراز مقتضي التبعية في الأم، ليغلب أقوى المقتضيين، وهو أول الكلام.

وأما أولوية التغليب في المقام من التغليب في الحرية فهو غير ظاهر، ولاسيما أن التغليب في الحرية إنما كان في ابتداء وجود الولد وانعقاد نطفته، ونظيره التغليب في الولد المنعقد من أبوين أحدهما كافر والآخر مسلم، دون المقام، حيث يقع الكلام في أنه بعد الحكم بكفره تبعاً لأبويه هل يجره للإسلام إسلام الأم دون الأب؟

ومن ثم كان الحكم بالتبعية للأم في غاية الإشكال. ولاسيما أنه قد وقع في صدر الإسلام إسلام المرأة المزوجة وهجرتها، ولم يعرف الحكم بإسلام أولادها الصغار الذين لم يهاجروا.

وأشكل من ذلك التبعية للجدة لو أسلمت دون الأبوين والجد، كما يظهر من العروة الوثقى وحواشيها المشار إليها. نعم لا بأس بالإلحاق بالأم والجدة مع التبعية الخارجية، نظير ما تقدم في الجد، ويأتي في الأسير.

(1) وعن المعالم وشرح المفاتيح نسبته لظاهر الأصحاب. وقد يستدل عليه بأصل الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب مطلقاً كما في المدارك وعن المعالم - أو في الأحكام الشرعية في الشبهات الحكمية - كما تقدم من بعض مشايخنا (قدس سره) أو لأن نجاسته لما كانت بتبع أبويه، فمع ارتفاع التبعية المذكورة وتبعيته للآسر يرتفع موضوع الحكم بالنجاسة فلا يجري استصحابها.

لكن الظاهر جريان الاستصحاب في نفسه حتى في الأحكام الشرعية في

ص: 373

الشبهات الحكمية - كما حقق في محله - وعدم تبدل الموضوع بذلك، كما يظهر مما تقدم في أول الكلام في مطهرية الاستحالة.

ومثله الاستدلال بلزوم الحرج. فإن الحرج - لو تم وأطرد - لا ينهض برفع النجاسة ونحوها من الأحكام الوضعية، وإنما ينهض برفع التكليف لا غير. وربما يأتي ما ينفع في المقام.

هذا وعن الإسكافي والشيخ والقاضي تبعيته للآسر في الإسلام، فيظهر للحكم بإسلامه، لا للتبعية ابتداء، نظير ما تقدم في تبعيته للأب.

وقد يستدل عليه بأن الدين يثبت للأطفال تبعاً لارتباطهم خارجاً بالكبار، فمع ارتباط الطفل بأبويه يكون تابعاً لهما، ومع انفصاله عنهما وارتباطه بالآسر يكون تابعاً له. وحصر التبعية بالنسب مصادرة.

لكن ذلك بنفسه يحتاج إلى إثبات. لعدم دليل لفظي على التبعية، لينظر في مفاده وسعته. والإجماع لم نتحققه في المقام، بل لا مجال لدعواه بعد تصريح غير واحد بعدم التبعية في الإسلام، واقتصارهم على التبعية في الطهارة، كما هو المحكي عن ابن إدريس والعلامة وولده والكركي. وظاهر بعضهم التوقف.

ومثله الاستدلال بما تضمن أن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، بدعوى حمله على أن مقتضى الفطرة في الطفل الإسلام، وإنما يخرج عنه فيه مع كفر أبويه لتبعيته لهما، فمع انفصاله عنهما يرجع إلى مقتضى الفطرة.

إذ فيه: أن مقتضى ذلك إسلام الطفل حقيقة وإقراره بالعقائد الحقة عند مفارقة أبويه، وهو معلوم البطلان، ولا يمكن حمل الحديث عليه. كما لا نظر له إلى إسلام الطفل أو كفره حكماً وتبعاً.

بل هو ظاهر في أن الطفل لو بقي على فطرته لأختار الإسلام عند ما يعقل، لكن أبويه بتلقينهما له أصول الكفر تدريجاً، وبارتباطه بهما عصبية يكونان سبباً لتقبله

ص: 374

للكفر وإقراره به إذا عقل.

كما يناسبه ما في صحيح فضيل بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه قال: ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه، وإنما أعطى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذمة وقبل الجزية عن رؤوس أولئك بأعيانهم على أن لا يهودوا أولادهم ولا ينصروا وأما أولاد أهل الذمة [فأما الأولاد وأهل الذمة خ ل] اليوم فلا ذمة لهم». وحينئذ يكون أجنبياً عما نحن فيه.

()()1

فالعمدة في المقام: أنه لا ريب في شيوع الابتلاء من الصدر الأول بأولاد الكفار المنقطعين عن آبائهم - بموت أو غيبة أو ضياع أو غيرها - عند دخول الناس في الإسلام أفواجاً، فقد كانت القبائل الصغيرة والكبيرة وسكنة القرى والمدن تدخل الإسلام دفعة، وفي الفترات المتقاربة، ولا ينبغي التأمل في البناء على إسلام هؤلاء الأطفال تبعاً لمن يكفلهم من أرحامهم أو غيرهم. ولولا ذلك لظهر وبان، ولوقع الهرج والمرج ولكثر السؤال عن حكمهم وكيفية التعايش معهم ومعاملتهم، وحيث لا أثر لذلك في النصوص ولا في التاريخ، فالمتعين البناء على ما تقتضيه طبيعة المعاشرة والتعايش من إلحاقهم وتبعيتهم في الإسلام لمن يدير شؤونهم ويتولى تربيتهم ويحوطهم ويحضنهم من أم أو رحم - قريب أو بعيد - أو غريب.

نعم المتيقن من ذلك ما إذا لم يكن معهم من هو الأولى من الكافل والأقرب علقة به، فإذا كان الطفل في كفالة عمه أو رئيس عشيرته أو الذي تبناه وكانت معه أمه مثلاً، فأسلم الكافل وبقيت الأم على كفرها لم يحكم بإسلام الطفل.

وعلى ذلك يتجه البناء على تبعية الطفل الأسير للآسر في الإسلام، فإنه كسائر الكافلين بعد انقطاع الطفل عن أهله، وحينئذ يتعين البناء على طهارته، لأنها من أحكام الإسلام.

ومن جميع ما سبق يظهر أن الطفل يتبع أباه في الإسلام مطلقاً وإن انقطع عن

********

ص: 375

(1)

وسائل الشيعة ج: 11 باب: 48 من أبواب جهاد العدو حديث: 3.

(376)إذا لم يكن مع الطفل أحد آبائه (1). وكذا أواني الخمر، فإنه تتبعها في الطهارة إذا انقلبت الخمر خلاً (2)، وكذا أواني العصير إذا ذهب

أبيه ولم يكن في كفالته وحياطته، عملاً بإطلاق النص والفتوى. أما تبعيته لغير أبيه في الإسلام فهي موقوفة على كونه في كفالته وحياطته مع انقطاعه عن أهله الكفار ممن هو أقرب إليه من الكافل أو أسبق كفالة. فلاحظ.

(1) بل ولا أحد أقاربه الكفار ممن هو أقرب إليه من الآسر. بل حتى من هو أسبق حياطة له وإن كان أجنبياً. فإذا أسر الطفل اللقيط أو المدعى أو المتبنى مع من كان يكفله في بلاد الكفر كان تابعاً لكافله الكافر، لا للآسر المسلم. ويظهر الوجه فيه مما سبق.

(2) بلا إشكال، وإلا لم يكن حلّ الخمر بالانقلاب عملياً. مع أن العرف يغفل عن نجاسة الإناء، فسكوت النصوص عن التنبيه لنجاسته موجب لظهورها في طهارته تبعاً. ومن ثم قال سيدنا المصنف (قدس سره): «فإنها من ضروريات ما يستفاد من نصوص الطهارة بالانقلاب» مضافاً للسيرة القطعية على عدم تجنب الإناء.

وأما ما عن بعض من قارب عصورنا من اختصاص ذلك بما يلاصق الخمر المنقلب من أجزاء الإناء، دون ما فوقها مما نزل الخمر عنه تدريجاً بسبب جفافه، فضلاً عما أصابه الخمر من أجزاء الإناء العليا عند صب الخمر فيه أو عند علاجه بترشح أو نحوه، وأنه يلزم لأجل ذلك ثقب الإناء أو كسره حتى تخرج الخمر بعد انقلابها من أسفله، ولا يميل الإناء عند إخراجه لئلا ينجس ما فيه عند ملاقاة الأجزاء المذكورة. فهو غريب جداً، بعيد عن مفاد الأدلة.

بل ينبغي لأجل ما سبق البناء على طهارة ما يتبع الإناء ويتعارف الابتلاء به عند عملية الانقلاب، كغطاء الإناء، وما يجعل في الخمر من أجل علاجها، ونحو ذلك.

ص: 376

(377)ثلثاه (1) بناء على النجاسة مطلقاً (2). وكذا العامل المتشاغل بذلك وثيابه (3)، وكذا يد الغاسل للميت، والسدة التي يغسل عليها، والثياب التي يغسل فيها (4). فإنها تتبع الميت في الطهارة (5) وأما بدن الغاسل وثيابه

(1) لعين ما سبق في أواني الخمر.

(2) يعني: وإن غلا بالنار.

(3) لغلبة إصابة العصير له ولها قبل ذهاب الثلثين، فعدم التنبيه في النصوص على التطهير مع الغفلة عنه كاشف عرفاً عن طهارته تبعاً.

اللهم إلا أن يقال: ذلك موقوف على أن يكون انقلاب الخمر خلاً بالعلاج يتم حال انشغال المعالج بمباشرته للخمر بالنحو الملازم لإصابتها له قبيل الانقلاب.

أما إذا لم يكن الأمر كذلك، بل يحصل الانقلاب بعد ترك المعالج له مدة معتداً بها، فلا مجال للبناء على طهارته وطهارة ثيابه وآلات العلاج، لأن تركه له قبل الانقلاب يستلزم بناءه على نجاستها بطبعه بلا حاجة إلى تنبيه النصوص على ذلك، ليستفاد من إهمالها طهارتها تبعاً.

بل قد ينعكس الأمر، حيث تكون طهارة هذه الأمور تبعاً هي المحتاجة للتنبيه، ويكون إهمال النصوص التنبيه عليها شاهد بعدمها.

نعم يتجه ذلك في العصير عند ذهاب ثلثيه، لانشغال المعالج به وإصابته له حينئذ، فيتعين البناء على طهارة جميع ما يتعارف إصابة العصير له، كالعود الذي يقاس به ذهاب الثلثين، والملعقة التي يساط بها العصير، ونحوهما.

(4) وكذا الخرقة التي تستر بها عورته حين التغسيل.

(5) الظاهر أن طهارتها ليست بمجرد التبعية، بل لغسلها مع الميت عند غسله بالماء القراح، ولا مجال للبناء على طهارتها بدون ذلك. غاية الأمر أنه لا يشترط في طهارة الثياب والخرقة العصر إلا بعد الفراغ من التغسيل والاستغناء عنها، فلا تكون

ص: 377

(378)(378)وسائر آلات التغسيل (1) فالحكم بطهارتها تبعاً للميت محل إشكال (2).

(العاشر): زوال عين النجاسة عن بواطن الإنسان (3) وجسد

ملاقاتها له قبل العصر موجبة لنجاسته. وإلا فلو كانت ملاقاتها موجبة لنجاسته لتعذر تغسيله معها، فالسكوت في النصوص عن التنبيه لذلك موجب لاستفادة عدم انفعال بدن الميت ويد الغاسل بها. مضافاً إلى قيام السيرة على ذلك.

(1) لم يتضح المراد بالآلات المذكورة. إلا أن يراد بها ظاهر الإناء الذي يصب به الماء على الميت، حيث قد يمسه الغاسل بيده المتنجسة عند تغسيل الميت ومسه. لكن لم يتضح تعارف ذلك، بل لعل المتعارف تولي صب الماء شخص غير الغاسل مع انشغال الغاسل بمسح بدن الميت عند التغسيل من أجل استيعاب الماء لبدنه.

(2) لخروجها عن المتيقن من الدليل المتقدم. هذا وأما جريان ماء تغسيل الميت على مثل رجلي الغاسل فهو لا يكفي في طهارتهما لو تنجستا في أثناء التغسيل، لأنهما منفصلان عن الميت، وليستا من آلات التغسيل المتصلة به، فإذا أصابهما الماء بعد انفصاله عن الميت لم يطهرهما، لنجاسته.

(3) حيث لا يتوقف طهرها على غسلها بلا إشكال ظاهر واستظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، وفي الجواهر في ذيل الكلام في المطهرات أنه متفق عليه، بل قيل: إنه يمكن أن يكون من ضروريات الدين. انتهى.

ويقتضيه - مضافاً إلى ذلك، والى السيرة القطعية - ما ورد في الاستنجاء من الاكتفاء بغسل ظاهر المقعدة وعدم وجوب غسل الباطن ، وما تضمن عدم وجوب غسل باطن الأنف من الدم وغيرهما.

()()(1)()()(2)

********

ص: 378

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 29 من أبواب أحكام الخلوة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 248 من أبواب النجاسات.

الحيوان الصامت (1). فيطهر منقار الدجاجة الملوث بالعذرة بمجرد زوال عينها ورطوبتها. وكذا بدن الدابة المجروحة، وفم الهرة الملوث بالدم، وولد الحيوان الملوث بالدم عند الولادة بمجرد زوال عين النجاسة، وكذا

(1) فإنه لا يتوقف طهارته على غسله أيضاً، كما يتضح بملاحظة السيرة، لعدم بناء المتشرعة على الاهتمام بتطهيره عند إصابة النجاسة له مع شيوع الابتلاء بذلك.

مضافاً إلى ما تضمن طهارة سؤر جملة من الحيوانات مع القطع بتعرضها للنجاسة ولو حين ولادتها، حيث تتلوث بدم أمها، أو لكونها من الكواسر التي تأكل الميتة وغيرها من النجاسات، بل حتى غير الكواسر، حيث يكثر منها أكل المتنجسات وشربها، والتمعك في الأرض المتنجسة وغير ذلك. وكذا ما ورد في الفارة تقع في الدهن والماء وتخرج حية مع العلم بعدم تطهير موضع البول والغائط منها... إلى غير ذلك مما قد يعثر عليه المتتبع.

()()1

فإن النصوص المذكورة وإن كانت مسوقة لبيان الطهارة الذاتية في قبال النجاسة الذاتية الثابتة لمثل الكلب، إلا أن عدم التنبيه فيها للنجاسة العرضية مع كثرة الابتلاء بها موجب لظهورها في عدمها.

هذا وعن الفقيه الهمداني (قدس سره) احتمال ابتناء ذلك على ما لم يستبعده من عدم تنجيس المتنجس، فإن النصوص المتقدمة إنما تدل على عدم نجاسة ملاقي الحيوان، وهو أعم من عدم نجاسة الحيوان.

وفيه - مع أن التحقيق تنجيس المتنجس، كما تقدم -: أن السيرة قاضية باستعمال جلود الحيوانات وأصوافها وأشعارها فيما يعتبر فيه الطهارة كالصلاة، مع ما هو المعلوم من تعرضها للنجاسة، كما سبق.

ومثله ما قد يدعى من ابتناء ذلك على سقوط استصحاب النجاسة في

********

ص: 379

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الأسئار.

(380)يطهر باطن فم الإنسان إذا أكل شيئاً أو شربه بمجرد زوال عين النجاسة، وكذا باطن عينه عند الاكتحال بالنجس أو المتنجس. بل في ثبوت النجاسة لبواطن الإنسان وجسد الحيوان منع (1).

الحيوانات عند احتمال طروء المطهر لها، لا على طهارتها واقعاً بزوال عين النجاسة. ولعله لذا نسب لنهاية الأحكام عدم الحكم بطهارة بدن الحيوان إلا مع احتمال طروء المطهر عليه. وعن بعض مقاربي عصرنا الاحتياط بذلك.

إذ فيه: أنه لا يناسب ما هو المقطوع به من السيرة - ويقتضيه إطلاق النصوص المشار إليها آنفاً - من عدم تجنب الحيوان مطلقاً ولو مع العلم بعدم طروء المطهر عليه.

ومنه يظهر ضعف ما عن الموجز من الحكم بالنجاسة حتى يعلم بورود المطهر عليها، عملاً بإطلاق أدلة التنجيس، ودليل الاستصحاب. لوجوب الخروج عن الإطلاقين المذكورين - لو تما - بما سبق من السيرة والنصوص.

والحاصل: أنه لا ينبغي الإشكال في طهارة الحيوان واقعاً مع زوال عين النجاسة.

(1) كما احتمله في الجواهر، بل استظهر كون ذلك مراد الأصحاب، وإن أوهمت بعض العبارات خلافه.

وكيف كان فيقتضيه في بواطن الإنسان ما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) في فروع نجاسة البول من أنه لا إطلاق لأدلة الانفعال يشمل صورة الملاقاة في الباطن، وإنما هو مستفاد من الحكم بالانفعال في الموارد المتفرقة، وهي مختصة بالملاقاة في الخارج.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه يستفاد نجاستها من موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) فيمن يجد في إنائه فأرة، وفيه: «فقال: إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو

ص: 380

يتوضأ أو يغسل ثيابه، ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه، ويغسل كلما أصابه ذلك الماء، ويعيد الوضوء والصلاة». فإن مقتضى عموم قوله (عليه السلام):

()()1

«ويغسل كلما أصابه ذلك الماء» عموم انفعال ما يصيبه ذلك الماء وإن كان من الباطن.

نعم يختص ذلك بالباطن الذي فوق الحلق، كباطن الفم والأنف، أما الباطن الذي هو بمعنى الجوف - كالمعاء والمعدة - فلا إشكال في انصراف العموم عنه، والمتعين فيه الطهارة.

ويشكل أولاً: بقرب كون العموم مسوقاً لبيان نجاسة الفأرة، أو عدم العفو عن النجاسة المذكورة، بعد الفراغ عن حصولها، لا لبيان عموم الانفعال.

وثانياً: بأنه حيث كان الانفعال مستفاداً من الأمر في الموثق بالغسل، فمع عدم وجوب غسل الباطن - كما اعترف به - لا مجال لاستفادة عموم الإنفعال له من الأمر المذكور، كما اعترف بنظيره فيما إذا كانت النجاسة التي تصيب الباطن من الباطن، كدم الرعاف. ودعوى: أن رفع اليد عن المدلول المطابقي في الباطن - وهو وجوب الغسل - لا يستلزم رفع اليد عن المدلول الالتزامي، وهو تنجس الباطن.

ممنوعة، لتفرع الدلالة الالتزامية على الدلالة المطابقية، فمع كشف دليل التخصيص عن قصور المدلول المطابقي عن الباطن، وسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية فيه لا مجال لحجية الدلالة الالتزامية فيه.

وأما تفريقه (قدس سره) بين الباطن الذي فوق الحلق وغيره، فلا يتضح المنشأ له. غايته أن الانصراف فيه أقوى وأظهر.

وعلى ذلك لو وضع الإنسان في فمه شيئاً نجساً، فسال لعابه، لم يكن لعابه نجساً ولا منجساً لما يصيبه، لأن النجاسة التي في الفم لا تنجسه ولا تنجس اللعاب.

********

ص: 381

(1)

وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

وأما الحيوان فلنظير ما سبق في الباطن، لاختصاص أدلة الانفعال الواردة في الموارد المتفرقة بغيره. وعدم نهوض موثق عمار بالعموم له، لما سبق.

نعم مقتضى ذلك أنه لو أصيب الحيوان بنجاسة ويبست ثم ذكي قبل أن تزول عين النجاسة عنه أن لا يكون جسمه نجساً، بل يكتفي بزوال العين، كما نبّه له بعض مشايخنا (قدس سره)، لفرض عدم تنجسه بإصابة النجاسة مادام حياً، كما أنه لا ينجس بها بعد تذكيته، لفرض جفافها. وهو ما تأباه المرتكزات جداً. ومن ثم يقرب البناء على تنجسه بالملاقاة، وإن كان في بلوغ ذلك حدّ الفتوى إشكال.

هذا وقد تجعل ثمرة ذلك - كما أشار إليه في الجواهر - ما إذا أصابت النجاسة الحيوان، ثم لاقى موضعها جسماً طاهراً برطوبة، وشك في زوال عين النجاسة حين ملاقاة الجسم الطاهر. فعلى القول بتنجس الحيوان بملاقاة النجاسة يتعين البناء على نجاسة الملاقي، لاستصحاب نجاسة الحيوان، لفرض الشك في حصول المطهر له، وهو زوال عين النجاسة، وعلى القول بعدم تنجس الحيوان لا مجال للبناء على نجاسة الملاقي، لفرض طهارة الحيوان الملاقي له، والشك في ملاقاته للنجاسة التي لاقته، لاحتمال زوالها قبل ذلك، واستصحاب بقائها على الحيوان لا يحرز ملاقاتها إلا بناء على الوصل المثبت.

لكن يشكل ذلك من وجهين:

الأول: ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن ظاهر بعض النصوص عدم جريان الاستصحاب في الحيوان ففي موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا توضأ منه ولا تشرب» حيث تضمن اعتبار رؤية الدم في حرمة السؤر. غاية الأمر أن يتعدى من الرؤية لغيرها من أسباب العلم، للقطع بإلغاء خصوصية الرؤية، ومقتضى ذلك الحكم بطهارة ملاقي الحيوان ما لم يعلم بوجود عين النجاسة، وهو ملازم لعدم

()()(1)

********

ص: 382

(1)

وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الأسئار حديث: 2.

جريان استصحاب النجاسة في الحيوان.

إن قلت: التعدي من العلم لكل محرز غير عزيز، فإن نصوص قاعدة الطهارة مطلقاً وفي خصوص الماء قد تضمنت أخذ العلم بالنجاسة في رفع اليد عن الطهارة الظاهرية، مع عدم الإشكال بينهم في جريان استصحاب النجاسة، وتقديمه على قاعدة الطهارة، وذلك لأن المستفاد من الأدلة كون أخذ العلم بنحو الطريقية، لا بما هو صفة خاصة. ولذا لا إشكال ظاهراً في قيام البينة على وجود النجاسة مقام العلم به في المقام.

()()1

قلت: هذا إنما يقتضي الاكتفاء بإحراز بقاء عين النجاسة ولو بغير العلم، كالبينة والاستصحاب، ولا يقتضي جريان استصحاب نجاسة الحيوان مع الشك في بقاء عين النجاسة من دون محرز له، كما هو المفروض في المقام، لفرض عدم البينة، وعدم جريان استصحاب بقاء عين النجاسة، لأنه مثبت، كما سبق.

إن قلت: بناء على تنجس جسم الحيوان، وطهارته بزوال عين النجاسة، يجري استصحاب بقاء عين النجاسة وعدم زواله، لا من أجل إحراز ملاقاة الجسم الطاهر له، ليبتني على الأصل المثبت، كما سبق، بل من أجل إحراز بقاء نجاسة جسم الحيوان، لأن استصحاب عدم المطهر يحرز بقاء نجاسة المتنجس.

قلت: لما لم تكن مطهرية زوال عين النجاسة مستفادة من دليل لفظي، بل من دليل لبي، أشكل جريان الاستصحاب المذكور، لأن الأدلة اللبية لا تنهض غالباً بتحديد موضوع الأثر بعنوانه، لينفع استصحابه في إحراز الأثر، بل مجرد التلازم بينهما خارجاً. فتأمل جيداً.

مع أن ذلك لا يناسب الموثق، حيث اقتصر في البناء على نجاسة السؤر على العلم بوجود عين النجاسة حين شرب الحيوان، ولم يكتف بالعلم بوجوده على المنقار ولو سابقاً من دون علم بارتفاعه.

********

ص: 383

(1)

راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق، وج: 2 باب: 37 من أبواب النجاسات.

(384)بل كذا المنع في سراية النجاسة من النجس إلى الطاهر إذا كانت الملاقاة بينهما في الباطن، سواء أكانا متكونين في الباطن - كالمذي يلاقي البول في الباطن (1) - أو كان النجس متكوناً في الباطن. والظاهر يدخل إليه - كماء الحقنة، فإنه

إن قلت: لِمَ لا يستصحب بقاء عين النجاسة من أجل إحراز نجاسة السؤر، كما تضمنه الموثق؟

قلت: الموثق لم يتضمن أخذ بقاء عين النجاسة في موضوع نجاسة السؤر، لينفع استصحاب بقاء عين النجاسة في إحراز حكمه، وهو نجاسة السؤر، بل تضمن كون العلم بوجود عين النجاسة مانعاً من البناء على طهارة السؤر، ولا معنى لاستصحاب العلم.

على أنه لو استفيد من الموثق إناطة نجاسة السؤر واقعاً بوجود عين النجاسة فمن القريب جداً رجوعه إلى أن المنجس حينئذ ملاقاة عين النجاسة، وقد سبق أن استصحاب بقاء عين النجاسة لا يحرز ملاقاته إلا بناء على الأصل المثبت. فلاحظ.

الثاني: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم جريان استصحاب نجاسة الحيوان، للعلم بعدم استناد الأثر - وهو نجاسة الملاقي - لنجاسة الحيوان، إذ مع زوال عين النجاسة فالحيوان طاهر لا ينجس الملاقي له، ومع بقائه تستند نجاسة الملاقي لملاقاته، لأنها أسبق من ملاقاته لجسم الحيوان.

لكن ذلك إنما يتم فيما إذا كان لعين النجاسة جرم مانع من ملاقاة جسم الحيوان بحيث لا يلاقي الملاقي جسم الحيوان إلا بعد ملاقاته لعين النجاسة، ولا يجري في مثل الرطوبة المائية التي لا تمنع من ملاقاة عين النجاسة رأساً. كما لعله ظاهر.

(1) لقصور أدلة الانفعال عن مثل الملاقة المذكورة. نعم هذا موقوف على عموم نجاسة الأعيان النجسة - كالبول والغائط والدم - لما إذا لم تخرج للظاهر. وهو لا يخلو عن خفاء، لقصور أدلة نجاستها أو انصرافها عن ذلك، ومقتضى الأصل

ص: 384

(385)لا ينجس بملاقاة النجاسة في المعاء (1) - أم كان النجس في الخارج كالماء النجس الذي يتمضمض به فإنه لا ينجس الريق (2)، وكذا إذا كانا معاً متكونين في الخارج ودخلا وتلاقيا في الداخل (3)، كما إذا ابتلع شيئاً طاهراً وشرب عليه ماءً نجساً فإنه إذا خرج ذلك الطاهر من جوفه حكم عليه بالطهارة (4). نعم في جريان الحكم الأخير في الملاقاة في باطن الفم إشكال (5).

(الحادي عشر): الغيبة (6).

الطهارة. وحينئذ لا يكون عدم انفعال الطاهر بها مستثنى من عموم الانفعال، بل خارج عنه موضوعاً.

(1) يجري فيه ما سبق.

(2) لما سبق من قصور أدلة الانفعال عن مثل هذه الملاقاة.

(3) لا يخلو ذلك عن إشكال، لعدم وضوح دخل خصوصية الظرف في الانفعال، بحث يفرق بين كون الملاقاة في الباطن وكونها في الظاهر، خصوصاً إذا كان الباطن فوق الحلق. بل يصعب جداً البناء على عدم الانفعال في مثل ما إذا كان أحد الإصبعين نجساً والآخر طاهراً فتلاقيا برطوبة في الفم ثم أخرجا منفصلين.

نعم إذا كان أحد الأمرين من توابع الباطن عرفاً - كالأسنان الصناعية، وكساء الأسنان من بعض المعادن أو غيرها، وما تشد به الأسنان من خيوط الذهب أو نحوها - فالظاهر كونه بحكم الباطن، لغفلة العرف عنه مع كثرة الابتلاء به من الصدر الأول. ولا أقل من خروجه عن المتيقن من أدلة الانفعال، فيرجع فيه لأصل الطهارة.

(4) عرفت الإشكال في ذلك.

(5) لما أشرنا إليه من أن الإشكال المتقدم فيه أظهر.

(6) لا يخفى أن مطهرية الغيبة ليست على نحو مطهرية ما سبق، فإن الحكم

ص: 385

فإنها مطهرة للإنسان (1)

بالطهارة معها ظاهري، خروجاً عن استصحاب النجاسة، مع تبعية الطهارة الواقعية لحصول أحد المطهرات الأخر.

(1) الظاهر أن مراده (قدس سره) الإنسان المسلم، لأن ذلك هو موضوع كلماتهم في المقام، ومنها ما في العروة الوثقى وجرى عليه سيدنا المصنف (قدس سره) في تعقيبه.

بل أخذ في الجواهر التكليف في موضوع المسألة قال: «فيحكم بطهارة بدن المسلم منه المكلف مع الغيبة عنه، وعلمه بالنجاسة، وتلبسه بما يشترط فيه الطهارة. بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل حكى الإجماع عليه بعض شراح منظومة الطباطبائي». خلافاً للمفاتيح، فجزم بعدم الاكتفاء بذلك، وتردد فيه في المدارك ومحكي مجمع البرهان.

وكيف كان فقد يستدل عليه بوجوه:

الأول: الإجماع المدعى ممن سبق، وهو الظاهر مما عن تمهيد القواعد. وفيه: أنه لا مجال لدعوى الإجماع في مثل هذه المسألة التي لم تحرر في كلمات قدماء الأصحاب بوجه معتد به، وإنما تعرض لها المتأخرون، على كلام منهم فيها وفي حدودها ودليلها.

الثاني: ظهور حال المسلم في التنزه عن النجاسة. وفيه - مع أنه غير مطرد، ولاسيما في غير المتحرج - أنه لا دليل على حجية الظهور المذكور.

ودعوى: استفادة حجيته من فحوى ما دل على حجية إخبار ذي اليد. ممنوعة، لابتناء الأخبار على عناية تبعد معها الغفلة، بخلاف ظهور الحال، فإن الغفلة في الأقوال أبعد منها في الأحوال والأفعال. مع أن الظاهر اختصاص حجية قول صاحب اليد بصورة عدم التهمة، وفي اشتراط ذلك هنا كلام.

الثالث: أصالة الصحة في عمل المسلم. وفيه: أن مرجع أصالة الصحة في عمل المسلم إلى حمل عمله على عدم العصيان ولو مع الغفلة عن واقع الحال، لا على مطابقة

ص: 386

عمله للواقع.

نعم قد يراد بأصالة الصحة مطابقة العمل للواقع المشروع، بحيث يترتب عليه الأثر المطلوب منه. وهو حينئذ لا يختص بالمسلم، ولا بما يتعلق به، فلو توضأ بماء في الطريق يحكم بصحة وضوئه.

لكن لابد معه من عمل تتوقف صحته على الطهارة، كالصلاة في الثوب، والوضوء بالماء. وهو غير معتبر في المقام، بل غاية ما يقال باعتباره هو معاملته للشيء معاملة الطاهر، ولو بمثل مباشرته للماء ولبسه للثوب الذي من شأنه أن يصلي فيه.

مع أن أصالة الصحة إنما تحرز تحقق الشرط من حيثية صحة العمل وإجزائه لا مطلقاً، بحيث تترتب جميع آثاره ولو كانت أجنبية عن العمل، فمن توضأ بماء يحكم بطهارة ذلك الماء من حيثية صحة وضوئه، لا مطلقاً، بحيث يصح لغيره الوضوء ببقيته، أو شربها، لو كان مستصحب النجاسة.

الرابع: لزوم الحرج لولا ذلك. وفيه: أن الحرج - مع عدم إطراده - لا يقتضي التعبد بالطهارة واقعاً ولا ظاهراً، بل غاية ما يقتضيه هو جواز الارتكاب تكليفاً.

إلا أن يراد بذلك لزوم الحرج بنحو يؤدي إلى الهرج والمرج، المستلزم لكثرة السؤال عن حلّ المشكلة من المعصومين (صلوات الله عليهم)، وحيث لم يظهر ذلك كشف عن البناء على الطهارة. وهو حينئذ راجع إلى السيرة التي استدل بها غير واحد في المقام.

ولا ينبغي التأمل فيها بلحاظ ما هو المعلوم من تعرض كثير من الأمور للنجاسة، كاللحوم عند ذبحها وسلخها، وكالثياب والأواني عند غسلها أو غيره من الحالات، مع أنهم لا يسألون عن تطهيرها إذا تعرضوا للتناول منها أو استعمالها، ولا يفحصون عن ذلك من أجل احتمال عدم التطهير غفلة أو تسامحاً أو تعمداً. بل لو أريد السؤال عن ذلك والفحص عنه لكان من المستنكرات التي يحمل صاحبها على الشذوذ أو الوسواس.

ص: 387

وثيابه وفراشه وأوانيه وغيرها من توابعه (1)، إذا احتمل حصول الطهارة لها (2) من باب الاتفاق (3)، وكان يستعملها فيما يعتبر فيه الطهارة (4)،

والحاصل: أن السيرة في الجملة من الواضحات، وإن وقع الكلام في حدودها سعة وضيقاً، وهو ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

(1) كطعامه الذي يقدمه لأضيافه. وقد قرب العموم لجميع ذلك في الجواهر ومحكي كشف الغطاء. بل عممه في الثاني للأماكن والمساكن. ولا ينبغي التأمل فيه بملاحظة السيرة التي عرفت أنه عمدة أدلة المقام. بل وكذا غيرها مما استدل به هنا كما يظهر بملاحظته.

نعم قد لا تتحقق في بعضها الشروط الآتية، كالفراش والأماكن والمساكن، فإن استعمالها في ما يعتبر فيه الطهارة نادر، أو هو فرض غير واقع.

(2) يعني بأحد المطهرات المعهودة. أما إذا علم بعدم ذلك فلا إشكال في البناء على نجاستها، لما أشرنا إليه آنفاً من أن مطهرية الغيبة ظاهرية لا مجال لها مع العلم بعدم حصول المطهر واقعاً.

(3) الظاهر أن مراده ولو من باب الاتفاق كما هو المصرح به في مختصر المنهاج. وإلا فلا إشكال في الاكتفاء باحتمال التطهير عن قصد وعمد مع العلم بعدم التطهير اتفاقاً من دون ذلك.

(4) كما في العروة الوثقى وتقدم من الجواهر ذكره في بيان معقد الإجماع. والظاهر أن مرادهم بذلك أن يتعامل معها تعامله مع الطاهر، إما باستعماله فيما يشترط فيه الطهارة شرعاً - كالسجود عليه، والوضوء أو الشرب منه، وتقديمه لأن يؤكل أو يشرب - وإما باستعماله فيما لا يستعمل فيه النجس عادة، كطبخه للحم الذي كان متنجساً، وغمسه يده التي كانت متنجسة في الماء الذي من شانه أن يشرب أو يتوضأ منه. لعموم السيرة لهما معاً بلا إشكال، فمن البعيد جداً أن يريدوا الجمود

ص: 388

(389)وإن لم يكن عالماً بالنجاسة (1)

على مفاد العبارة المتقدمة.

لكن استظهر في الجواهر العموم لما إذا لم يكن متلبساً بما يشترط فيه الطهارة، وحكاه عن جماعة. فإن أراد عدم اعتبار استعماله فيما يشترط فيه الطهارة شرعاً، والاكتفاء بتعامله معه تعامله مع الطاهر رجع لما ذكرنا.

وإن أراد عدم اعتبار ذلك أيضاً، والاكتفاء بكونه في حوزته ومن توابعه. فهو ممنوع جداً لا شاهد عليه من السيرة ولا من غيرها. بل مقتضى السيرة عدم الحكم بالطهارة مع الالتفات لسبق تنجسه حتى يتضح الحال، عملاً بمقتضى الاستصحاب.

نعم لا إشكال في بناء المتشرعة بدواً على معاملة الأمور المذكورة معاملة الطاهر. لكن المتيقن منه ما إذا لم يعلم بسبق نجاستها أو غفل عن ذلك، حيث لا إشكال في أن مقتضى الأصل فيها الطهارة، ولم يعلم بناؤهم على الطهارة مع العلم بسبق نجاسة الشيء والإلتفات لذلك، لينحصر الوجه فيه في مطهرية الغيبة، وينفع فيما نحن فيه.

(1) كما هو مقتضى إطلاق بعضهم قال السيد الطباطبائي في منظومته:

واحكم على الإنسان بالطهارةوهكذا ثيابه وما معه

مع غيبة تحتمل الطهارةلسيرة ماضية متبعه

وقواه في الجواهر، وأصرّ عليه غير واحد ممن تأخر عنه. لدعوى عموم السيرة المذكورة، فقد قربه بعض مشايخنا (قدس سره) بأن التأمل في سيرة الأئمة (عليهم السلام) وتابعيهم في عصرهم يناسب عمومها، لأنهم كانوا يساورون المخالفين مع أنهم كانوا لا يرون نجاسة بعض الأمور المعلومة النجاسة عندنا، أو يرون مطهرية ما ليس مطهراً عندنا، كالتمسح لموضع البول والدبغ للميتة.

لكن في كفاية ذلك في إثبات عموم السيرة إشكال، لعدم وضوح حصول العلم

ص: 389

(390)أو كان متسامحاً في دينه (1).

(الثاني عشر): استبراء الحيوان الجلال، فإنه مطهر له من نجاسة الجلل (2).

بسبق تنجس ما يساورونه منهم. غاية الأمر غلبة تعرضه للنجاسة، أو العلم إجمالاً بحصول النجاسة لأبدانهم وأمتعتهم. والأول لا يزيد على الظن، الذي لا يمنع من الرجوع لأصالة الطهارة. والثاني لا ينهض بتنجيز احتمال النجاسة في مورد المساورة بعد خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء.

وكذا لو فرض العلم في مورد بتعاقب الحالتين من الطهارة والنجاسة مع الجهل بالتاريخ، حيث يسقط استصحاب النجاسة حينئذ، ويكون المرجع أصل الطهارة. وإنما ينفع في إحراز عموم السيرة ما لو فرض الابتلاء بما يعلم بسبق نجاسته عندنا، ويشك في ورود المطهر عليه، كاللحم الذي يتعرض للتنجيس حين الذبح والسلخ لو علم أو احتمل طهارته عندهم، وهو غير معلوم الحصول، لأن الظاهر اتفاقهم معنا في نجاسة مثل ذلك. ولو فرض حصوله فهو ليس من الكثرة بحيث يعلم بابتلاء المؤمنين به وإلتفاتهم إليه، وتسامحهم فيه اكتفاء بالاحتمال، لينفع في إحراز عموم السيرة لذلك، بنحو تتصل بعصور المعصومين (عليهم السلام)، ويستكشف إمضاؤهم لها.

(1) لا ينبغي الإشكال في عموم السيرة للمتسامحين في دينهم. لشيوع الابتلاء بمخالطتهم ومساورتهم بمثل الأكل من طعامهم والشرب من شرابهم، ونحو ذلك، من دون توقف ولا نكير.

(2) قد يوهم هذا ذهابه (قدس سره) إلى نجاسة الحيوان الجلال. لكن الظاهر أنه لا يريد ذلك، حيث لم يتقدم منه (قدس سره) عدّ الجلال من الأعيان النجسة، كما لا دليل عليه. وغاية ما تقدم منه ومنا نجاسة عرق الإبل الجلالة، أو عرق كل حيوان جلال. وهو لا يستلزم ذلك.

ص: 390

(391)والأقوى اعتبار مضي المدة المعينة له شرعاً (1).

نعم تقدم أن الجلل في الحيوان موجب لحرمة أكل لحمه، فينجس بوله وخرؤه. وحينئذ إذا خرج الحيوان بالاستبراء عن الجلل تعين طهارة عرقه، وخرئه وبوله إذا كان مأكول اللحم، لخروجه عن موضوع النجاسة.

ومنه يظهر أن عد الاستبراء من المطهرات يبتني على نحو من التسامح، لأنه لا يطهّر النجس بعد اتصافه بالنجاسة، كغسل الثوب وإسلام الكافر وانقلاب الخمر خلاً، بل يوجب خروج الشيء عن موضوع النجس ابتداء، كإسلام الكافر بالإضافة إلى ولده المتكون منه بعد إسلامه.

(1) وقع الكلام بينهم تارة: في معيار صيرورة الحيوان جلاّلاً. وأخرى: في استبراء الجلال، وخروجه عن الجلل حكماً أو موضوعاً. فينبغي الكلام في مقامين:

المقام الأول: في ما يصير به الحيوان جلالاً. وهو إنما يكون بالتغذي بعذرة الإنسان - كما تقدم في مبحث نجاسة البول والغائط، لا بفضلة غيره مما لا يؤكل لحمه، فضلاً عن بقية النجاسات.

وإنما الكلام في مدة التغذي بها. وفي الجواهر: «ذكر غير واحد أن النصوص والفتاوى المعتبرة خالية عن تعيين المدة التي يحصل فيها الجلل».

واحتمال استفادتها من مدة الاستبراء - لو تم تحديدها - لا شاهد له. فإن مجرد ارتفاع أثر الجلل بمدة معينة لا يلزم توقف تحققه عليها. كما لعله ظاهر.

ومثله ما عن المحقق الثاني (قدس سره) قال: «ويرجع في كونه جلالاً إلى العرف، وقدره بعض المحققين بيوم وليلة. وهو قريب، كما في الرضاع، لأنه أقصر زمان الاستبراء».

وكذا ما ذكره وجهاً في المقام، وهو أن ينبت من العذرة لحمه ويشتد عظمه، لأنه يصير بذلك جزء عضو له. وما استقر به في المسالك من أن تظهر رائحة العذرة في لحمه وجلده.

ص: 391

فإن ذلك كله خال عن الشاهد، وما أشير إليه في كلماتهم لا يصلح شاهداً.

ومن ثم قوى في الرياض الرجوع فيه للعرف، لأنه المحكم فيما لم يرد به من الشرع تعيين أصلاً، وعلى ذلك جرى بعض مشايخنا (قدس سره).

لكنه يشكل أيضاً بما أشار إليه في الجواهر من أنه لا عرف منقح الآن، ليرجع إليه، لعدم شيوع استعمال الكلمة، وعدم تحديد مدلولها في العرف الذي نصل إليه.

هذا وفي مرسل موسى بن أكيل عن أبي جعفر (عليه السلام): «شاة شربت بولاً ثم ذبحت، فقال: يغسل ما في جوفها ثم لا بأس به. وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم تكن جلالة، والجلالة التي يكون ذلك غذاؤها». والمستفاد منه أن الجلل يتحقق إذا صدق أن غذاء الحيوان هو العذرة، وذلك لا يكون عرفاً إلا باستمراره على التغذي بالعذرة، وحيث لا يراد بذلك استمراره في تمام عمره، لعدم خلو الحيوان عادة عن التغذي بغيرها ولو بالرضاع من أمه في أوائل عمره، تعين حمله على الاستمرار في التغذي بالعذرة مدة معتداً بها.

()()1

وضعف سنده لا يمنع من الاستدلال به مع ظهور عمل الأصحاب له وتعويلهم عليه، حيث أفتوا بمضمونه.

على أنه يكفي في ذلك أيضاً ما تضمن اعتبار أن لا يخلط مع العذرة غيرها، كصحيح زكريا ابن آدم عن أبي الحسن (عليه السلام): «أنه سأله عن دجاج الماء، فقال: إذا كان يلتقط غير العذرة فلا بأس» ، ومرسل علي بن أسباط عمن روى: في الجلالات قال: «لا بأس بأكلهن إذا كن يخلطن» وغيرهما.

()()2()()3

فإن المستفاد منها عدم تحقق الجلل المحرم مع استمرار الحيوان على إلقاط غير العذرة، بل لابد فيه من انقطاعه عن ذلك وتغذيه بالعذرة وحدها، فيرجع إلى مفاد مرسل موسى بن أكيل، ويعتضد أو يؤيد به.

********

ص: 392

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 24 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5، 3.

وبذلك يكون المحصل من جميع النصوص توقف الجلل المحرم على ما إذا مر على الحيوان مدة معتد بها يكون غذاؤه فيها العذرة لا يخلط معها غيرها. نعم لا يبعد عدم قدح الخلط القليل الذي لا يعتد به، لعدم خلو الحيوان عنه غالباً.

(393)

المقام الثاني: في استبراء الجلال وما يخرجه عن الجلل حكماً أو موضوعاً.

لا ينبغي الإشكال في أن أدلة آثار الجلل المتقدمة إنما تنهض بإثباتها للحيوان مادام جلالاً، ولا تنهض بإثباتها له بعد ارتفاع الجلل عنه، بل اللازم الرجوع حينئذ للأصل، وهو يقتضي الطهارة والحِلّ.

أما في العرق فلأصالة الطهارة. ولا مجال لاستصحاب النجاسة، لأن المتيقن النجاسة هو العرق المتكون حال الجلل، أما العرق المتكون بعده فهو موضوع آخر لم يعلم بنجاسته سابقاً، والأصل فيه الطهارة، ولذا سبق أن عد الاستبراء من المطهرات مبني على التسامح.

وكذا الحال في البول والغائط. نعم لو جرى استصحاب حرمة أكل الحيوان فقد يكون حاكماً على أصالة الطهارة في البول والغائط.

لكن الظاهر عدم جريانه، لما تكرر منّا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية، لعدم كون موضوعها العين الخارجية الباقية بتبدل الحال

- كالحيوان الخاص في المقام - ليجري استصحاب الحكم لها، بل فعل المكلف الذي هو أمر كلي قابل للتقييد، والمتيقن بثبوت الحكم له منه هو الفعل المقارن للحال السابق، كالأكل حال الجلل في المقام. أما المقارن للحال اللاحق فهو موضوع آخر لا مجال لإثبات الحكم له بالاستصحاب، بل اللازم الرجوع فيه لأصل آخر، وهو في المقام أصالة حلّ الأكل، كما ذكرنا. ومقتضاها طهارة البول والغائط. ولا أقل من الرجوع فيهما لأصالة الطهارة رأساً، كما ذكرناه أيضاً.

ومنه يظهر ضعف ما يظهر من غير واحد، من أن مقتضى الأصل بقاء الحرمة وعدم الرافع لها. حتى حكي عن النراقي الرجوع إليه فيما لم يرد فيه نص على مدة

ص: 393

الاستبراء.

إذا عرفت هذا فارتفاع الجلل فرع تحديد مفهوم الجلل، وحيث سبق أن المعيار فيه كون الحيوان غذاؤه العذرة، فارتفاعه إنما يكون بتبدل حال الحيوان، ولو بأن يخلط مع العذرة غيرها. وما قد يظهر منهم من أنه لابد فيه من منعه منها غير ظاهر الوجه بعدما تقدم.

ومثله ما قد يظهر منهم من فرض بقاء الجلل مع منع الحيوان من العذرة بعد مدة الاستبراء المذكورة في النصوص، فضلاً عما قبلها. فإن الظاهر امتناع الفرض المذكور، كما يظهر مما سبق.

نعم لو بني على أن المعيار في الجلل بعض الآثار - كنتن اللحم والجلد - أمكن وقوع الفرض المذكور. وكذا لو كان له مفهوم عرفي يتيسر تشخيصه. لكن عرفت المنع من الأمرين معاً.

هذا وقد ورد في النصوص تحديد الاستبراء في جملة من الحيوانات بمدد خاصة تمنع فيها عن العذرة، فيتعين العمل عليها فيها.

وما ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) من منع العمل بالنصوص المذكورة، لضعف سندها. في غير محله، لاعتبار سند بعض تلك النصوص، كما يأتي. ولو سلم فهي منجبرة بظهور تسالم الأصحاب على العمل بها، بل باستفاضتها تفصيلاً في بعض تلك الحيوانات - كالإبل - أو إجمالاً - كالبقرة - بحيث لا مجال لاحتمال عدم صدور شيء منها. ومن ثم لا مجال لإهمالها، والرجوع للأصل المتقدم.

وأما الحيوانات التي لم يرد نص بتحديد الاستبراء فيها - كالغزال والحمار - فمقتضى القاعدة الرجوع فيها للأصل المتقدم، لولا أن من القريب جداً أن يستفاد من مجموع النصوص الواردة أن الجلل لابد معه من الاستبراء، وأن الاستبراء يتبع حجم الحيوان بطبعه، لأن المدد المذكورة فيها يزيد كلما كان حجم الحيوان بطبعه أكبر، حيث لا يبعد مع ذلك قياس الحيوان الذي لم تتعرض له النصوص على الحيوانات التي

ص: 394

(395)وهي في الإبل أربعون يوماً (1)، وفي البقر عشرون (2)،

تعرضت لها. كما يأتي من بعضهم في بعض الحيوانات. وإن كان في بلوغ ذلك حداً يمكن معه التعويل عليه في الفتوى إشكال.

وكأنه إلى هذا يرجع ما في الرياض، فإنه بعد أن استوجه الرجوع للأصل قال: «إلا أنه ينبغي تقييده بعدم إمكان استنباط مدته من مدة الجلالات المنصوصة بنحو من فحوى الخطاب والأولوية». وإلا فلا مجال للأولوية مع عدم إدراك ملاك الحكم.

(1) بلا خلاف ظاهر، كما في كشف اللثام، وفي الجواهر: «بل اعترف غير واحد أن ذلك من المتفق عليه نصاً وفتوى». وصرح في الخلاف والغنية بالإجماع عليه. ويشهد به النصوص الكثيرة، ففي موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الدجاجة الجلالة لا يؤكل لحمها حتى تغتذي ثلاثة أيام، والبطة الجلالة بخمسة أيام، والشاة الجلالة عشرة أيام، والبقرة الجلالة عشرين يوماً، والناقة الجلالة أربعين يوماً».

()()1

وفي معتبر الجعفريات عنه (عليه السلام): «قال: الناقة الجلالة لا يحج على ظهرها، ولا يشرب لبنها، حتى تقيد أربعين يوماً. والبقرة الجلالة لا يشرب لبنها، ولا يؤكل لحمها، حتى تقيد عشرين يوماً. والشاة الجلالة لا يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، حتى تقيد سبعة أيام. والبطة الجلالة لا يؤكل لحمها حتى تقيد خمسة أيام. والدجاجة الجلالة تقيد ثلاثة أيام، ثم يؤكل لحمها» ونحوهما في ذلك مسند الراوندي في نوادره ومرسل دعائم الإسلام وغيرها من النصوص المذكورة في الوسائل.

()()2()()3()()4()()5

(2) كما هو المشهور وفي الخلاف والغنية الإجماع عليه. ويقتضيه موثق السكوني المتقدم ومعتبر الجعفريات ومسند الراوندي ومرسل دعائم الإسلام المتقدمة إليها

********

ص: 395

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 2، 3.

(3) مستدرك الوسائل ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 2، 3.

(4) مستدرك الوسائل ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 2، 3.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة.

وفي الغنم عشرة (1)

الإشارة، ونحوها رواية القاسم بن محمد الجوهري. وكذا خبر مسمع على رواية التهذيب.

()()(1)()()(2)

لكن رواه في الاستبصار هكذا: «والبقرة الجلالة لا يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها حتى تغتذي أربعين يوماً». وكذا في نسخة من الكافي. وهو الوجه فيما في المبسوط وعن القاضي من أنه أربعين يوماً.

إلا أنه لا مجال له بعد اختلاف نسخ الحديث، وضعف سنده في نفسه، ومعارضته بغيره مما هو أكثر عدداً وأصح سنداً.

وعن الصدوق والاسكافي أنه ثلاثون يوماً. وإن كان ظاهر الأول في الفقيه عدم الجزم به، لأنه عقبه بذكر رواية القاسم بن محمد الجوهري المتقدمة إليها الإشارة.

وكيف كان فيقتضيه خبر مسمع على رواية الكافي في النسخة الأخرى المثبتة في الأصل، حيث وردت هكذا: «والبقرة الجلالة لا يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها حتى تغتذي ثلاثين يوماً».

ومرفوع يعقوب بن يزيد: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): الإبل الجلالة إذا أردت نحرها تحبس أربعين يوماً، والبقرة ثلاثين يوماً، والشاة عشرة أيام» ، ونحوه في ذلك خبر يونس عن الرضا (عليه السلام).

()()(3)()()(4)

لكن اختلاف نسخ خبر مسمع مانع من التعويل عليه، كما سبق. على أن النصوص المذكورة ضعيفة في نفسها، معارضة بما هو أكثر عدداً وأصح سنداً، فيتعين لأجل ذلك طرحها، أو الجمع بينها وبين النصوص الأخر بالحمل على الأفضلية.

(1) كما هو المشهور. ويشهد له موثق السكوني ومرفوع يعقوب بن يزيد

********

ص: 396

(1و2)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6، 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

وفي البطة خمسة (1)،

المتقدمان ورواية القاسم بن محمد الجوهري المتقدمة إليها الإشارة، وكذا خبر مسمع - الذي تقدمت إليه الإشارة - على رواية الكافي.

لكن في المبسوط أنه سبعة أيام، وتردد في الخلاف وظاهر الغنية بينها وبين العشرة. ويشهد للسبعة معتبر الجعفريات المتقدم، ومرسل دعائم الإسلام المتقدمة له الإشارة. ومقتضى الجمع بينهما وبين ما سبق الحمل على الأفضلية.

هذا وعن الاسكافي أنه أربعة عشر يوماً. ويشهد له خبر يونس المتقدمة إليه الإشارة عن الرضا (عليه السلام): «والشاة أربعة عشر يوماً». لكن ضعف سنده مانع من التعويل، فضلاً عن رفع اليد به عما تقدم مما هو أكثر عدداً وأصح سنداً. فليطرح أو يجمع بينهما بالحمل على الأفضلية.

وحكى في كشف اللثام عن الصدوق أنه عشرون يوماً. ولم يظهر له مستند.

كما أن في حديث مسمع - المتقدمة إليه الإشارة - على رواية التهذيبين: «والشاة الجلالة لا يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها حتى تغذى خمسة أيام». ولا يظهر قائل به. على أن ضعفه واختلاف نسخه مانع من التعويل عليه، فضلاً عن رفع اليد عما سبق.

(1) وفي الجواهر أنه المشهور. ويقتضيه موثق السكوني ومعتبر الجعفريات المتقدمان وكذا مسند الراوندي ومرسل الدعائم وخبر مسمع المتقدمة إليها الإشارة.

وعن الخلاف أنه سبعة، وإن لم أجده فيه. ويشهد له قوله (عليه السلام) في خبر يونس المتقدمة له الإشارة: «والبطة سبعة أيام».

لكن ضعفه مانع من التعويل عليه، فضلاً عن رفع اليد به عما سبق. فليجمع بينهما بالحمل على الأفضلية.

ومثله ما في الفقيه من رواية القاسم بن محمد الجوهري، وفيها: «والبطة تربط ثلاثة أيام». ثم قال: «وروي ستة أيام». لإرسال الروايتين معاً.

ص: 397

وفي الدجاجة ثلاثة (1). والأحوط استحباباً اعتبار زوال اسم الجلل عنها

(1) وفي الجواهر أنه المشهور، وفي الخلاف الإجماع عليه. ويقتضيه موثق السكوني ومعتبر الجعفريات المتقدمان وخبرا مسمع ويونس المتقدم إليهما الإشارة.

لكن عن المقنع: «وروي يوماً إلى الليل». وهو مع ضعفه لم يظهر قائل به. وفي الغنية: «والدجاج خمسة أيام. وروي في الدجاج ثلاثة أيام». ولا شاهد للأول.

()()(1)

هذا وقد ألحق بها وبالبطة في القواعد شبههما. وحكاه في كشف اللثام عن الشيخ. ويظهر الحال فيه مما تقدم فيما لم ينص على مدة الاستبراء فيه.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن إطلاق الاغتذاء في بعض النصوص - ومنها موثق السكوني - وإن كان قد يشمل الاغتذاء بغير العذرة ولو بالاشتراك معها، إلا أن التعبير في بعضها - ومنها

معتبر الجعفريات - بالتقييد والحبس ظاهر في منعها من العذرة، بحيث يختص غذاؤها في مدة الاستبراء بغيرها. فاللازم العمل عليه، لأنه أخص.

الثاني: أن المعروف بين الأصحاب حرمة السمك الجلال، وإن كان خارجاً عما نحن فيه، لطهارة بوله وخرئه بعد أن لم يكن له نفس سائلة، كما أنه لا عرق له، ويشهد له ما يأتي في استبرائه.

مضافاً إلى قرب فهمه مما ورد في الحيوانات المتقدمة، لفهم عدم الخصوصية. بل من إطلاق قول أبي عبد الله (عليه السلام) في صحيح هشام: «لا تأكل لحوم الجلالات، وإن أصابك شيء من عرقها فاغسله». إذ مجرد عدم العرق للسمك لا يوجب قصوره عنه بعد ظهور أن قضية نجاسته حقيقية يراد بها نجاسة عرقها إن كان لها عرق.

()()(2)

والمشهور في استبرائها أن تربط يوماً وليلة. لخبر يونس عن الرضا (عليه السلام): «وفي

********

ص: 398

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 19 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(399)مع ذلك (1)، ومع عدم تعين مدة شرعاً يكفي زوال الاسم (2).

(مسألة 41): الظاهر قبول كل حيوان ذي جلد للتذكية (3) عدا

السمك الجلال أنه سأله عنه فقال: ينتظر به يوماً وليلة».

()()1

لكن في النهاية: «ولا يؤكل من السمك ما كان جلالاً إلا بعد أن يستبرأ يوماً إلى الليلة في ماء طاهر...». وهو قد يظهر في الاكتفاء باليوم وقد يظهر ذلك من الصدوق، حيث اقتصر في الفقيه على رواية القاسم بن محمد الجوهري التي تقدمت الإشارة إليها وفيها: «والسمك الجلال يربط يوماً إلى الليل في الماء». وربما يحمل كلامهما - كالرواية -

على دخول الغاية في المعنى، جمعاً مع خبر يونس المتقدم.

نعم قد يشكل الاستدلال بالخبرين، بضعفهما. إلا أن من القريب انجبارهما بعمل الأصحاب، خصوصاً الأول. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

الثالث: تقدم في مبحث نجاسة البول والغائط أن من جملة ما يحرم بالعرض الجدي الذي ترتضع من لبن خنزيرة، وأنه يحرم بوله وغائطه بذلك. كما تقدم أنه يستبرأ بحبسه سبعة أيام ثم يلقى فيها على ضرع شاة أو يعلف فيها الكسب والنوى. وكان المناسب لسيدنا المصنف (قدس سره) أن يذكره هنا كما ذكر الاستبراء من الجلل.

(1) سبق أن ذلك لازم للاستبراء، وأن فرض بقاء الجلل مع الاستبراء غير واقع.

(2) عملاً بمقتضى الأصل المتقدم. وقد تقدم الإشكال في الاكتفاء بذلك. فراجع.

(3) كما أطلنا الكلام فيه في التنبيه الثالث من تنبيهات فصل الشك في أصل التكليف من مباحث الأصول العملية من كتابنا (المحكم)، وذكرنا هناك أن كل حيوان ذي نفس من شأنه أن يذبح قابل للتذكية شرعاً، تبعاً لقابليته لها عرفاً.

ولعل اقتصار سيدنا المصنف (قدس سره) هنا على ذي الجلد لسوق الحكم المذكور

********

ص: 399

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5.

نجس العين (1). فإذا ذكي الحيوان الطاهر العين جاز استعمال جلده - وكذا سائر أجزائه - فيما يشترط فيه الطهارة ولو لم يدبغ جلده على الأقوى (2).

تمهيداً لبيان حكم الجلد، وإلا فلا إشكال في العموم لغير ذي الجلد الصالح للاستعمال كالطيور الصغيرة. وتمام الكلام في ذلك في الموضع المذكور. فراجع.

(1) لأن التذكية بنظر العرف والشرع مختصة برفع القذارة العرضية الحاصلة بسبب الموت، دون الخبث الذاتي الثابت حال الحياة، بل لا مزيل له عرفاً، كما لا دليل على زواله شرعاً.

(2) من دون فرق بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، كما صرح به غير واحد. لكن اعتبر الدبغ في استعمال جلد ما لا يؤكل لحمه في المبسوط والنهاية والخلاف ومحكي مصباح السيد والبيان.

كما حكي عن المفيد واليوسفي في كشفه. ونسبه في كشف اللثام للأكثر، وفي محكي الذكرى للمشهور.

واستدل له في الخلاف بعدم الدليل على جواز استعمال الجلد المذكور قبل الدبغ. وهو كما ترى، لأنه مقتضى الأصل، خصوصاً بعد فرض طهارته بالتذكية.

على أنه مقتضى إطلاق ما تضمن جواز الانتفاع بجلد ما لا يؤكل لحمه بعد التذكية، كموثق سماعة: «سألته عن جلود السباع أينتفع بها؟ قال: إذا رميت وسميت فانتفع بجلده. وأما الميتة فلا» وغيره.

()()1

اللهم إلا أن يقال: إنه مسوق لبيان جواز الانتفاع بجلد غير مأكول اللحم في مقابل عدم جواز الانتفاع به رأساً، لأنه مورد السؤال. ومقتضى ذلك جواز الانتفاع به في الجملة ولو مشروطاً بشيء، كالدبغ، والتطهير من النجاسة الخبثية الخارجية، وغيرهما. فالعمدة في المقام الأصل.

********

ص: 400

(1)

وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4.

(401) (مسألة 42): تثبت الطهارة بالعلم والبينة (1)،

ومثله الاستدلال بما في كشف اللثام عن بعض الكتب عن الرضا (عليه السلام) من أن دباغة الجلد طهارته.

إذ فيه - مع أنه لا يختص بجلد غير مأكول اللحم. وأن عدم الطهارة لا يستلزم حرمة الاستعمال -: أولاً: أنه غير ظاهر في انحصار طهارة الجلد بدباغه، لينافي ما دل على مطهرية التذكية - ويتعين الجمع بينهما حينئذ بتوقف الطهارة على الأمرين - بل مجرد كون الدباغ مطهراً، وهو لا ينافي مطهرية التذكية أيضاً.

وثانياً: أنه لم نعثر على المضمون المذكور إلا في الرضوي: «وكل شيء حل أكل لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي وصوفه وشعره ووبره وريشه وعظامه، وإن كان الصوف والوبر والشعر والريش من الميتة وغير الميتة بعد ما يكون مما أحل الله أكله فلا بأس به. وكذلك الجلد، فإن طهارته دباغته» وهو - على اضطرابه - ظاهر في مطهرية الدبغ لجلد الميتة فيما لا يؤكل لحمه. فلابد من طرحه، أو حمله على التقية.

()()1

هذا ولا يبعد أن يكون نظرهم في المنع إلى أن استعماله قد يكون في المأكول والمشروب، وهو قبل الدبغ قد يوجب تحلل شيء منه واختلاطه بهما.

لكنه كما ترى، لمنع استلزام الاستعمال للاختلاط بوجه معتد به غير مستهلك في المأكول والمشروب، ومع الشك في حصول الاختلاط المذكور فمقتضى الأصل الحلّ والبراءة.

نعم في مورد اليقين بحصول شيء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه في المأكول أو المشروب، بنحو معتد به غير مستهلك، لا شك في حرمة المأكول والمشروب. لكنه خارج عن محل الكلام.

(1) لعموم حجية البينة الذي تقدم الاستدلال عليه في المسألة التاسعة عشرة

********

ص: 401

(1)

فقه الرضا باب اللباس وما يكره فيه الصلاة والنجسات وما يجوز فيه الصلاة قبل باب العتق ص: 41.

من مباحث التقليد. هذا وقد ذكر غير واحد أن النجاسة والطهارة والملكية ونحوها من الأمور الحدسية لما لم يمكن إطلاع الشاهد عليها إلا بالإطلاع على أسبابها فالأخبار عنها إنما يصح بلحاظ الملازمة بين السبب والمسبب، ومع احتمال اختلاف الشاهد والمشهود عنده في الأسباب يتعين عدم حجية الشهادة، لاحتمال اعتماد الشاهد على سبب لا يراه المشهود عنده سبباً.

ومن ثم يتعين عدم حجية الشهادة بالمسبب، كالطهارة في محل الكلام قال في محكي التذكرة عند الكلام في حجية البينة بالنجاسة: «لا تقبل إلا بالمسبب، لجواز أن يعتقد أن سؤر المسوخ نجس».

نعم استثنى بعض مشايخنا (قدس سره) من ذلك ما إذا اتفق الشاهد والمشهود عنده في السبب، فحكم بحجية الشهادة بالمسبب، لرجوع الشهادة بالسبب للشهادة بالمسبب ولو إجمالاً، فمع اتفاقهما فيه يتعين تصديق الشاهد فيه، والانتقال منه للازمه، وهو المسبب.

لكن يشكل بأن الشهادة بالشيء والإخبار عنه تابع لقصد المخبر. فإذا قصد ببيان المسبب الحكاية عن السبب كان السبب مشهوداً به حقيقة بطريق الكناية، ولا إشكال حينئذ في حجية الشهادة به لإطلاق دليلها، ويكون الانتقال منه للمسبب من وظيفة المشهود عنده، لا لحجية الشهادة فيه. أما إذا غفل الشاهد عن ذلك، وقصد الحكاية عن المسبب رأساً، كما هو المدلول المطابقي لكلامه، فلا يكون السبب مشهوداً به، غاية الأمر أنه لازم للمشهود به - وهو حصول المسبب بنظره واجتهاده - فتبتني حجية الخبر فيه على عموم حجية الخبر للازم المخبر عنه.

لكن اللزوم إنما يتم بشرطين:

الأول: عدم احتمال غفلة الشاهد باعتماده في الشهادة على ما ليس سبباً عنده، بمقتضى اجتهاده أو تقليده، إذ كثيراً ما يغفل الإنسان، فيحكم بالنجاسة أو الطهارة أو غيرهما اعتماداً على أسباب لو نبه لأقرّ بعدم سببيتها، فيحكم بنجاسة ثوبه مثلاً

ص: 402

لملاقاته لطفل غير متحرز عن النجاسة، أو لماء في الطريق، أو لأحد أطراف الشبهة المحصورة، كما يحكم بطهارة الأرض مثلاً لأن الماء والشمس تصيبها مع إغفال اعتبار تجفيف الشمس للماء، وبطهارة الإناء لإفاضته مرة واحدة من مخزن للماء يسع كراً من دون إحراز بلوغ مائه كراً حين الإفاضة، وبملكية الشيء استناداً إلى أخذه من الدولة بمقتضى القوانين الوضعية... إلى غير ذلك.

الثاني: عدم احتمال خطئه في الموضوع. إذ كثيراً ما يخطئ في خبره لخطئه في الموضوع الخارجي، لا في الحكم الشرعي، كما لو شهد بطهارة الأرض لاعتقاده بنزول المطهر عليها بسبب نداوتها، مع استناد النداوة في الواقع للطل، أو بنجاسة الثوب لاعتقاده إصابة نزول المطر عليها بسبب نداوتها، مع استناد النداوة في الواقع للطل، أو بنجاسة الثوب لاعتقاده إصابة الكلب له، مع أنه لم يصبه، بل قاربه، أو شهد بزوجية المرأة لاعتقاده بتوكيلها لمن أجرى عقد النكاح مع أنها لم توكله... إلى غير ذلك.

وبالجملة حيث لم يكن السبب مشهوداً به - لتجري أصالة عدم الخطأ فيه بمقتضى دليل لزوم تصديق الشاهد - لعدم قصد الشاهد الإخبار عنه، بل عن المسبب، فالانتقال من المسبب المشهود به لحصول السبب إنما يتم مع الملازمة بينهما، ولا ملازمة بينها مع احتمال أحد الأمرين المذكورين، كما ذكرنا.

ومن ثم لا مجال لما ذكره (قدس سره) من الاستثناء، بل يتعين عموم المنع من قبول الشهادة بالمسبب لو تم ما سبق.

بل بناء على ذلك لا تكفي الشهادة بالسبب أيضاً إذا لم يكن أمراً حسياً محضاً - كانكسار الإناء - بل كان مبتنياً على الاجتهاد والحدس، فكما لا تكفي الشهادة بطهارة الإناء الذي كان نجساً، لاحتمال ابتنائها على ما هو مطهر عند الشاهد دون المشهود عنده، كذلك لا تكفي الشهادة بغمسه في كر طاهر إذا احتمل اختلاف الشاهد والمشهود عنده في مقدار الكر، أو في أسباب طهارته، كما لو احتمل اكتفاء الشاهد

ص: 403

في مطهرية المطر للماء بقطرات قليلة، وكان المشهود عنده لا يكتفي بذلك، أو احتمل اعتقاده اتصاله بمادة تبلغ كراً، وهي لا تبلغه في الواقع وهكذا.

وكما لا تكفي الشهادة بالزوجية في ترتيب أثرها، لا تكفي الشهادة بسببها - وهو

وقوع العقد بين الزوجين - إذا احتمل خطؤه في تحقق شروطه، كاختيار الزوجين أو توكيلهما للمباشر في إيقاع العقد... إلى غير ذلك.

كما أن ذلك لو تم لا يختص بالبينة، بل يعم جميع موارد الاعتماد على الخبر، كإخبار صاحب اليد والوكيل وغيرهما، لأن دليل حجية الخبر فيها إنما يقتضي تصديقه فيما أخبر عنه، لا حجية اجتهاده فيه.

وذلك بهذه السعة مستلزم لإلغاء الخبر وعدم حجية الشهادة في موارد كثيرة. ولاسيما أنه كثيراً ما يتجدد احتمال الخطأ عند تعذر السؤال واستكشاف الحال، لغيبة المخبر أو موته أو نحوهما.

ولا مجال للبناء على ذلك بملاحظة المرتكزات و السيرة على العمل بالخبر وإغفال السؤال، بنحو يكشف عن بطلان الشبهة من أصلها.

ولذا قال سيدنا المصنف (قدس سره) في دفعها: «احتمال الخطأ في المستند ملغي بأصالة عدم الخطأ المعول عليها عند العقلاء في مقام العمل بالخبر، كما يشهد به استقرار سيرة العقلاء والمتشرعة على عدم الفحص والسؤال عن مستند الخبر، بينة كان أو خبر واحد، وموضوعاً كان المخبر به أو حكماً».

فالمقام نظير أصالة الصحة في عمل الغير، حيث لا إشكال في البناء عليها ولو مع العلم بالاختلاف في الاجتهاد، فضلاً عن احتماله أو احتمال الغفلة عن الحكم الشرعي.

ودعوى: أنه لا يعول على أصالة عدم الخطأ في الحكم الشرعي الكلي في غير مورد مشروعية التقليد.

ص: 404

(405)وبإخبار ذي اليد (1)

مدفوعة بأنه إنما لا يعول عليها من أجل التعبد بالحكم الشرعي الكلي، لا من أجل التعبد بالحكم الشرعي الجزئي، كما في محل الكلام كطهارة الثوب وزوجية المرأة الخاصين، حيث يتعين البناء على عدم الخطأ فيه لما ذكرنا.

نظير ما سبق من البناء على عدم الخطأ في مورد أصالة الصحة في عمل الغير. ونظير البناء عليه في الموضوعات الخارجية، خصوصاً ما لا يحسّ بنفسه بل بآثاره، كالموت والمرض والتدين وغيرها، حيث يكثر فيها الخطأ، ومع ذلك لا يعتنى به، ولا يعول على احتماله.

وبالجملة: لا مجال للتوقف في قبول الخبر في محل الكلام، بلحاظ ما سبق من المرتكزات والسيرة.

نعم لا يبعد البناء على عدم حجية الخبر في مورد البينة وغيرها فيما إذا خرج المخبر في قطعه عن المتعارف، كالوسواسي، لعدم بناء العقلاء على حجية الخبر فيما إذا لم يكن المخبر ضابطاً بالوجه المتعارف.

وكذا فيما إذا كان الأمر المشهود به حدساً مبنياً على مقدمات خفية، كما في موارد التقويم في القيميات، حيث يتعين الاقتصار في الرجوع فيه للغير على مورد انسداد باب العلم على المشهود عنده، الذي هو الشرط في جواز الرجوع لأهل الخبرة. فلاحظ.

(1) فقد صرح غير واحد بقبول قوله فيما تحت يده من نجاسة أو طهارة أو غيرهما، وفي الحدائق أنه ظاهر الأصحاب، وعن الوحيد أنه لا ينبغي الشك فيه.

نعم اختلفت كلماتهم في تحديد موضوع الحكم، ففي بعضها أنه قول صاحب اليد، وفي الآخر أنه المالك، وفي ثالث أنه صاحب اليد المالك.

لكن لا يبعد رجوع الكل للأول، لأنه هو مورد السيرة الارتكازية التي هي

ص: 405

عمدة الدليل في المقام، حيث لا ريب عندهم في قبول قول صاحب اليد فيما تحت يده.

وربما يستدل عليه ببعض النصوص، كخبر إسماعيل بن عيسى الوارد في شراء جلود الفراء من المسلم غير العارف وفيه: «عليكم أنتم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» ، بدعوى ظهوره في قبول خبر بايع الجلود بالتذكية.

()()1

وكذا ما تضمن النهي عن السؤال عن الجبن إذا أخذ من المسلم. وخبر عبد الله بن بكير: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلاً ثوباً فصلى فيه وهو لا يصلي فيه. قال: لا يعلمه. قال: قلت: فإن أعلمه. قال: يعيد» ، لتصريحه بوجوب الإعادة على تقدير الإعلام، بناء على حمل الإعلام فيه على الإعلام قبل الصلاة عند إعارة الثوب بحيث وقعت الصلاة فيه نسياناً. أما لو حمل على الإعلام بعد الصلاة فالمتعين حمله على الاستحباب.

()()2()()3

لكن خبر إسماعيل - مع الإشكال في سنده - لابد من حمله على السؤال من أجل تحصيل العلم، لا من أجل العمل بالجواب مطلقاً وإن لم يوجب العلم، ليرجع إلى حجية، كما تقدم في ذيل الكلام في حجية يد المسلم على التذكية.

ونصوص الجبن أجنبية عما نحن فيه، لأن احتمال حرمته إنما هو لاحتمال وضع الميتة فيه، وهو مدفوع بالأصل. ولذا تضمن بعض النصوص أنه حلال ما لم تقم البينة على أن فيه الميتة فلابد من حمل ذكر المسلم على بيان تأكد عدم وجوب السؤال معه، لا إناطته له.

()()4

********

ص: 406

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة، وج: 17 باب: 61 من أبواب الأطعمة المباحة.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 47 من أبواب النجاسات حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 61 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 2.

وخبر ابن بكير - مع ضعفه في نفسه - لو تم حمله على ما سبق فهو ظاهر في بيان الحكم الواقعي للصلاة في النجس جهلاً، المناسب لفرض كون إخبار المالك بالنجاسة موجباً للعلم، لا بيان حكم الصلاة ظاهراً عند إخبار المالك بالنجاسة، ليدل على حجية خبره.

نعم في موثق السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي (عليه السلام): «أنه كان يقول: من يموت وعنده مال مضاربة. قال: إن سماه بعينه قبل موته، فقال: هذا لفلان، فهو له، وإن مات ولم يذكر فهو أسوة الغرماء». وقد تضمن قبول صاحب اليد في تعيين المالك. وربما يستفاد ذلك من غيره مما قد يظهر بالفحص والتتبع.

()()1

لكن ورد أيضاً في وصية المحتضر بالمال ما يظهر منه توقف القبول على كون الموصي ثقة أو غير متهم كما يأتي. فإن بني على الجمع بينهما كان المعيار على الوثاقة، لأنها أخص، وإن بني على العمل بكلٍّ في مورده لم ينفع الموثق ونحوه في إثبات عموم حجية قول صاحب اليد.

()()2

ومثله في ذلك ما تضمن الاكتفاء بخبر البايع في الكيل وفي استبراء الذمة. فإن نصوص تصديق البايع في الكيل قد تضمن جملة منها الاقتصار في تصديقه على الأخذ منه وأنه لا يجوز للمشتري الاكتفاء بذلك إذا أراد بيعه. ونصوص تصديق البايع في الاستبراء قد تضمن جملة منها اعتبار أمانته والوثوق بخبره.

()()3()()4

ومن ثم يصعب استفادة عموم حجية خبر صاحب اليد من النصوص. ولعله إليه يرجع ما عن الذخيرة وشرح الدروس من عدم الوقوف له على دليل. وإلا فقد عرفت نهوض السيرة الارتكازية به، وأنها عمدة الدليل عليه.

********

ص: 407

(1)

وسائل الشيعة ج: 13 باب: 13 من أبواب كتاب المضاربة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 16 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 14.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 5 من أبواب عقد البيع وشروطه.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 13 باب: 11 من أبواب بيع الحيوان، وج: 14 باب: 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

إذا لم تقم قرينة على اتهامه (1).

هذا وأما ما قد يدعى من أنه يمكن استفادة الردع عن هذه السيرة من

قوله (عليه السلام) في موثق أو صحيح مسعدة بن صدقة: «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» بدعوى: أن انحصار الأمر بالاستبانة والبينة ينافي حجية قول صاحب اليد.

()()1

لكنه يندفع بأنه لابد من حمله على الحصر الإضافي، أو إلغاء خصوصية البينة فيه والتعدي لكل ما هو حجة يصح الاعتماد عليه، إذ لا ريب في العمل على الاستصحاب الإلزامي، فضلاً عن الإمارات الأخر.

غاية الأمر أن ذكر البينة فيه شاهد بعدم حجية ما هو الأعم منها، كخبر الثقة، للغوية ذكرها لو كان هو حجة. أما غير ذلك مما كان بينه وبين البينة عموم من وجه موردي - كخبر صاحب اليد - فلا مجال لاستفادة عدم حجيته، لينهض الحديث بالردع عن السيرة في المقام.

(1) لم أعثر عاجلاً على من قيد بذلك، بل في الجواهر التصريح بعموم تصديق صاحب اليد في النجاسة لما إذا كان فاسقاً، حاكياً ذلك عن جماعة. وقد استدل سيدنا المصنف (قدس سره) على ذلك بصحيح معاوية بن عمار: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج، ويقول: قد طبخ على الثلث، وأنا أعرف أنه يشربه على النصف، أفأشربه بقوله، وهو يشربه على النصف؟ فقال: لا تشربه. قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث، ولا يستحله على النصف، يخبرنا أن عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال: نعم».

()()2

قال (قدس سره): «ولعله محمل صحيح معاوية بن وهب: عن البختج فقال: إذا كان

********

ص: 408

(1)

وسائل الشيعة ج: 12 باب: 4 من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

حلواً يخضب الإناء، وقال صاحبه: قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث، فاشربه. فإن كونه يخضب الإناء أمارة على عدم ذهاب الثلثين».

()()1

كما يستدل عليه بخبر العلاء بياع السابري: «سألت أبا عبد الله عن امرأة استودعت رجلاً مالاً، فلما حضرها الموت قالت له: أن المال الذي دفعته إليك لفلانة، وماتت المرأة فأتى أولياؤها الرجل فقالوا: إنه كان لصاحبتنا مال، ولا نراه إلا عندك فاحلف لنا ما لها قبلك شيء، أفيحلف لهم؟ فقال: إن كانت مأمونة عنده فليحلف لهم، وإن كانت متهمة فلا يحلف، ويضع الأمر على ما كان، فإنما لها من مالها ثلثه».

()()2

لكن الاستحلال على النصف الذي تضمنه صحيح معاوية ابن عمار لا يوجب التهمة في الأخبار بذهاب الثلثين، حيث لا يبعد ممن لا يرى ثبوت الحكم في موضع خاص أن يصدق في إخباره بنفي ذلك الموضوع، فالحكم المذكور لو تم تعبدي محض.

وأما صحيح معاوية بن وهب فهو وإن تضمن اعتبار الأمرين من خضب الإناء وخبر صاحب اليد، إلا أن من القريب حمله على حجية خضب الإناء وحده، لا أنه شرط في حجية خبر صاحب اليد، كما هو مقتضى الجمع بينه وبين صحيح عمر بن

يزيد: «قال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا كان يخضب الإناء فاشربه» ، ويكون ذكر قول صاحب اليد فيه، إما للتأكيد، أو لدفع فرض التعارض بين الحجتين.

()()3

هذا وأما ما تضمن اعتبار كون صاحب اليد في العصير مسلماً ورعاً عارفاً ، فلابد من حمله على الاستحباب، جمعاً مع صحيح معاوية بن عمار.

()()4

وأما خبر العلاء بياع السابري فالمقابلة فيه بين الأمانة والاتهام قد يناسب حمل

********

ص: 409

(1)

وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 13 باب: 16 من أبواب كتاب الوصايا حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 6، 7.

وإذا شك في نجاسة ما علم طهارته سابقاً يبنى على طهارته (1).

الاتهام فيه على ما يقابل الامانة، لا على مقارنة الخبر لما يثير الريب والتهمة الذي هو محل الكلام. وحينئذ يقتصر فيه على مورده، حيث يظهر من النصوص خصوصية الوصية في أمثال ذلك. ومن ثم يشكل استفادة الشرط المذكور من النصوص.

نعم الظاهر قصور السيرة الارتكازية التي سبق أنها عمدة الدليل على حجية قول صاحب اليد عن صورة التهمة بالوجه المذكور، كما لو لم يعهد من صاحب اليد الثقة وكان الأمر الذي يخبر به يجرّ نفعاً له، أو كان الأمر الذي أخبر به مستبعداً في نفسه لخصوصية المورد أو نحو ذلك.

(1) بلا إشكال ظاهر. للاستصحاب، بل هو متيقن من بعض نصوصه.

ص: 410

خاتمة

(411)يحرم استعمال أواني الذهب والفضة (1)

(1) كما هو المعروف بين الأصحاب المدعى عليه الإجماع في التذكرة والمنتهى والذكرى ومحكي التحرير وغيره. وفي الجواهر: «إجماعاً منا، بل وعن كل من يحفظ عنه العلم... محصلاً ومنقولاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً».

لكن في المسألة الخامسة عشرة من كتاب الطهارة من الخلاف: «يكره استعمال أواني الذهب والفضة وكذا المفضض، وقال الشافعي: لا يجوز استعمال أواني الذهب والفضة وبه قال أبو حنيفة... وقال الشافعي: يكره المفضض، وقال أبو حنيفة لا يكره، وبه قال داود. دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضاً روى الحلبي...» ثم ذكر نصوص النهي عن أواني الذهب والفضة والمفضض.

وقد حمل الكراهة في كلامه على الحرمة في المعتبر والمختلف والذكرى. وفي كشف اللثام: «وهو بعيد عن عبارته». وكأنه لمقابلته بحكاية عدم الجواز عن العامة. لكن الظاهر أن المقابلة مع العامة ليس في ذلك، بل في حكم المفضض، حيث حكى عن بعضهم عدم كراهته.

ولذا كان استدلاله مناسباً للتحريم أو للأعم منه ومن الكراهة، لاقتصاره على نصوص النهي من دون تنبيه لما يوجب حملها على الكراهة.

هذا مع تصريحه بالتحريم في المبسوط والنهاية، وفي المسألة الثالثة بعد المائة من

ص: 411

كتاب الزكاة من الخلاف أيضاً. ومن ثم كان حمل الكراهة في كلامه على التحريم قريباً جداً.

وكيف كان فالنصوص الواردة في المقام على طوائف:

الأولى: ما تضمن النهي عن الأواني المذكورة، أو عن الأكل أو الشرب فيها. كصحيح الحلبي المذكور في الخلاف: «قال: لا تأكل في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة» ، وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «قال: لا تأكل في آنية ذهب ولا فضة» ، وصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): «أنه نهى عن آنية الذهب والفضة» ، وموثق مسعدة بن صدقة أو صحيحه عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): «أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نهاهم عن سبع، منها الشرب في آنية الذهب والفضة» ، وغيرها.

()()1()()2()()3()()4

الثانية: ما تضمن كراهة الأواني المذكورة، كصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«أنه كره آنية الذهب والفضة والآنية المفضضه» ، وصحيح ابن بزيع: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن آنية الذهب والفضة فكرههما» وغيرهما.

()()5()()6

الثالثة: ما تضمن التعبير بأنه لا ينبغي، وهو موثق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال: لا ينبغي الشرب في آنية الذهب والفضة».

()()7

الرابعة: موثق موسى بن بكر عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): «قال: آنية الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون» ، ونحوه مرسل الصدوق عن النبي ومعتبر الجعفريات ونوادر الراوندي. وهناك مضامين أخر لا مجال للاستدلال بها لضعف سندها.

()()8()()9()()10

ولا ريب في ظهور الطائفة الأولى في التحريم، وفي أن مفاد الرابعة أعم

********

ص: 412

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 66 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 7، 3، 11، 10.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 7، 3، 11، 10.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 7، 3، 11، 10.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 7، 3، 11، 10.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5، 4، 8.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5، 4، 8.

(8) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5، 4، 8.

(9) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1، 5، 4، 8.

(10) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 1.

في الأكل والشرب (1) والطهارة من الحدث والخبث وغيرها من أنواع الاستعمال (2)،

من التحريم، أو أقرب إليه، على ما يأتي توضيحه عند الكلام في تحديد الاستعمال المحرم.

وأما الثانية والثالثة فربما يدعى ظهورهما في الكراهة، وخصوصاً الثالثة، فقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن حملها على التحريم بعيد، وأن حمل الطائفة الأولى على الكراهة أقرب منه. قال: «ولذا كان المحكي عن المجمع - من أنه لولا الإجماع لكان القول بالكراهة حسناً. انتهى - في محله».

لكنه غير ظاهر، بل التعبير المذكور إنما يدل على عدم كون الشيء مناسباً، وهو إن لم يكن مناسباً للحرمة فلا أقل من كونه أعم منها. وأظهر من ذلك الكراهة في الطائفة الثانية، فإنها لغة ضد المحبة، وهي بالحرمة أنسب. وإرادة عدم الإلزام منها اصطلاح متأخر لا مجال لحمل النصوص عليه.

ومن ثم كان الظاهر وفاء النصوص بالتحريم. مضافاً إلى ما عرفت من الإجماع وظهور التسالم على الحكم الذي يبعد الخطأ فيه بعد شيوع الابتلاء بالمسألة.

(1) كما هو المتيقن من النص والفتوى، فقد اقتصر عليه في المقنعة والنهاية والمراسم، بل اقتصر على الشرب في المقنع. وقد يحمل على التمثيل، أو على أن محل كلامهم هو الأكل والشرب، لأنهم تعرضوا له في مبحث الأطعمة والأشربة.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، وفي الجواهر: «لا أجد فيه خلافاً». بل نفى الخلاف فيه الحدائق وكشف الرموز، وادعى الإجماع عليه في التذكرة وظاهر المنتهى ومحكي التحرير أيضاً. كما هو المناسب لما سبق من الخلاف. وهو يبتني على حمل كلام من سبق منه الاقتصار على الأكل والشرب على عدم الحصر، كما تقدم.

وكيف كان فيقتضيه إطلاق ما تضمن من النصوص النهي عن آنية الذهب

ص: 413

والفضة. وقد تقدم بعضها. فإن النهي الوارد على الأعيان بعد تعذر معناه الحقيقي - لعدم تعلق النهي بالأعيان - إما أن يحمل على النهي عن إيجادها، نظير النهي عن الصورة، أو على النهي عن استعمالها.

والأول وإن كان هو الأنسب بحذف المتعلق، لأن وجود الشيء أسبق رتبة من استعماله، خصوصاً مع ما تضمنته بعض النصوص من التعبير بالكراهة. إلا أن الأعيان إذا لم تكن مطلوبة لنفسها كالصورة، بل لاستعمالها والانتفاع بها - كالإناء والفراش واللباس - كان الأقرب حمل النهي على النهي عن الاستعمال والانتفاع المناسب له. ولاسيما مع التصريح في جملة من النصوص بالنهي عن الأكل والشرب، حيث يقرب جداً تنزيله على كونه من صغريات النهي عن الأعيان، لا أجنبياً عنه.

بل لو فرض حمل الإطلاق على النهي عن إيجاد الأواني، فظهور كون الغرض من الأواني هو الاستعمال ينهض بالقرينية على كون النهي عن الإيجاد من أجل حرمة الاستعمال، منعاً لمادة الفساد، نظير حرمة صنع آلات العبادة المحرمة، المتفرعة على حرمة تلك العبادة.

وعلى هذا يتعين البناء على العموم لجميع الاستعمالات المناسبة، كالوضوء والغُسل والغَسل والعجن ونحوها، عملاً بإطلاق النهي. ولا ينافيه الاقتصار في جملة من النصوص على الأكل والشرب بعد عدم ظهورها في الحصر.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن إطلاق النهي ينصرف للاستعمال الظاهر من الإناء الذي يعدّ له، وهو خصوص الأكل والشرب، فيكون الإطلاق المذكور مطابقاً لنصوص النهي عن الأكل والشرب.

فيندفع بأن ما يعدّ له الإناء عرفاً ليس هو خصوص الأكل والشرب، بل لا إشكال في عمومه لمثل الوضوء والغسل والعجن ونحوها، فإنها من الاستعمالات التي تشيع الحاجة إليها، وتؤدى بالإناء، من قديم الزمان وحين صدور النصوص، فلا وجه مع ذلك لانصرافها لخصوص الأكل والشرب.

ص: 414

ومثله في الإشكال ما ذكره (قدس سره) من قصور موثق موسى بن بكر المتقدم ونحوه مما تضمن أن أواني الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون عن غير الأكل والشرب، لدعوى: أن المتاع هو الذي يتمتع به، والتمتع في كل شيء بحسبه، وبالإناء إنما يكون بالأكل والشرب به.

لإندفاعه بأن ذلك لا يناسب شيوع استعمال الإناء في الوجوه الأخرى، وكونها مما يطلب منه نوعاً.

نعم قد يشكل الاستدلال بما تضمن ذلك تارة: بعدم ظهوره في الحرمة، كما سبق، لعدم وضوح دليل على حرمة التمتع بمتاعهم. غاية الأمر أنه ليس من شأن المؤمن ذلك، وهو أعم من الحرمة. وأخرى: بأن مفاده مبغوضية جعل أواني الذهب والفضة متاعاً وأثاثاً بإعدادها للانتفاع، لا مبغوضية التمتع بها واستعمالها فعلاً.

اللهم إلا أن يدفع الأول بأن صلوح مفاد الموثق للكراهة والحرمة في نفسه لا ينافي في حمله على الحرمة بقرينة نصوص النهي والإجماع على الحرمة، حيث يبعد جداً اختلاف موضوعه عن موضوعها، بل المستفاد عرفاً كونه شارحاً لها، ومبيناً لموضوعها، كما أنها شارحة للحكم فيه ومبينة له.

على أن من القريب جداً سوق المضمون المذكور للتنفير عن الأواني المذكورة رأساً، لبيان أن من يتخذها ليس من الموقنين والمؤمنين، لا بضميمة النهي عن التشبه بهم ليدعى عدم الدليل على عموم حرمة التشبه بهم والتمتع بمتاعهم. فتأمل جيداً.

ويندفع الثاني بأن المناسبات الارتكازية قاضية بأن مبغوضية جعل الأواني المذكورة متاعاً، وإعدادها للانتفاع، إنما هي لمبغوضية الانتفاع الفعلي بها باستعمالها فيما تعد له. وبعبارة أخرى: المستفاد عرفاً كون النهي عن اتخاذها متاعاً للكناية عن النهي عن فعلية الانتفاع بها. ومن ثم كان من القريب نهوض الموثق بالاستدلال على العموم المدعى، وكونه عاضداً لإطلاق النهي عن الأواني المذكورة الذي تضمنته النصوص الأول.

ص: 415

(416)ولا يحرم نفس المأكول والمشروب (1).

(1) قطعاً، وفاقاً للأكثر، كما في الجواهر، وفي المبسوط: «ومن أكل أو شرب في آنية ذهب أو فضة، فإنه يكون قد فعل محرماً، ولا يكون قد أكل محرماً إذا كان المأكول مباحاً، لأن النهي عن الأكل فيه لا يتعدى إلى المأكول»، ونحوه في المعتبر، وقريب منه في المهذب والذكرى.

وفي السرائر عن المفيد (قدس سره) في بعض كلامه الحكم بحرمة المأكول والمشروب، وفي الذكرى: «ويلوح من كلام أبي الصلاح». كما ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه نسب للسيد الطباطبائي (قدس سره).

وكيف كان فمن الظاهر - كما ذكره غير واحد - أنه بعد عدم تعلق الحرمة بالأعيان فلا يراد بحرمة المأكول إلا حرمة أكله. غايته أن حرمة أكل الشيء أو شربه تارة: تكون ذاتية بالعنوان الأولي، كحرمة أكل الميتة وشرب الخمر. وأخرى: تكون عرضية وبالعنوان الثانوي، كحرمة أكل المغصوب والمضر وشربهما.

وحينئذ قد يقال: إن كان المراد بحرمة المأكول والمشروب حرمتهما ذاتاً فلا ريب في بطلانه، بل لا يظن بأحد البناء على ذلك، وإن كان المراد حرمتهما عرضاً فلا ينبغي الإشكال فيه بعد دلالة النصوص عليه، بل كونه المتيقن منها.

قال سيدنا المصنف (قدس سره) بعد ذكر وجهي الحرمة المتقدمين: «والحرمة في المقام من قبيل الثاني، كما هو ظاهر. وقد يوهم كلام المفيد أنه من الأول. ولكنه غير مراد له قطعاً». ومن ثم قد يدعى أن النزاع في المقام لفظي، ولا يترتب عليه أثر عملي.

لكن الذي يظهر بملاحظة كلماتهم أن هنا كلاماً آخر، وهو أن تحريم الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة هل يرجع إلى تحريم الازدراد الذي يتحقق به الأكل والشرب، والذي هو متأخر عن تناول الطعام من الإناء، أو إلى حرمة تناول الطعام والشراب من الإناء للأكل والشرب الذي يتحقق به استعمال الإناء والانتفاع به، من

ص: 416

دون أن يحرم الازدراد والأكل والشرب المترتبين على ذلك.

وعلى الأول يتعين حرمة المأكول والمشروب التي سبق أنه لا يراد بهما إلا حرمة أكله وشربه، غايته أنه بعنوان ثانوي متقوم بإضافة الأكل للإناء الخاص، نظير حرمة أكل المغصوب وشربه، الثابتة بعنوان ثانوي منتزع من نحو إضافة المأكول والمشروب للمغصوب منه ومقارنة الأكل والشرب لعدم طيبة نفسه.

ولعله إليه يرجع ما سبق عن المفيد (قدس سره) وغيره، وفي الحدائق أنه يمكن توجيهه به، بل حاول حمل النصوص عليه وتقريبه في نفسه. وهو الذي أصرّ عليه سيدنا المصنف (قدس سره) وجرى عليه غيره.

وعلى الثاني يتعين عدم حرمة المأكول والمشروب، بل حرمة تناولهما من الإناء لا غير، نظير حرمة الأكل والشرب من الإناء المغصوب التي لا يراد بها إلا حرمة التصرف في الإناء بالأكل والشرب منه، من دون أن يحرم الأكل والشرب المترتبان على ذلك. ولعله إليه يرجع ما تقدم من المبسوط والمعتبر، وفي الحدائق أنه المفهوم من كلام جملة منهم، بل نسبه في الجواهر لظاهر الأصحاب.

هذا والظاهر أن ما تضمن من النصوص النهي عن أواني الذهب والفضة، وأنها متاع الذين لا يوقنون، لا ينهض بإثبات حرمة الأكل والشرب المتأخرين عن تناول المأكول والمشروب، لخروجهما عن الاستعمال المتعلق بالإناء، بل يختص استعمال الإناء والانتفاع الظاهر منه إما بوضع المأكول والمشروب وغيرهما في الإناء فقط، وإما بالأعم منه ومن تناولها منه، كما هو الأظهر، المطابق للمرتكزات العرفية، دون ما يترتب على ذلك من وجوه الاستعمال كالأكل والشرب والغسل وغيرها. ولذا كان المشهور عدم بطلان الوضوء والغسل من إناء الذهب والفضة.

وأما ما في الجواهر من عموم الاستعمال الذي يعدّ له الإناء عرفاً لهما لسائر ما يترتب على التناول من الوضوء والغسل وغيرهما، حتى أنه قرب بطلان الوضوء والغسل من الآنية المذكورة، وفاقاً للسيد الطباطبائي وكشف الغطاء. فهو ممنوع، بل

ص: 417

غريب جداً مع وضوح عدم تعلق ذلك بالإناء بوجه.

وأما ما تضمن من النصوص النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، فإن استفيد منه النهي عنهما بما أنهما استعمال للإناء وانتفاع به، فهو راجع لمفاد النصوص الأول، ومن صغرياته، وإن استفيد منه النهي عنهما بعنوانهما، وبما انهما أكل وشرب مترتبين على تناول الطعام والشراب من الإناء المذكور رجع ذلك إلى الوجه الأول الذي سبق أن مقتضاه حرمة المأكول والمشروب بالعنوان الثانوي.

وقد أصرّ سيدنا المصنف (قدس سره) على الثاني، وسبقه إليه في الحدائق في توجيه ما سبق عن المفيد (قدس سره). وكأنه للجمود على أخذ عنوان الأكل والشرب متعلقاًً للنهي في هذه الطائفة، حيث يستفاد منه حرمة الأكل والشرب المقيدين بالخصوصية المذكورة.

ومن ثم ذهب إلى اختلاف الأكل والشرب عن غيرهما من أنحاء الاستعمال، فالمحرم في سائر الاستعمالات هو وضع الشيء في الإناء وتناوله منه دون ما يترتب عليه من استعمالاته، كالغسل والتدهين ونحوهما. أما في الأكل والشرب فالمحرم أمران تناول المطعوم والمشروب من الإناء للطائفة الأولى من النصوص، والأكل والمشرب المترتبين على ذلك للطائفة الثانية منها. والى ذلك جنح صاحب الحدائق.

أما صاحب الجواهر فقد زاد على ذلك، ولم يخص الأمر بالأكل والشرب، بل جعل ظهور نصوص النهي عن الأكل والشرب في عموم التحريم للأكل والشرب، المترتبين على تناول الطعام والشراب من الإناء، قرينة مؤكدة لما سبق منه من عموم استعمال الإناء - المستفاد تحريمه من نصوص النهي عن أواني الذهب والفضة - للتصرف المترتب على تناول الشيء من الإناء والمتأخر عنه، فهو قد أرجع النصوص بعضها إلى بعض، ولم يفرق بين الطائفتين في عموم المفاد وخصوصه، بل حكم بعمومها معاً.

أقول: إرجاع النصوص بعضها إلى بعض وجعل إحدى الطائفتين قرينة الآخر

ص: 418

هو الأنسب في المقام، لبعد التفكيك بينها جداً، بعد ورودها في مساق واحد للتنفير عن أواني الذهب والفضة. كما أنه حيث سبق ظهور نصوص النهي عن الأواني المذكورة في حرمة استعمالها بوضع الشيء فيها وتناوله منها، دون ما يترتب على ذلك من الاستعمالات، فالظاهر عدم نهوض نصوص النهي عن الأكل والشرب في الأواني المذكورة بتحريم ما زاد على ذلك. لأن النهي فيها وإن كان عن الأكل والشرب، إلا أنه ينصرف إلى النهي عن القيد، وبالنهي عن منشأ انتزاعه، وهو تناول المأكول والمشروب من الإناء مقدمة للأكل والشرب، نظير النهي عن الأكل والشرب في الآنية المغصوبة.

ونظير ما لو قيل: لا تزر الإمام الحسين عن طريق بغداد، أو راكباً على حمار، حيث يستفاد منه عرفاً مبغوضية سلوك الطريق المذكور، أو ركوب الحمار، مقدمة للزيارة، لا مبغوضية الزيارة المترتبة على ذلك.

ونظير ما لو قيل: لا تذهب للنجف الأشرف لزيارة زيد، حيث يستفاد منه عرفاً مبغوضية الغاية، وهي الزيارة، لا مبغوضية الذهاب للنجف الأشرف مقدمة للزيارة، الذي هو سابق عليها.

ولذا يصعب جداً البناء على حرمة الأكل والشرب والزيارة لو حصلت التوبة بعد تناول الطعام والشراب من الإناء وبعد الوصول لحرم الإمام الحسين (عليه السلام). وقد صرح في الذكرى بجواز الأكل بعد التوبة.

بخلاف ما لو حصلت التوبة بعد دخول النجف قبل زيارة زيد، حيث يصعب البناء على جواز زيارة زيد، لدعوى: أن المحرم قد حصل - وهو دخول النجف مقدمة للزيارة - من دون أن تحرم الزيارة. غاية الأمر أنها توجب كون الدخول للنجف الذي قد حصل قد وقع على الوجه الحرام، ولا ضير في ذلك، لأن المعصية إنما هي بفعل الحرام، لا بفعل ما يوجب كون ما وقع حراماً. فإن ذلك كله يحتاج إلى عناية خاصة في البيان لا يقتضيها الإطلاق.

ص: 419

ولاسيما بعد اعتضاد ذلك بنصوص النهي عن آنية الذهب والفضة، التي عرفت ظهورها في اقتصار الحرمة على استعمال الإناء غير الشامل للتصرف المترتب على تناول المأكول والمشروب منه، كما عرفت صعوبة التفكيك بين الطائفتين في المفاد.

ونظيره في الأمثلة المتقدمة ما لو ورد أيضاً إطلاق النهي عن سلوك طريق بغداد، أو ركوب الحمار في السفر، أو زيارة زيد. حيث لا يتوقف العرف في أن النهي عن زيارة الحسين (عليه السلام) أو عن دخول النجف الأشرف بالوجه المتقدم من صغريات الإطلاق المذكور.

هذا وقد يدعى منافاة ذلك النبوي المروي في الخلاف: «من شرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ، ونحوه عن المجازات النبوية وعوالي اللآلي. لظهوره في حرمة نفس المشروب، وأنه يغلي ويصوت في الجوف كصوت النار.

()()1()()2

لكنه - مع إرساله - إنما يقتضي كون ذلك عقوبة الشارب في آنية الفضة، من دون أن يتضمن تحديد المحرم الذي هو منشأ استحقاق العقاب المذكور، وأنه تناول الشراب من الإناء أو شربه بعد تناوله أو هما معاً.

ومن هنا كان ما تقدم من المبسوط والمعتبر والذكرى من عدم حرمة المأكول والمشروب هو الأقوى والأنسب بمفاد النصوص. ومرجعه إلى أن تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة كتحريم الأكل والشرب في الإناء المغصوب، لا كتحريم أكل وشرب الطعام والشراب المغصوبين.

ثم أن الأثر للنزاع المذكور يظهر في الإفطار في نهار شهر رمضان بالأكل والشرب من آنية الذهب والفضة، حيث إنه بناء على حرمة المأكول والمشروب يتعين ثبوت كفارة الجمع، بناء على ما هو الظاهر من عموم الحرام للحرام بالعنوان الثانوي.

********

ص: 420

(1)

الخلاف ج: 2 ص: 90 المسألة: 104.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 4، 7.

(421)والأحوط استحباباً عدم التزيين بها (1).

أما بناء على عدم حرمتهما فلا تثبت الكفارة المذكورة.

(1) فقد يدعى تحريمه، لأنه نحو من الاستعمال، كما قد يظهر من الجواهر، قال: «كما يشهد لذلك استثناء بعضهم أو شبهه اتخاذها للمشاهد والمساجد من حرمة الاستعمال».

لكنه في حيز المنع أولاً: لعدم وضوح صدق الاستعمال بذلك، لظهور أن الاستعمال مشتق من العمل بها، وليس وضعها للتزيين عملاً بها، بل تعطيلاً لها. ومن ثم كان ظاهر القواعد وجامع المقاصد أو صريحهما خروجه عن الاستعمال.

وثانياً: لأن المحرم ليس مطلق الاستعمال، حتى مثل تثقيلها للأوراق، أو جعلها حاجزاً دون انفتاح الباب، أو حفر الأرض بها، بل هو العمل الذي يعد الإناء له عرفاً، وليس منه التزيين.

ومثله ما قد يدعى من أنه مقتضى إطلاق ما تضمن النهي عن اتخاذها متاعاً، كموثق موسى بن بكر وغيره. لاندفاعه بأن المتاع هو الأمر الذي يتمتع به وينتفع باستعماله، نظير الأثاث، ولا يشمل التزيين، كما يناسبه قوله تعالى: "ابتغاء حلية أو متاع".

()()1

هذا ويظهر من القواعد ونهاية الأحكام وجامع المقاصد والروض ابتناء حرمة التزيين على تحريم الاقتناء لغير الاستعمال الذي يأتي الكلام فيه.

كما أنه بناء على حرمة التزيين بها فلا يفرق فيه بين المساجد والمشاهد وغيرها، كما في مجمع البرهان. لعموم الأدلة التي سيقت له.

ودعوى: قيام السيرة على تزيين المساجد والمشاهد، وأن فيه تعظيماً لشعائر الله تعالى.

********

ص: 421

(1)

سورة الرعد، الآية: 17.

(422)وكذا اقتناؤها (1)

ممنوعة. فإن السيرة إنما هي على وضع قناديل الذهب والفضة، وفي صدق الإناء عليها إشكال أو منع، كما يأتي. مضافاً إلى ما في الجواهر من حدوث السيرة المذكورة.

وتعظيم شعائر الله تعالى لما كان مستحباً فالاستحباب لا يزاحم الحرمة مع الانحصار، فضلاً عن عدمه. وقد يرجع إلى ذلك ما في الجواهر من استغناء تعظيم شعائر الله تعالى بمحللاته عن محرماته.

(1) فقد منع منه في المبسوط والمعتبر والقواعد ونهاية الأحكام وجامع المقاصد والروض وعن غيرها، وفي المدارك والحدائق وعن الكفاية أنه المشهور، وعن مجمع البرهان أنه مذهب الأكثر، وفي الجواهر: «وفاقاً للمشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً، بل لا أجد فيه خلافاً إلا من مختلف الفاضل، واستحسنه بعض متأخري المتأخرين. بل قد يظهر منه نفسه أنه لا خلاف عندنا في المسألة، بل هو مخصوص بالشافعي أو أحد قوليه».

وكيف كان فقد يستدل عليه تارة: بأنه مقتضى إطلاق النهي عنها في النصوص كما في المعتبر وظاهر نهاية الأحكام، حيث يتعين حمله على أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة، ولا ريب أن مطلق الاتخاذ أقرب من الاستعمال، لأعميته منه، كما في الجواهر، أو لشمول إطلاق النهي للاتخاذ والاستعمال، كما في الحدائق.

وأخرى: بأن مقتضى النهي كراهة وجودها في الخارج المقتضي لمبغوضية إحداثها وإبقائها. بل يظهر لمن يسبر النصوص إن لم يقطع به أن مراد الشارع هو النهي عن وجودها، كما في الجواهر.

وثالثة: بأنه مقتضى إطلاق ما تضمن أنها متاع الذين لا يوقنون، كما في المعتبر أيضاً. وفي الذكرى أن فيه إيماء لذلك.

ص: 422

ورابعة: بأنه مقتضى التعليل في النبوي بأنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة.

()()1

وخامسة: بأن حرمة استعمالها تستلزم حرمة اقتنائها على هيئة الاستعمال كالطنبور، كما في المنتهى ونهاية الأحكام.

وسادسة: بأن فيه تعطيلاً للمال، فيكون سرفاً، لعدم الانتفاع به، كما في المعتبر أيضاً. وفي الذكرى: «لما فيه من السرف وتعطيل الإنفاق».

وسابعة: بأنه تضييع للمال المنهي عنه، كما في المبسوط.

لكن الكل لا ينهض بالاستدلال. لاندفاع الأولين بما سبق من ظهور إطلاق النهي في النهي عن الاستعمال الظاهر الذي يعد له الإناء عرفاً. ومثله الثالث كما يظهر مما تقدم في التزيين.

وكذا الرابع. ولاسيما مع وروده تعليلاً للنهي عن الشرب بآنية الذهب والفضة ولبس الحرير والديباج، مع وضوح عدم حرمة اقتناء الحرير والديباج من دون لبس. على أنه لم يرو مسنداً من طرقنا.

والخامس بمنع الملازمة، ومنع القياس والمقيس عليه.

والسادس بأن تعطيل المال ليس سرفاً ولا محرماً، إذ لا إشكال في جواز تعطيل الدراهم والدنانير وإن وجبت الزكاة فيها. وليس السرف إلا الإجحاف بالمال وإفساده بإتلافه وإنفاقه في الوجوه غير العقلائية، كما تقدم بعض الكلام فيه في تعداد الكبائر من مباحث الاجتهاد والتقليد.

ومنه يظهر وهن ما في نهاية الأحكام من أن تعطيل المال لا يناسب إتلافه المنهي عنه. إذ لا موقع للاستدلال المذكور مع العلم بعدم حرمة تعطيل المال. مع أنه بالقياس الظني أشبه.

والسابع بمنع الصغرى، فإن تضييع المال - لو حرم على إطلاقه - إنما يكون

********

ص: 423

(1)

مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 42 من أبواب النجاسات حديث: 8، وكنز العمال ج: 8 ص: 16 رقم: 362.

وبيعها وشراؤها وصياغتها وأخذ الأجرة عليها (1).

بالتفريط والسرف فيه، لا بتعطيله واقتنائه من دون انتفاع به فيما يعدّ له.

وأما ما في الجواهر من انجبار ضعف الوجوه المستدل بها بالشهرة المتقدمة. فهو كما ترى! إذ غاية ما يمكن دعواه في أمثال المقام أن الشهرة قد تبتني على فهم الأصحاب الحكم من النصوص بسبب إطلاعهم على ما يتمم دلالتها من القرائن وإن خفيت علينا، ولا مجال لذلك في المقام بعد استدلال الشيخ في المبسوط الذي هو أول من حكي عنه التصريح بالحكم بما تقدم مما هو أجنبي عن مفاد النصوص. ومن ثم لا مخرج عن مقتضى الأصل وهو الحل، كما ذهب إليه في المختلف واستحسنه في المدارك وغيرها.

(1) هذا كله مبني على حرمة اقتنائها مطلقاً الذي عرفت المنع منه.

نعم إذا انحصر الغرض الظاهر من هيئتها بالحرام، وهو الاستعمال المعهود

- نظير انحصار الغرض الظاهر من آلات القمار باللعب بها - أشكلت صياغتها.

بل يحرم بيعها وشراؤها إذا كان لهيئتها دخل فيهما. كما يحرم ثمنها وأخذ الأجرة على صياغتها. ولعله عليه يبتني ما في الذكرى من عدم ضمان كاسرها الأرش، لأنه لا حرمة لها.

لكن ذلك قد يتم في العهود السابقة، ولذا سبق انصراف إطلاق النهي لغير التزيين، أما في عصورنا فبعد ظهور فائدة التزيين - المحللة يتعين جواز صياغتها وأخذ الأجرة عليها وبيعها وشرائها، وحرمة هيئتها، بحيث تكون مضمونة. إلا فيما لا يصلح للتزيين منها.

ودعوى: أنه إذا صار التزيين من فوائدها الظاهرة المطلوبة منها عرفاً دخل في إطلاق النهي عنها، فيحرم الآن، وإن لم يحرم سابقاً.

مدفوعة بأن إطلاق النهي إنما ينصرف للمنافع الظاهرة حين صدوره، دون

ص: 424

(425)والأقوى الجواز في جميعها (1).

(مسألة 43): الظاهر توقف صدق الآنية (2) على انفصال المظروف

المنافع المتجددة بعد ذلك، لأن ظهور المنفعة من سنخ القرينة المحيطة بالكلام الصالحة لبيان أن المراد منه تلك المنفعة، وهي تختص بما هو حاصل حين صدور الكلام. نعم لو كان ظهور المنفعة موضوعاً للخطاب بنحو القضية الحقيقية، كما لو قيل: تحرم كل منفعة للإناء تكون هي الظاهرة والمطلوبة منه عرفاً. اتجه تحريم المنفعة التي يتجدد ظهورها، وتحليل المنفعة التي كانت ظاهرة حين صدور الكلام إذا هجرت بعد ذلك، بحيث صارت لا تعد من منافع الإناء عرفاً.

(1) كما يظهر مما سبق عند التعرض لكل منها.

(2) لا يخفى أن لفظ الإناء والآنية والأواني لا تستعمل في العرف العام في زماننا، وإنما قد تستعمل في أعراف الخاصة ممن لهم صبغة ثقافة وإطلاع على استعمال أهل اللغة والعرف السابق. وهم يستعملونها فيما يناسب المعنى الذي يراد من (الماعون) عند العامة وما يلحق به عندهم، كالكأس بحيث يتقاربان مفهوماً ومصداقاً. وذلك إن لم يكف في معرفة مفهوم الإناء وحدوده فلا أقل من كونه المتيقن منه، بحيث يشك في صدق الإناء في غير مورده، فيكون المرجع فيه البراءة.

كما أن الإناء بهذا المعنى يختص بما من شأنه أن يكون ظرفاً للمأكول والمشروب، دون ما يختص بغيرهما، فهو من شؤون الأكل والشرب.

وأما الرجوع للغويين في تحديد الإناء فلا مجال له، لعدم ثبوت حجية قولهم كما حققناه في محله من الأصول، ولأنهم في المقام بين من أهمل تعريفه، لظهور معناه عرفاً، وبين من فسره بالوعاء. مع العلم بأنه من التفسير بالأعم، إذ لا ريب في صدق الوعاء على مثل القربة والصندوق والسفط وغيرها مما لا يصدق عليه الإناء.

لكن يظهر من الجواهر لزوم العمل على التفسير المذكور، واجتناب الوعاء على

ص: 425

عمومه، إلا في مورد يعلم بعدم صدق الإناء عليه.

وهو غير ظاهر الوجه، إذ بعد ثبوت خطأ التفسير المذكور، ولو في خصوص بعض الموارد، لا وجه لحجيته في مورد الشك. وليس هو من سنخ العام الحجة في غير مورد ثبوت التخصيص.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من لزوم الرجوع في تحديده إلى صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): «سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضة؟ قال: نعم، إنما يكره استعمال ما يشرب به». بدعوى: أن مقتضاه اختصاص الإناء بما يكون قابلاً لأن يشرب به.

()()1

لاندفاعه - مضافاً إلى أن مقتضاه بيان موضوع الحرمة، لا شرح مفهوم الإناء وتحديده الذي هو مورد الكلام - بأن مقتضاه الاقتصار في الإناء الذي يحرم استعماله على مثل الكوز الصغير الذي يشرب به بلا واسطة، دون ما يشرب منه بالواسطة، فضلاً عما يؤكل منه مطلقاً. لظهور الباء فيه في الآلة والاستعانة، ومن المقطوع به عدم اختصاص الإناء بذلك مفهوماً ولا مصداقاً. كما لا يختص موضوع الحرمة به.

وهل يمكن حمل أدلة النهي عن الأكل في آنية الذهب والفضة على خصوص الأكل في الإناء المذكور، من دون أن يحرم الأكل في الأواني المعدة للمأكول، كالصحون المنبسطة؟!.

على أن الصحيح وإن لم ينص فيه على جهة الاستعمال المحرم، إلا أن توصيف متعلق الاستعمال فيه بأنه يشرب به ظاهر في أن الاستعمال المحرم هو الشرب فقط، وذلك لا يجتمع مع نصوص النهي عن الأكل في إناء الذهب والفضة.

ومن هنا يتعين حمل الصحيح على الإشارة لموضوع التحريم إجمالاً، من دون تحديد له. فلا ينهض بشرح موضوع التحريم، فضلاً عن مفهوم الإناء.

********

ص: 426

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 67 من أبواب النجاسات حديث: 5.

عن الظرف (1) وكونها معدة لأن يحرز فيها المأكول أو المشروب أو نحوهما فرأس (الغرشة) ورأس (الشطب) وقراب السيف والخنجر

(1) فعن كشف الغطاء أن المعتبر في الآنية الظرفية، وأن يكون المظروف معرضاً للرفع والوضع. وكأن المراد بذلك أن يكون الظرف مما يتعارف وضع الشيء فيه ثم أخذه منه، في مقابل ما يوضع الشيء فيه ثم لا يخرج منه، كموضع فص الخاتم، وما يلبس به طرف العصا والرمح من الحديد، والجرس الذي في جوفه شيء للتصويت ونحوها.

وزاد على ذلك سيدنا المصنف (قدس سره) فاعتبر كون المظروف من سنخ المأكول والمشروب ونحوها كالطهور، دون مثل رأس الغرشة والشطب مما يوضع فيه التبوغ، والقراب الذي يوضع فيه السيف، وظرف السيكاير الذي تُقدَّم فيه أو تحمل فيه.

بل الظاهر أنه لابد مع ذلك من ملاحظة كيفية الظرف وكيفية استعمال المظروف فيه، بأن يكون من شأن الظرف وضع المظروف فيه ليستعمل بأخذه من الظرف، لا مع بقائه فيه وهو وجه آخر لخروج مثل رأس الغرشة والشطب.

وكذا إذا ابتنى وضع الشيء فيه على خزنه فيه وحرزه لا ليستعمل منه، كما في الصفائح المعدنية والسفط وظروف التعليب الشائعة في زماننا، ومخازن المياه الشائعة أيضاً، ونحوها.

على أن الظاهر أن القيود المذكورة ونحوها ليست دخيلة بمفهومها، لعدم الطريق لإحراز ذلك بعد عدم التحديد المفهومي الواضح للإناء، بل هي مناسبة خارجاً لمصاديق الإناء. والعمدة ما سبق، فإنه أقرب ما يتيسر لنا في تحديده، مع لزوم ملاحظة المصاديق وعدم إغفالها.

ومن ذلك يشكل شموله لمثل زجاجة المشروبات الغازية التي تعارف استعمالها والشرب منها في عصورنا... إلى غير ذلك.

ص: 427

(428)والسكين (1) (وقاب) الساعة المتداولة في هذا العصر، ومحل فص الخاتم (2)، وبيت المرآة (3)، وملعقة الشاي (4) وأمثالها خارج عن الآنية فلا بأس بها. ولا يبعد ذلك أيضاً في ظرف الغالية والمعجون والتتن والترياك والبن (5).

(مسألة 44): لا فرق في حكم الآنية بين الصغيرة والكبيرة (6)، وبين ما كان على هيئة الأواني المتعارفة من النحاس والحديد وغيره (7).

(1) الظاهر في وجه خروجه - مضافاً إلى ما سبق من كون المظروف مما ليس من شأن الإناء أن يكون ظرفاً له - أنه يعد من توابع المظروف، لا ظرفاً له عرفاً.

(2) يكفى في خروجه - مضافاً إلى ما سبق - السيرة المتصلة بعصور المعصومين (عليهم السلام)

من صياغة الخواتيم من الذهب والفضة ووضع الفص فيها.

(3) يجري فيها ما سبق في قراب السيف ونحوه.

(4) بل جميع الملاعق، لكونها عرفاً آلة للاستعمال، لا ظرفاً للمستعمل من المأكول والمشروب ونحوهما.

(5) لا يبعد أن يكون مراده ما يسمى في عرفنا بالدلة والقمقم وفي صدق الإناء عليهما إشكال. ومثله الإبريق وظروف إعداد الشاي ونحوه.

نعم الظاهر صدق الإناء على الفنجان، والاستكان وظرفه الذي يوضع عليه ونحوها.

(6) للإطلاق. إلا أن يخرج بالكبر أو الصغر عن قابلية الاستعمال المعهود من الإناء، ويكون من سنخ المخازن، كالحب ومخازن المياه، أو يتمحض في التزيين، فيخرج عن موضوع الحرمة.

(7) لعدم الإشكال في عدم توقف صدق الإناء على الهيئة المذكورة، التي هي أقرب للبساطة، وعمومه للهيئات المعقدة التي تعارفت في عصورنا بسبب تطور

ص: 428

(429)(429) (مسألة 45): لا بأس بما يصنع بيتاً للتعويذ من الذهب والفضة، كحرز الجواد "وغيره (1).

الصناعة.

بقي شيء: وهو أن الظاهر عدم الفرق في حرمة الأكل والشرب من الإناء بين الأكل والشرب بالواسطة وبدونها، لما هو المعلوم من تعارف الأكل بالواسطة، بل هو المعهود في الإنسان، فلا مجال لحمل النصوص الناهية عن الأكل والشرب في الآنية المذكور على غيره.

نعم المتيقن من مدلول النصوص المذكورة الواسطة الواحدة كاليد والملعقة ونحوها مما يتناول به الطعام للفم رأساً. أما إذا أخذ الطعام والشراب من الإناء الكبير الذي هو ذهب أو فضة ووضع في الصغير من غيرهما، وأكل من الصغير - كما يتعارف في عصورنا كثيراً - فنصوص الأكل والشرب قاصرة عنه.

ومثله القدر من الذهب والفضة إذا صب منه الطعام أو الشراب في إناء من غيرهما، لأن موضوع النصوص هو الأكل والشرب فيهما، وهو غير صادق في الفرض قطعاً.

بل الحرمة في أخذ الطعام من مثل ذلك تبتني على عموم حرمة الاستعمال الظاهر، الذي سبق أنه المستفاد من إطلاق النهي عن إناء الذهب والفضة. إذ لا إشكال في كون الاستعمال المذكور من الاستعمال الظاهر الذي يعد له الآنية المذكورة، وإن لم يكن أكلاً وشرباً.

(1) كما صرح به غير واحد، بل لا إشكال فيه بعد خروجه عن الإناء عرفاً. ولصحيح منصور عن أبي عبد الله (عليه السلام): «سألته عن التعويذ يعلق على الحائض، فقال: نعم إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة حديد».

()()1

********

ص: 429

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 67 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(430) (مسألة 46): يكره استعمال القدح المفضض (1).

نعم في صحيح إسماعيل بن بزيع: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن آنية الذهب والفضة فكرههما. فقلت: قد روى بعض أصحابنا أنه كان لأبي الحسن مرآة ملبسة بالفضة. فقال: لا، والحمد لله، إنما كانت لها حلقة من فضة. وهي عندي. ثم قال: إن العباس حين عذر عمل له قضيب ملبس من فضة من نحو ما يعمل للصبيان تكون فضته نحواً من عشرة دراهم، فأمر به أبو الحسن (عليه السلام) فكسر». وقد يظهر منه المنع من كل ما كان مشتملاً على شيء كهيئة الوعاء له، مثل ما تلبس به المرآة والقضيب، لورود إنكار وقوع ذلك في سياق كراهة آنية الذهب والفضة.

()()(1)

لكن - لو تم ذلك - لابد من حمله على الكراهة، ولو بلحاظ العناوين الثانوية، مثل عدم مناسبة مقام الإمام (عليه السلام) لبعض مظاهر الترف، جمعاً مع مثل صحيح منصور وصحيح علي بن جعفر المتقدم المتضمن أنه إنما يكره ما يشرب به، فإنه وإن تقدم حمله على الإشارة لموضوع التحريم إجمالاً، إلا أنه يصعب حمله على ما يعمّ ما تضمنه صحيح ابن بزيع جداً، بل يكون قرينة على حمل ما تضمنه الصحيح المذكور على الكراهة.

ولاسيما أنه من البعيد جداً صنع القضيب الملبس من فضة في بيت الإمام (عليه السلام) مع كونه محرماً، فإن شيوعه بين عامة الناس مع حرمته تناسب ظهور الإنكار منهم (عليهم السلام)

له، بنحو لا يناسب صنعه في بيوتهم من بعض متعلقيهم.

(1) على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً. كذا في الجواهر وفي الحدائق أن عليه عامة المتأخرين ومتأخريهم. بل لم يعرف الخلاف فيه إلا مما تقدم من الخلاف من إلحاقه بإناء الذهب والفضة في الحكم بالكراهة التي تقدم حملها على التحريم أو على الأعم منه ومن الكراهة.

********

ص: 430

(1)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 65 من أبواب النجاسات حديث: 1.

وكيف كان فقد يستدل للتحريم بالنهي عنه في صحيح الحلبي المتقدم في أول الكلام في حكم الأواني. مضافاً إلى الحكم بكراهته في صحيحه الآخر المتقدم هناك أيضاً. وفي موثق بريد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنه كره الشرب في الفضة وفي القدح المفضض، وكذلك أن يدهن في مدهن مفضض، والمشطة كذلك» بناء على حمل الكراهة على الحرمة.

()()1

لكن لابد من الخروج عن ذلك - لو تم في نفسه - بصحيح عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام): «قال: لا بأس أن يشرب الرجل في القدح المفضض. واعزل فمك عن موضع الفضة» حيث يتعين لأجله حمل ما تقدم على الكراهة أو على النهي عن موضع الفضة.

()()2

وقد أضاف غير واحد لذلك ما عن الفقيه، حيث زاد في ذيل موثق بريد المتقدم: «فإن لم يجد بداً من الشرب في القدح المفضض عدل بفمه عن موضع الفضة». لظهوره في جواز الشرب من القدح المفضض. لكن المناسب لسياق الكلام كون الفقرة المذكورة من كلام الصدوق، لا من تتمة الموثق.

()()3

ومثله الاستدلال على الجواز أيضاً بما في صحيح معاوية بن وهب: «سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن القدح في ضبة من الفضة. قال: لا بأس. إلا أن تكره الفضة فينزعها» بدعوى أن ذا الضبة من المفضض كما في كشف اللثام والجواهر.

()()4

لكنه لا يخلو عن إشكال، حيث لا يبعد اختصاص المفضض بما تكون الفضة ثابتة فيه، كما يناسبه تفسيره في اللغة بالمرصع بالفضة أو المموه بها، وليست الضبة كذلك، بل مشعوبة في الإناء ملصقة به يسهل نزعها منه، كما قد يظهر من اللغويين، وهو صريح الصحيح المتقدم، وصحيح عمرو بن أبي المقدام: «رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) قد أتي بقدح من ماء فيه ضبة من فضة، فرأيته ينزعها بأسنانه». فالظاهر انحصار دليل الجواز بصحيح عبد الله بن سنان.

()()5

********

ص: 431

(1و2و3و4و5)

وسائل الشيعة ج: 2 باب: 66 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5، 3، 4، 6.

والأحوط عزل الفم عن موضع الفضة، بل لا يخلو وجوبه عن قوة (1). والله سبحانه العالم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) فقد صرح به الشيخ في المبسوط وجماعة كثيرة. وفي المدارك أن عليه عامة المتأخرين، وفي الحدائق أن عليه عامة المتأخرين ومتأخريهم، وعن الكفاية أنه المشهور. لظاهر الأمر به في صحيح الحلبي المتقدم وما تقدم عن الفقيه بناء على كونه من تتمة موثق بريد، وإن عرفت الإشكال في ذلك.

وظاهر الشرايع والقواعد التوقف فيه. بل قد يظهر من عدم التنبيه له في النافع البناء على عدم الوجوب، وقد صرح في المعتبر ومحكي الذخيرة بالاستحباب، واستحسنه في المدارك، وقواه شيخنا الأستاذ.

للأصل. ولصحيح معاوية بن وهب. لكن الأصل محكوم بصحيح الحلبي. وصحيح معاوية بن وهب قد عرفت أنه أجنبي عن محل الكلام، وأن المفضض غير ذي الضبة. على أن السكوت فيه عن الشرب من موضع الفضة لا ينهض بالخروج عن ظاهر الأمر في الصحيح. ومن ثم كان الأقوى الوجوب.

هذا وفي المدارك: «والأظهر أن الآنية المذهبة كالمفضضة في الحكم. بل هي أولى بالمنع» ونحوه في الجواهر.

والعمدة في وجه الإلحاق فهم عدم الخصوصية، لابتناء الحكم في الأواني على العموم للذهب والفضة. وهو وإن كان قريباً جداً، إلا أن في بلوغه مرتبة الاستدلال إشكال. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

انتهى الكلام في بحث الأواني خاتمة لكتاب الطهارة من كتابنا (مصباح المنهاج) شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) تأليف سيدنا الأعظم الأستاذ الجد آية الله العظمى مرجع الطائفة الأعلى (السيد محسن الطباطبائي الحكيم) (قدس سره).

وكان ذلك بقلم العبد الفقير إلى الله تعالى (محمد سعيد) نجل سماحة حجة

ص: 432

الإسلام والمسلمين آية الله (السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم) دامت بركاته. ليلة الثلاثاء الثامن عشر من شهر ذي القعدة الحرام، عام ألف وأربعمائة وثمانية عشر للهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلوات وأزكى التحيات في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف، على مشرفه أفضل الصلاة والسلام.

والحمد لله رب العالمين وله الشكر على ما أنعم. ومنه سبحانه نستمد العون والتأييد والتوفيق والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 433

ص: 434

فهرس التفصيلى

(5)الفصل الثاني5

(5)في كيفية سراية النجاسة إلى الملاقي5

(5)اشتراط الرطوبة في تحقق السراية5

(11)كيفية سراية النجاسة في المائعات11

(16)الكلام في المتنجس16

(33)حكم المتنجس بوسائط متعددة33

(35)طرق ثبوت النجاسة35

(37)حكم ما يؤخذ من أيدي الكفار من المائعات والجامدات37

(39)الفصل الثالث39

(39)في أحكام النجاسة. اعتبار طهارة بدن المصلي وتوابعه39

(43)حكم الطواف الواجب والمندوب43

(44)الكلام في غطاء المصلي إذا كان نجساً44

(44)اشتراط طهارة محل السجود44

(48)الكلام في حكم كل واحد من أطراف الشبهة المحصورة48

(60)حكم ما لو كان جاهلاً بالنجاسة60

(66)بقي في المقام أمران...: (الأول): حكم الصلاة مع الدم جهلاً إذا كان بقدر الدينار66

(66)(الثاني): حكم إصابة دم الحيض الثوب حتى مع عدم العم به66

(69)لو علم في أثناء الصلاة بوقوع بعض الصلاة في النجاسة69

ص: 435

(79)لو عرضت النجاسة في أثناء الصلاة79

(82)حكم ما لو صلى بالثواب النجس مع النسيان82

(91)إذا صلى مع نسيان نجاسة عرق الجنب91

(91)حكم ما لو طهر ثوبه وصلى ثم ظهر له أن النجاسة باقية91

(93)انحصار الثوب الساتر بالنجس93

(97)الكلام في الجمع بين الصلاة بالثوب النجس والصلاة عارياً احتياطاً97

(104)بقي في المقام أمران.. (الأول): وجوب إعادة الصلاة عارياً وعدمه104

(105)(الثاني): لزوم وقوع الصلاة عارياً قائماً أو قاعداً105

(105)إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين وجب الصلاة فيهما105

(107)إذا دار الأمر بين تطهير بدنه أوثوبه107

(109)جواز الانتفاع بالنجس فيما لا يشترط فيه الطهارة109

(114)حكم بيع الأعيان النجسة114

(119)حرمة تنجيس المساجد119

(127)إلحاق بناء المساجد وآلاتها بها127

(132)الكلام في وجوب المبادرة إلى تطهير المسجد132

(134)إذا توقف تطهير المسجد على تخريب جزء منه134

(135)إذا توقف تطهير المسجد على بذل المال135

(137)إذا توقف تطهير المسجد على تنجيس بعض منه137

(137)إذا لم يتمكن من تطهير المسجد هل يجب إعلام الغير مع احتمال حصول التطهير بإعلامه؟137

(140)حكم المسجد الذي صار خراباً140

(143)حكم المشاهد المشرفة والضرائح المقدسة143

(146)حكم ما إذا صار المسجد طريقاً146

ص: 436

(149)تتميم: فيما يعفى عنه في الصلاة149

(149)(الأول): فيما يعفى عنه في الصلاة دم الجروح والقروح إذا كان بقدر الدرهم البغلي149

(153)الكلام في اعتبار المشقة النوعية153

(158)الكلام في القيح المتنجس بالدم158

(160)إذا كانت الجروح والقروح متقاربة160

(162)الشك بدم الجرح أو القرح162

(163)(الثاني): فيما يعفى عنه في الصلاة الدم إذا كان في البدن واللباس على كلام فيه163

(169)بقي في المقام أمران.. (الأول): حكم الدم المتفرق إذا كان أكثر من الدرهم169

(173)(الثاني): إذا كان الدم المتفرق في ثياب متعددة173

(175)المراد من الدرهم البغلي وتحديد سعته175

(178)استثناء دم الحيض من العفو عن الدم178

(179)استثناء دم النفاس والاستحاضة من العفو عن الدم179

(181)استثناء دم نجس العين من العفو عن الدم181

(183)استثناء دم الميتة وغير مأكول اللحم من العفو عن الدم183

(185)عدم إلحاق المتنجس بالدم به185

(186)إذا تفشى الدم من أحد الجانبين إلى الآخر186

(188)إذا اختلط الدم بغيره من ماء أو قيح أو غيرهما188

(191)إذا تردد قدر الدم بين العفو وغيره191

(195)الكلام في وجوب الاختبار وعدمه195

(195)تحديد مقدار العفو وأنه يساوي أخمص الراحة195

(197)(الثالث): فيما يعفى عنه في الصلاة الملبوس الذي لا تتم الصلاة به197

(199)الكلام فيما إذا اتخذ اللباس من نجس العين199

(202)الكلام في المحمول المتخذ من نجس العين202

ص: 437

(204)الكلام في المتنجس إذا كان مما تتم به الصلاة204

(208)(الرابع): فيما يعفى عنه في الصلاة ثوب المربية والكلام فيه208

(213)الفصل الرابع: في المطهرات213

(213)(الأول): الماء213

(216)اعتبار انفصال ماء الغسالة في التطهير216

(220)الكلام في اعتبار العصر فيما يعصر220

(226)الكلام في طهارة باطن ما ينفد فيه الماء تبعاً للظاهر226

(231)كيفية تطهير الثوب المصبوغ بالصبغ المتنجس231

(233)الإشكال في كيفية تطهير العجين النجس233

(234)الكلام في المتنجس بالبول والتطهير منه مرتين234

(237)بقي في المقام أمور... (الأول): الاقتصار على الثوب والبدن وعدمه في التطهير مرتين237

(238)(الثاني): ظاهر النصوص التعدد لكل بول نجس238

(239)(الثالث): اعتبار الفصل بين الغسلتين لتحقق التعدد239

(246)تطهير الآنية المتنجسة بولوغ الكلب246

(255)إذا لطع الكلب بغير ولوغ هل هو بحكم الولوغ أم لا؟255

(258)اعتبار طهارة التراب قبل استعماله في التطهير258

(260)كيفية تطهير الإناء إذا شرب منه الخنزير260

(261)كيفية تطهير الإناء إذا مات فيه الجرذ261

(262)كيفية تطهير الإناء إذاتنجس بغير النجاسات المتقدمة262

(263)عد اعتبار العصر في التطهير بالماء المعتصم263

(264)عدم اعتبار التعدد في التطهير بالماء المعتصم264

(272)كيفية التطهير من نجاسة بول الصبي272

(273)المراد من الصبي273

(276)الكلام في إلحاق الأنثى بالصبي وعدمه276

ص: 438

(280)كيفية تطهير الإناء بالماء القليل280

(281)في كيفية تطهير أواني الخمر281

(283)اعتبار زوال عين النجاسة في التطهير283

(286)كيفية تطهير الأرض الصلبة286

(287)إذاجرى ماء الغسالة من الموضع النجس إلى ما اتصل به من المواضع الطاهرة287

(287)عدم اعتبار التوالي في تعدد الغسلات287

(289)كيفية تطهير الأواني الكبيرة المثبتة في الأرض289

(291)كيفية تطهير بعض الأطعمة291

(294)الكلام في الحلي التي يصوغها الكافر294

(296)المائعات المتنجسة296

(297)كيفية تطهير التنور المتنجس297

(297)(الثاني من المطهرات): الأرض وما تطهره من باطن القدم297

(307)اعتبار كون المطهر هو الأرض وعدمه307

(307)الكلام في المطهرية غير الأرض307

(309)كيفية التطهير بالأرض309

(309)كيفية التطهير باطن القدم309

(311)المراد من الأرض311

(314)الكلام في اعتبار جفاف الأرض314

(315)في إلحاق بعض الأمور بباطن القدم315

(317)(الثالث من المطهرات): الشمس ومطهريتها للأرض317

(317)إذا شك في طهارة الأرض317

(317)إذا كان في ظلمة ولا يدري أن ما تحته أرض أم غيرها317

(323)مطهرية الشمس لما لا ينقل323

(327)اشتراط زوال عين النجاسة في مطهرية الشمس327

(329)الكلام في طهارة الباطن تبعاً للظاهر329

(330)كيفية تطهير الأرض الجافة بالشمس330

ص: 439

(330)إذا تنجست الأرض بالبول وأشرقت الشمس عليها330

(331)الحصى والتراب والطين والأحجار والمسمار الثابت بحكم الأرض331

(332)(الرابع من المطهرات): الاستحالة إلى جسم آخر332

(334)الاستحالة إلى جسم آخر بالنار334

(337)الاستحالة إلى جسم آخر بغير النار337

(343)استحالة الشيء بخاراً ثم عرقاً343

(345)الكلام في بعض موارد الاستحالة345

(346)(الخامس من المطهرات): الانقلاب346

(347)بقي شيء. الكلام في تعميم الانقلاب لكل مسكر347

(348)عدم الفرق بين الانقلاب بنفسه أوبعلاج348

(353)لو تنجس الخمر بنجاسة خارجية قبل الانقلاب353

(356)الكلام في انقلاب العصير العنبي خلاً356

(359)(السادس من المطهرات): ذهاب الثلثين359

(362)(السابع من المطهرات): الانتقال362

(364)لو شك في جزئية المنتقل من المنتقل إليه364

(364)(الثامن من المطهرات): الإسلام364

(365)شمول الحكم لجميع أقسام الكفار حتى المرتد عن فطرة365

(368)تبعية أجزاء المرتد له في الطهارة368

(369)بقي في المقام أمران: (الأول): حكم الثياب التي باشرها الكافر برطوبة369

(370)(الثاني): لو كان بدن الكافر متنجساً بنجاسة خارجية370

(370)(التاسع من المطهرات): التبعية370

(376)تبعية أواني الخمر له إذا انقلبت خلاً376

(377)تبعية ثياب الميت التي يغسل فيها له إذا طهر بالتغسيل377

(378)تبعية يد الغاسل للميت إذا طهر بالتغسيل وكذا سائر آلات التغسيل378

(378)(العاشر من المطهرات): زوال عين النجاسة عن باطن الإنسان وبدن الحيوان378

ص: 440

(380)الكلام في ثبوت النجاسة لباطن الإنسان وبدن الحيوان380

(384)الكلام في سراية النجاسة إذا كانت الملاقاة في الباطن384

(385)(الحادي عشر من المطهرات): الغيبة385

(389)الكلام في عدم اعتبار العلم بالنجاسة في مطهرية الغيبة389

(390)(الثاني عشر من المطهرات): استبراء الحيوان الجلال390

(391)الكلام في مقامين: (الأول): فيما يصير به الحيوان جلالاً391

(393)(الثاني): في استبراء الجلال393

(395)فيما يخرج الحيوان عن الجل395

(399)قبول الحيوان الجلل للتذكية399

(401)تثبت الطهارة بالعلم والبينة401

(405)تثبت الطهارة بإخبار ذي اليد405

(411)خاتمة في حرمة استعمال الأواني411

(416)عدم حرمة نفس المأكول والمشروب416

(421)الكلام في التزين بالذهب والفضة421

(422)الكلام في اقتناء أواني الذهب والفضة422

(425)في تحديد معنى الآنية425

(428)عدم الفرق في الآنية بين الصغيرة والكبيرة428

(429)بقي شيء. حرمة الأكل بالآنية مع الواسطة429

(429)استعمال الذهب والفضة لبعض الأحراز429

(430)في استعمال الآنية المفضضة430

ص: 441

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.